أقلام فكرية

مقدمات لـ "فهم الفلسفة السياسية" (3): منظور تاريخي

علي رسول الربيعيعالم اليونان القديمة والعصور الوسطى

تناولت الفلسفة السياسية في اليونان القديمة كما تجسدت في فلسفة أفلاطون وأرسطو، مسألة الحياة الجيدة وكيف يمكن أن تُعاش في المجتمع. فقد سعى هؤلاء الفلاسفة إلى ربط وتجذير السياسة في الميتافيزيقيا في مواجهة مجموعة من البنى السياسية في أيامهم، وبعبارة أخرى، من أجل فهم  الجوهر الأساس للطبيعة البشرية والهدف أو الغرض من الحياة. وقد تم تناول هذا الأمر في وقت لاحق في سياق ديني، وفي أطار فكرة أن شكل الحكم الصحيح هو الذي عكس النظام الطبيعي نفسه وكما خلقه الله، مؤسساً لهرمية العصور الوسطى من الأرض الى السماء. لكن تحولاً حدث خلال عصر النهضة جراء النزاعات بين دول المدن الأيطالية متمثلا في مؤامرات الحياة السياسية. وقد كشف هذا التحول عن أن هناك مناسبات قد تسود فيها الحيلة الماكرة، وليس الطاعة الإلهية. ويشمل المفكرون هنا: أفلاطون وأرسطو وأوغسطين ومكيافيللي.

صعود الفردية

شهد القرنين السابع عشر والثامن عشر في أعقاب الإصلاحية المسيحية والحرب الأهلية الإنجليزية، تطوير نهج مختلف تماماً للسياسة. أصبحت رغبات الفرد في هذه الفترة ذات أهمية قصوى، وتم تبرير البنى السياسية على أساس عقد اجتماعي أو اتفاق بين الأفراد. وحصلت مناقشات كثيرة حول مسألة الحقوق والحريات، وحدث في تلك الفترة الثورة الفرنسية وانفصال المستعمرات الأمريكية عن السيطرة البريطانية. كما شهدت نهاية تلك الفترة صعود النفعية كفلسفة أخلاقية، مما أدى إلى الحكم على الأنظمة السياسية وفقاً لقدرتها على تحقيق أكبر فائدة لأكبر عدد من المواطنين. وأدى هذا إلى تطور الديمقراطية. فلم يعد السؤال يتعلق بالجوهر الأساسي للبشرية، بل حول أفضل طريقة لتنظيم مجتمعنا. وأبرز المفكرين في هذه الفترة هم: هوبز، لوك، روسو، هيوم، بورك وباين.

تطور النظم

تميل أنظمة التفكير العامة إلى خلق فلسفات سياسية كجزء من فهمها العام للواقع. على سبيل المثال، أنتج كانط مبادئ عقلانية للحكم على الصواب والخطأ، بغض النظر عن النتائج المتوقعة أو الميول أو الرغبات الفردية. وصاغ  مفهوم "الأمر المطلق" الشهير، والذي يعني التزام أخلاقي غير مشروط وهو ملزم في جميع الظروف ولا يعتمد على ميل الشخص أو غرضه. أي أن هناك شيئاً صحيحاً فقط إذا كان بإمكان المرء أن يتمنى أن يتبنى الجميع مبدأ العمل نفسه، وأن يعامل الناس كأهداف وليس فقط كوسائل، وأننا يجب أن نتصرف كما لو كان التشريع للمملكة التي يكون فيها كل فرد إنساناً حراً ومستقلاً – وكان لهذا تداعيات سياسية ضخمة. واستكشف هيجل فكرة أن المجتمع يتغير باستمرار في عملية جدلية، وقد أخذ ماركس هذه الفكرة وصاغ مفهومه "المادية الجدلية" الذي يأتي فيه التغيير السياسي عن طريق الصراع الطبقي. كما كان هناك تأثير لداروين وفكرة التطور من خلال الانتقاء الطبيعي، والهجوم على الديمقراطية من قبل نيتشه، الذي رأى أنها تدعم الضعيف على حساب القوي. وعلى الطرف الآخر، طوّر "ميل" تداعيات النفعية، ودافع عن القيم الليبرالية والحرية. وبحلول نهاية القرن التاسع عشر كان هناك مجموعة كبيرة من أنظمة التفكير السياسية. وإذا كان هناك أي شك في العلاقة بين الجانب العملي والفلسفة السياسية، فكّر في تأثير فلسفة ماركس على حياة ملايين الناس في القرن العشرين، أو تطوير الأفكار الديمقراطية قبل مائتي سنة. وأهم الفلاسفة في هذه الفترة هم: كانط ، هيجل ، ماركس ، ميل ونيتشه.

صراع الأيديولوجيات في القرن العشرين

إن الصدمات التي أصابت القرن العشرين تتعلق بصراع الأيديولوجيات السياسية التي لها جذور عميقة في الفلسفة السياسية. فقد كان هناك الاتساع الهائل للشيوعية وسقوط وتحدي الفاشية في إيطاليا وألمانيا، والنمو العالمي المطرد للديمقراطية، وركوبها على ظهر الاقتصاد الراسمالي. لقد مات الملايين في ذلك القرن المضطرب من أجل الأيديولوجيات السياسية. وخلال الكثير من ذلك الوقت كانت الفلسفة السياسية في حالة جمود (doldrums). وكذلك الأخلاق التي تعرضت لانتقادات بان الأحكام المعيارية (التي تقول أن هناك شيء صحيح أو خاطئ) لا معنىً لها، لأنه لا يمكن تبريرها على أساس الوقائع. وبالتالي، اسكشفت الفلسفة السياسية أصول البنى السياسية ومعنى المصطلحات الرئيسية، دون العمل والانطلاق من المبادئ الأولية المعيارية. وبالطبع، فإن هناك استثناءات، بما في ذلك تلك المذكورة أدناه والتي تتحدي الأيديولوجيات. ومن بين الفلاسفة البارزين في هذه الفترة هم: برلين، هايك وبوبر.

أواخر القرن العشرين وسيطرة الديمقراطية الليبرالية

كان هناك تراجع تدريجي في الاشتراكية والشيوعية في العقود الثلاث الأخيرة من القرن العشرين مقابل صعود التقليد الديمقراطي الليبرالي الذي أصبح في وضع الهيمنة. وانتعشت الفلسفة السياسية إلى حد كبير نتيجة عمل جون رولز الذي وضع نظرية في العدالة تطعن في  فرضيات الفلسفة النفعية وإعادة الحيوية والأهمية الى الفلسفة السياسية المعيارية. وشكّل صعود الحركة النسائية الى فلسفة وسياسات الماضي التي هيمن عليها الذكور، ومعها افتراضات معيارية بشأن الغرض من الحياة وما يشكل الإنصاف في المجتمع. كما دار نقاش حول نطاق أو مجال  "السياسية" للعلاقة بين الأفكار والسلطة، وكذلك طبيعة الحقوق الوجودية. كما جرت مناقشة بشأن الآثار الوجودية المترتبة على السياسة والحاجة إلى استكشاف أنماط جديدة للعمل والعيش. ويعتبر راولز، نوزك، دوركين، هابرماس، أرنديت، فوكو، أوكشتو Oakeshott، سارتر، وغورز Gorz من أهم فلاسفة هذه الفترة.

إن الفلسفة السياسية هي ليست نفس تاريخ الأفكار السياسية. فالتحقيق التاريخي يتطلب منك أن تجمع كل الأدلة وأن ترى كيف ترتبط الأشياء ببعضها البعض، ومن أثّر على الآخر. وتدور الفلسفة حول الأفكار. لذلك فمن المهم اختيار المفكرين وتبنّي أفكارهم بدلاً من محاولة تغطية كل ما قيل. لذلك فإن هذا المقال انتقائي من حيث المفكرين والحجج التي يتضمنها وإنه محاولة لتغطية الموضوعات الرئيسية. وينطبق هذا بشكل خاص على فلاسفة الفترة الحديثة لكن بالنسبة لأولئك الذين يريدون المتابعة بمزيد من التفصيل فإنه بإمكانهم أن يقوموا بذلك من خلال البدء بأعمال الفلاسفة المذكورين أعلاه.

كيف تقرر ما هو الصواب؟

يجب تبرير أي حكم معياري (أي حكم حول ما هو صواب أو خطأ) بالإشارة إلى شيء يتم الاتفاق بشأنه بين الشخص الذي يقدم الدعوى والذين يسمعونه. فإن قلت "هذا هاتف جوال جيد"، فإنك على الأرجح تكون على دراية بما تعنيه، لأن الجميع في اتفاق كبير حول ما يتعين على الهاتف أن يقوم به. هل يعمل بشكل جيد؟ هل تحصل على اشارة جيدة؟ هل هو أنيق؟ هل يحتوي على كاميرا مدمجة، ومشغّل MP3 وما إلى ذلك؟ ولكن بالطبع من الممكن أن تكون هناك اختلافات - مثلا شخص يريد تبديل مشغل MP3 لإطالة عمر البطارية ولكن الأساسيات ليست محل خلاف لأنه من الواضح  للجميع ما هو الهاتف وماذا يفعل.

الأمور ليست بهذه السهولة في الفلسفة السياسية. فنرى مثلا أنه كانت لدى الإغريق القدماء وجهات نظر حول طبيعة الحياة البشرية وغرضها، ولذلك فقد تمكنوا من تقييم الأفكار السياسية من حيث ما إذا كانوا يستطيعون مساعدة الناس على تحقيق كامل إمكاناتهم كبشر. ولكن ماذا لو لم يكن هناك اتفاق عام حول ماهية الحياة البشرية؟

تدور مقاربة "العقد الاجتماعي" حول هذه المشكلة من خلال إرساء السلطة السياسية على اتفاق - إما على أساس حرفي أو ضمني - بين الشعب، أو بين الشعب وبين حكامه. بعبارة أخرى، يربط الناس بعضهم ببعض من أجل مصالحهم المتبادلة ويقررون الشروط التي سيعيشون بموجبها. وهكذا، حتى من دون اتفاق شامل حول ما يريده الناس من الديمقراطية وكيف تمكّن على الأقل الأغلبية منهم من الحصول على الحكومة التي يعتقدون أنها أفضل فرصة للتعبير عن تفضيلاتهم.

في المناقشات الحديثة هناك مستويات أخرى من التعقيد. تتحدى ما بعد الحداثة فكرة أنه يمكن أن تكون هناك طريقة "صحيحة" واحدة لرؤية الأشياء، أو أن هناك ثمة غرض ثابت في حياة الإنسان. وإذا أردنا معنى لذلك الهدف أو الغرض فعلينا أن نقدمه بأنفسنا. ولكن إذا تم وضع أو ايجاد معنى للهدف من قبل آخرين، فكيف يمكن استخدامه لإعطاء أي مبرر موضوعي لنظام سياسي محدد بدلاً من آخر. وبدون أي مقياس موضوعي، كيف يمكن لأي شيء أن يكون "أفضل" من أي شيء آخر؟ يضاف إلى ذلك بُعد آخر وهو  في مجتمع متعدد الثقافات من المحتمل أن يكون هناك مجموعة متنوعة من وجهات النظر والقيم قد يتعارض بعضها مع الآخرين. ولذلك فمن الصعوبة البالغة العثور على أساس مشترك يرتكز عليه بناء اللبنات الضرورية من اليقين في المناقشات السياسية.

ولكن حتى قبل ظهور ما بعد الحداثة، كان هناك وقت - من الحرب العالمية الثانية حتى أوائل السبعينيات تقريبا في القرن التاسع عشر -  أزدادت فيه الشكوك عامةً بين الفلاسفة حول مسألة إصدار الأحكام المعيارية. وبعبارة أخرى، تساءلوا عما إذا كان من الممكن أن تكون  القضايا الأخلاقية صحيحة أم خاطئة - وكان من المعتقد على نطاق واسع أنها كانت إما تعبيراً عن عواطف المرء أو الموافقة على شيء عاطفياً. وفي كلتا الحالتين، كانوا يفتقرون إلى نوع من اليقين وإثبات أن العلم يتطور في تقديمه وصفا  للعالم المادي.

من المهم دائماً التمييز في الفلسفة الأخلاقية بين الوقائع والقيم. الفلسفة السياسية مهتمة بشكل خاص بالقيم. وخلال تلك الفترة، كانت النظرية الأخلاقية للنفعية (الحكم على الأعمال وفقاً لما تقدمه وفيما لو كانت قد قدمت أكبر فائدة للعدد الأكبر) تميل إلى السيطرة على التفكير السياسي.

وبالتالي، يمكن الحكم على النظام السياسي وفقاً لما يقدمه وفيما لو كان يقدم منافع للناس أم لا - وهو أمر يمكن أن تتوفر بخصوصه أدلة قوي ويمكن إثباته من خلال الإحصائيات. لكن النفعية لها حدودها كما أشار إليها جون راولز في عام 1971. واقترحت "تجربته الفكرية" أن يتمكن الناس من وضع قواعد عقلانية ومنطقية لتوزيع الموارد. أثار هذا مجموعة من المناقشات وكشف عن المشكلة التي تستند إلى النفعية، فمن الصعب أن نرى كيف يمكن حماية الأقليات من قوة الأغلبيات.

لكن تبقى هناك ثمة أسئلة أساسية:

- كيف تعرف ما هو الصواب؟

- على أي أساس يمكنك أن تقرر أفضل طريقة لتسيير الحياة السياسية؟

- كيف يمكنك تبرير أو انتقاد نظام سياسي بشكل فعال؟

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

 

 

في المثقف اليوم