أقلام فكرية

الدين والليبرالية الكلاسيكية

علي رسول الربيعيرغم أني مهتم بسياقات المناقشات المعاصرة حول التنوع والاختلاف، لكن يبقى لدى الليبرالية الكلاسيكية الكثير لتقوله عن الدين. وعليه من الأجدر عرض وجهة نظر التقاليد الليبرالية تجاه الدين بإيجاز لمعرفة ما هي وجهة النظر هذه، ولماذا هذا الرأي محدود القيمة لليبراليين اليوم.

على الرغم من أن العديد من الليبراليين الكلاسيكيين قد كتبوا عن الدين، لكني سأتناول آراء جون لوك، وجون ستيوآرت ميل، وجون ديوي، لأنهم جميعاً يأخذون الدين على محمل الجد، وتصور كتاباتهم الكثير من الموقف الليبرالي الكلاسيكي تجاه الدين. فما فعله لوك وميل ودوي في كتاباتهما عن الدين هو أنهم كانوا يجادلون مواطنيهم أملاً في إقناعهم بتغيير وجهات نظرهم الدينية. كانوا يأملون في جعل دياناتهم أكثر انفتاحاً، وأكثر استناداً إلى العقل منه الى الركون الى الوحي، ولتحقيق المزيد من الترابط بين الناس المختلفين، بدلاً مما يجعلهم متنافرين ومبتعدين عن بعضهم البعض.

جون لوك

لقد جادل لوك من أجل التسامح أولئك الذين لديهم معتقدات دينية مختلفة، لكنه جادل أيضاً ضد التسامح من الملحدين والكاثوليك. بأعتبار أن الإيمان بالرب سيقيّد شهوات الناس ويصبح أساس الأخلاق. يرى لوك إن الناس الذين لا يمكن الوثوق بتصرفهم الأخلاقي ليس لهم مكان في بلد أو مجتمع مستقل، لا سيما الجمهورية الديمقراطية. فمن دون خوف الاعتقاد بالآخرة  والخوف من الله، سوف يتصرف الناس وفقاً لمصلحتهم الشخصية فقط. لهذا السبب لا يمكن التسامح مع الذين ينكرون وجود الرب. لا يمكن الوثوق بهم للوفاء بالتزاماتهم في المجتمع. "الوعود والعهود والقسم، والتي هي روابط المجتمع البشري، والتي لا يمكن أن يلتزم بها".[1] هذه الثقة مهمة في مجتمع قائم على عقد اجتماعي. نحن بحاجة إلى التأكد من أن الناس سوف يحافظون على كلمتهم وعقودهم. يعتقد لوك أن الناس الذين لا يخشون الآخرة لا يمكن الوثوق بهم للحفاظ على كلمتهم.

 على الرغم من أن لوك لم يتسامح مع غير المؤمنين، إلّا أنه كان يعتقد أن التسامح يجب أن يكون بعيد المدى. فـ "التسامح" هو "العلامة الرئيسية المميزة للكنيسة الحقّة". وعلى الكنيسة الحقّة أن لا تجادل حول مسائل عقائدية ثانوية. أراد لوك أن تتوقف الكنائس عن الجدال حول أشكال العبادة المختلفة، ورأى بأن ما يهم حقاً هو تعليم وممارسة رسالة يسوع الأخلاقية، رسالة الحب والسلام. والحرص على أن يعيش أولئك الذين لهم عقائد مختلفة بسلام، حيث قال "يجب ألا نكتفي بالتدابير الضيقة للعدالة المجردة"،  بل "يجب إضافة الأعمال الخيرية ، والسخاء والحرية إليها".

ليس الأفراد فقط هم الذين يجب أن يعاملوا بعضهم البعض بشكل انساني، وهذا أمر مهم. فعلى الكنائس أيضاً أن تنظر إلى كنائس أخرى بروح المودة. يجب أن تكون الكنائس رسل حب لا كراهية. "إن السلام والإنصاف والمودة دائماً ما يتم الالتزام بها من قبل كنائس معينة، بنفس الطريقة التي يتم بها احترام الأشخاص العاديين". القسيسون أو الكهنة على حد تعبير لوك، ملزمون بالتعبير عن النوايا الحسنة تجاه كل الرجال، الخاطئين والأرثودوكس على حد سواء. إن العوائق التي تقف بوجه رسالة لوك الدينية للسلام والنية الحسنة تأتي من قبل المتعصبين الدينيين. إن مشكلتهم أنهم لا يرون أن العقل والوحي يدعم كل منهما الآخر. إن العقل استناداً لوجهة نظر لوك، هو وحي طبيعي. والوحي هو عقل طبيعي تتوسع به مجموعة جديدة من الاكتشافات التي يبعثها الله، فالعقل يثبت حقيقة، من خلال الشهادات والبرهان الذي يقدمه، أنه آتٍ من الله. المشكلة مع "المتعصبين" هي  ضياع نور العقل منهم. فعمي المتعصبون من رؤية نور الله والحكم على ما جاء من الله. إن معتقداتهم ترتكز على حشو بلا معنى فلا يمكن أن يُحكم عليهم صواباً أو كذباً.

كان العقل أساس مسيحية لوك  فليس من المستغرب أن تكون المسيحية عنده غير أرثوذكسية. ربما كان يتحول نحو التوحيد في كتاباته عن المسيحية، لأنه كان غير متأكد من عقيدة الخطيئة الأصلية وألوهية المسيح.[2] اعتقد لوك أن العقل يقود إلى الإيمان بالله، و المسيحية نفسها قائمة على هذا الإيمان والاعتقاد.[3] وقد دفعه هذا إلى القول بأن التسامح يجب أن يمتد إلى غير المسيحيين، طالما أنهم يؤمنون بالرب، لأن المسيحية هي في النهاية مسألة إيمان. ورد لوك على انتقاد عقيدته في التسامح قائلاً، "بالنسبة لك ولي الدين المسيحي هو الصحيح ولكن "كيف نعرف أنا وأنت هذا؟" لا أحد يستطيع أن يعرف أن المسيحية هي الحقيقية: لأن الايمان يبقى كذلك وليس معرفة. لقد أضاف لوك أن التسامح مع غير المسيحيين يمنح المسيحيين فرصة لهدايتهم، لأن الإقناع وليس القوة هو أفضل طريقة للوصول الى المهتدين الحقيقيين. ومع ذلك، يمكن التسامح مع أولئك الذين يؤمنون بالرب. ما هو حاسم بالنسبة الى لوك هو إيمانهم بالقوة العليا التي ستعاقبهم على السلوك بشكل اللا أخلاقي.

جون ستيوارت ميل

من الواضح أن المسيحية المعقولة والمعتدلة عند لوك والتي تتسم بحسن النية والمودة، تميل إلى الاتجاه الليبرالي. فبينما لعب الرب دوراً مهماً في نظرية لوك السياسية، فقد انقطع الرب عن دين الليبراليين اللاحقين. لم يكن جون ستيوارت ميل يريد فقط أن تعامل الكنائس غير أعضائها بنوايا حسنة، بل أنه شكّك في فكرة أن الإيمان بالرب والآخرة  يمكن أن تدعم الأخلاق. ورأى أن الايمان بالحياة الآخرة بعيد جداً عن التأثير على سلوك الناس بأي طريقة ملموسة، وأن قلة من الناس يعتقدون أن السوء والبلاء الذي  قاموا به يستحقون أن يُعاقبوا عليه بنار الجحيم الأبدي. واعتقد ميل أن المسيحية تقوّض الأخلاق الليبرالية. وبما أن معتقداتها الأخلاقية تعود الى أصل خارق فهي ثابتة، وتقف في طريق النقاش والتقدم.

إن عقيدة أخلاقية تعود لألفي عام قد لا تكون مناسبة لمجتمع متغير مثل المجتمع اليوم.[4] يرى ميل أن البشر كائنات تقدمية، بمعنى أنه يجب مناقشة الحقائق الأخلاقية وتغييرها أحياناً مع تقدم حياة الناس. إن تعليم  المسيحية للناس أن الشيء الأكثر أهمية هو دخول الجنة، فإنها تحول الأخلاق الإنسانية الى أنانية بشكل أساسي، مما يجعلها لاتلتفت الى رعاية الآخرين. إن المسيحية بأخلاقها تُعلّم الناس أن يقدموا مالديهم  إلى "الإرادة العليا" ولكنها لا تمنحهم الحافز أن يقدموا أي شئ لمحاولة خلق عالم أفضل.[5] يتعارض الطابع السلبي للمسيحية مع وجهة نظر ميل عن الناس ككائنات مستقلة وتقدمية. ويستقيل الناس في المسيحية من القيام بدورهم في العالم لأنهم ينسبون كل شئ إلى مشيئة الله ويأملون في دخول الجنة، وفي الحالة هذه لايكون لديهم دافع لتحسين العالم. وأخيراً اشتكى ميل مما تتضمنه المسيحية من أخلاق سلبية، وذلك لأن الأخلاق المسيحية في جزء كبير منها جاءت كرد الفعل ضد الوثنية. تخبر الأخلاق المسيحية الناس بما لا يجب عليهم فعله، ولكنها لا تدلهم على ما يجب عليهم فعله. كل ماتجيده المسيحية هو توجيه الناس الى أن يكبتوا شهواتهم. غير أن هذا لا يكفي لتشجيع الناس على التصرف بشكل تعاوني ومستقل، كما أراد ميل من الناس أن يقوموا به. أراد ميل من الناس مناقشة كيفية دفع المجتمع إلى الأمام. وأن يجرب الناس أفكاراً مختلفة، سواءً في المناقشة أو في الممارسة. لقد أراد أن يتعاون كل منهما مع الآخر ويشعر بالارتياح تجاه آراء الآخرين. تمنع المسيحية الناس من العمل بفاعلية ومن السعي وراء الصالح العام. فيحتاج المجتمع الليبرالي إلى تجاوز المسيحية، في رأي ميل.

وهذا لا يعني أنه لابد من التخلص من كل العقيدة المسيحية. ولكن يعتقد ميل أن الأخلاق المسيحية تحتوي على بعض الأجزاء المفيدة. كان يسوع رجل ذو أخلاق عظيمة ولديه الكثير لتعليمه الناس. ويمكن حتى غير المؤمنين أن يعجبوا بالمسيح. كان على الأرجح مصلح أخلاقي عظيم حاول أن يقود البشرية إلى الفضيلة والحقيقة. لكن الإيمان بأن يسوع كان رجلاً عظيماً لايعني أبداً الاعتقاد  بألوهيته. يمكننا أن نعجب بأشياء رائعة كما فعل أسلافنا، لكننا لسنا ملزمين بتفسيراتهم الإلهية. فقد يؤدي الالتزام بتفسيراتهم إلى عواقب وخيمة علينا في هذا العصر. قد تكون تعاليم يسوع بالعموم جيدة لكن هناك حاجة لتعديل تعاليم كثيرة في الكتاب المقدس. لكن إذا كان الاعتقاد أن تلك التعاليم تأتي من الله فأن المراجعة ستكون صعبة. طالما نعتقد أن يسوع ليس إلهاً بل انسانا مصلحاً، فيمكننا أن نتجاهل ذلك التصوّر الذي يقول بأنه إبن الله وعلينا الاحتفاظ بتعاليمه.[6] هذا ما يسمح لنا بتطوير الأخلاق التي تتجاوز المسيحية.

لم يرغب ميل في رفض فكرة الدين. وحذّر من أنه لا يوجد سبب يُذكر للتفكير في اختفائه عندما تأخذ الفلسفة مكانها ومكانتها، كما يأمل بعض المثقفين فيقول: أياً كان ظن بعض الفلاسفة، يبقى هناك احتمال ضئيل في أن تحل الفلسفة محل الدين في الوقت الحاضر. واقعاً، لقد تم الاعتقاد بالدين منذ فترة طويلة مما يعني أنه لا يمكن رفضه أو اختفاءه بكل بساطة. تعني مدته الطويلة أنه حتى لو لم يكن صحيحاً، فإنه ربما يستوفي بعض متطلبات الطبيعة البشرية.[7] الحل هو خلق دين يتمتع بالروحانية الضرورية بدون خنوع للمسيحية أو لسلبيتها. إن الأخلاق التي تقوم على "وجهات نظر حكيمة تأتي  لمصلحة كل الناس، بحيث لا يضحي الفرد من أجل المجتمع ولا المجتمع من أجل الفرد، وتستمد هذه الأخلاق قوتها مما هو افضل ما موجود لدى الناس من الخير والشغف للتميز. يتصرّف الناس بدوافع خيّرة ليس بسبب وعد بمكافأة سماوية، ولكن بسبب أتفاق وتقبل الناس الذين نحترمهم ونعجب بهم، سواء كانوا أحياء أو أموات. هذا النوع من الأخلاق وكما ادعى ميل، يشكل ديناً حقيقياً: دين الإنسانية. إن جوهر الدين هو الاتجاه القوي والجاد للعواطف والرغبات نحو كائن مثالي، معترف به كأعلى درجة من التفوق، و كقوة  أعظم من جميع الرغبات الأنانية."

بالنسبة للأشخاص الذين قد يتساءلون عما إذا كان دين الإنسان ديناً حقيقياً، أجاب ميل بأنه يتمتع بالصفات الأساسية للدين. وأنه ليس فقط يسمى دين ولكن هو أفضل دين يمكن أن يسمى بهذه الصفة. إنه دين الإنسان وغير مهتم ولا يطلب من الناس تصديق ما لا يصدق. إنه يطلب من الناس أن يتصرفوا انطلاقا من أفضل دوافعهم، وليس من أجل المصلحة الشخصية الأنانية أو من أجل مكافأة سماوية. علاوة على ذلك، فإنه لا يطلب من الناس الإيمان بإله كامل في حين يدل العالم أنه مخلوق بشكل غير متقن ويحكم بالنزوات. ليس من السهل الجمع بين عبادة إله كامل مع الاعتقاد بأن هذا العالم، بكل عيوبه، قد تم صنعه من قبل هذا الكائن الخارق. أن الكثير من المؤمنين لا يحاولون حتى تبرير ذلك، أنهم فقط يقولون أننا لا نستطيع أن نفهم عدالة وجودة العناية الإلهية. وعلاوة على ذلك، فأن دين الإنسانية لا يصر مثل المسيحية، على أن الناس يؤمنون بكائن يحكم على الملايين بالعذاب الأبدي لعدم سماعهم عن المسيح.

 جون ديوي

في أوائل القرن العشرين، كانت أفكار جون ديوي عن الدين متوازية مع أفكار ميل بطرق عديدة.  دعا ديوي على غرار ما فعل ميل إلى دين لا علاقة له بالدين التقليدي. ودعا بدلاً من ذلك لنزعة إنسانية دينية. لأن الإنسان الديني هو الذي يشجع على خاصية دينية معينة عن الحياة، وهي خاصية تخديرية. يرى ديوي أن نوعية الخبرة الدينية تمنع الوعي من ايجاد التعبير المناسب عن الظروف القائمة. تكمن مشكلة معظم الديانات في أنها عالقة في عالم قديم، عالَم له غايات ثابتة يحددها كائن خارق للطبيعة، فتلتزم بمعتقدات غير قابلة للتغيير. علاوة على ذلك، منع الدين عبر التاريخ الناس من استخدام ملكاتهم بشكل كامل للعمل من أجل عالم أفضل وذلك لأنه علّمهم أن ينتظروا قوة خارجية لتحسين أمورهم. فالاعتقاد المسيحي بقوة الصلاة لتغيير الأشياء هو أعتقاد سلبي جداً في معالجة المشاكل التي يواجهها الناس: "إنه يترك الأمور بشكل عام كما كانت من قبل."[8]

دعا ديوي إلى الإيمان بالذكاء البشري، وأعتبره إيمان ذو قيمة كبيرة. لقد أراد أن يثق الناس في قدرتهم على العمل وبشكل متناسق لحل مشاكل حياتهم في يومهم. ورأى أن مستقبل الدين يرتبط بإمكانية تطوير خبرة الإنسان، وأن  العلاقات الإنسانية ستخلق إحساساً حيوياً بتضامن المصالح المشتركة، وتلهمهم بفاعلية العمل وتجعله تعبيراً عن الشعور بالواقع.[9] أنه يمكن أن يكون للتفاني الجماعي من أجل المثل الأخلاقية والاجتماعية الكبرى قيمة دينية.

 فبينما كان يعتقد ميل أن المسيحية تشجع الناس على أن يكونوا أنانيين، دافع ديوي عن رأي يقول أن المشكلة  تكمن في أن كلا من الإلحاد والايمان بقوة خارقة للطبيعة تترك البشر معزولين. ومع ذلك، فإن الموقف الديني الذي دعا اليه ديوي يتطلب الإحساس بالعلاقات الانسانية من ناحية الاعتماد المتبادل بين الناس.

ما أراده ديوي هو الإيمان الديني بذكاء أعضاء المجتمع لمواجهة مشكلات اليوم من خلال الخبرة التجريبية. كان يريد أن يثق الناس في قدرتهم على التعاون لحل المشكلات عند ظهورها. وهذا يدعو إلى الاعتقاد بأن الناس يمكن أن يتغيروا، والأهم من ذلك بالنسبة إلى ديوي، أن يتطور الناس فكرياً وهم يستجيبون للمشاكل من خلال التجارب الاجتماعية التي ستساعدهم في إيجاد الحلول.

 كان ديوي قلقاً من أن الدين والفلسفة عالقين في البحث عن اليقين. وأكد أن كلاً من الدين والفلسفة كانا ضالعين في محاولة مضللة للعثور على حقائق أخلاقية  ثابته في عالم ديناميكي ومتغير. إننا بحاجة إلى أن نكون مرتاحين مع عدم اليقين في عالمنا.[10] العالم يتغير باستمرار، ويجب على الناس أن يتغيروا من أجل الاستجابة له. بعد أن أسقط  الإيمان في  كائن خارق الطبيعة أو في بحثه عن أهداف ثابتة، أراد ديوي أن يثق الناس في قدرتهم على حل مشاكل المجتمع. وبما أن مشاكل المجتمع لا تحل أبداً بشكل كامل، حيث أن التغيير سيحدث حتماً ويجلب معه تحديات جديدة، وتستمر دورات التغيير والنمو بلا نهاية. في نهاية المطاف، يُترجم هذا إلى اعتقاد في المجتمع الديمقراطي: "إن الديمقراطية كطريقة للحرية والنمو هي الشكل الديني للممارسة الروحية."

أريد أن أضع الآن جانباً السؤال عما إذا كانت آراء لوك، ميل وديوي حول العلاقة بين الدين والأخلاق صحيحة. ولكن أشير الى وجهات النظر اليبرالية حول الدين، هي محاولة لدرء الدين، فقد تصور الليبراليون أنه بمرور الوقت سوف يفقد الناس اعتقادهم بالدين الموحى ويعتنقوا ديناً يدور حول الانسانية وليس الرب. لم يؤمن لوك بهذا الرأي تماماً، لكن المسيحية الليبرالية كانت تهدف في الغالب إلى الجمع بين الناس بدلاً من الفصل بينهم. عرف ميل ودوي أن هذا لن يحدث بين عشية وضحاها، لكنه قد يحصل مع تقدم البشرية فاعتقدوا أن الحاجة الى الله ستكون أقل. وقال ميل إن العائق أو العيب الوحيد إذا ما قورنت به ديانة الإنسان مع الأديان الوحدانية هو أن الأول لا يعتقد  بالحياة الآخرة لكن مع مرور الوقت سيتلاشى هذا العيب. فكلما "تحسنت حالة البشرية" وأصبح الناس أكثر سعادة، فإن الأمل في السماء سيكون أقل أهمية. أعتقد الليبراليون إنه في مجتمع ما حيث يتم تشجيع الاستقلالية والمصلحة العامة يمكن أن يسود دين الإنسانية، وسيكون هناك القليل من الأنانية.

 لقد تحقق إلى حد ما ما كان يأمل به ميل وديوي ولوك. فقد أصبح الكثير من المسيحيين يقللون من  أهمية الاختلافات المذهبية باسم المودة وحسن النية للآخرين. لكني أرى أن مالم يكتشفه دين الإنسانية  هو إن الكثير من الناس باتوا اليوم ليسوا متدينين وغير راغبين بالعيش وفقاً لطريقة بتّ بها الدين منذ قرون فائته. لم يعد الناس، ولأسباب مختلفة، يلتزمون بقواعد الدين كما كانوا يفعلون في الماضي. المحافظون الدينيون لا يهيمنون على النظام الليبرالي اليوم، والعنف الذي غالباً ما يصاحب الدين في زمن لوك أصبح الآن بعيداً في الغرب. ولم يعد الدين عامل تفرقة بين الناس في الغرب كما كانوا يفعلون سابقاً. لكن ايضاً، ليس كل الناس غير متدينين أو ينتمون إلى دين ليبرالي.  وأرى ايضا كان نجاح لوك وميل وديوي محدوداً. وإن الديانات المحافِظة لا تزال قوية اليوم وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنها ستختفي قريباً من الديمقراطيات الليبرالية الغربية. هذا لا يعني أنها لن تصبح أصغر في المستقبل، ولكن من الممكن أن تكون أكبر. المشروع الليبرالي لتحويل الناس نحو ديانات أكثر ليبرالية لن يكون كاملاً أو ينجز النجاح الكامل في أي وقت قريب. لا يزال يتعين على الليبراليين أن يتجادلوا مع المحافظين حول الدين. لكن على الليبراليين أن يتوقفوا عن افتراض أن التقدم يعني أن الدين المحافظ سيتلاشى أو يختفي في نهاية المطاف. لايمكننا ان نفترض مع لوك وميل وديوي بأنه سيكون العالم في المستقبل بدون أديان محافظة.

حاول لوك وميل وديوي إنشاء عالم ليبرالي بدون أديان محافظة. ولكن نحن الليبراليون في هذا العصر لا يمكن أن نفعل الشيء نفسه. ولا يمكن لليبراليين أن يقولوا ببساطة إن الدين شأن خاص ويتركونه على هذا الأساس. ويرجع ذلك جزئياً إلى أن المتدينين يريدون أن تكون وجهات نظرهم الدينية حاضرة ومساهمة في الفضاء العام والنقاش العام. إنه لمن التبسيط أن نقول للناس عليهم ترك آرائهم الدينية في المنزل. وليس هذا فقط لأن العديد من المتدينين لن يتبعوا مثل هذا الأمر الزجري، ولكن لأن عواقب وجهة النظر القائلة بأن الدين يجب ألا يظهر أبداً في العلن أو في الفضاء العام  قد يضر بالدولة الليبرالية أكثر. وأبعد من ذلك، فإنه من المحتم أن هناك نقاط الاتصال بين الدين والدولة الليبرالية.

 

الدّكتور عليّ رسول الرّبيعيّ

.........................

[1] جون لوك، رسالة في التسامح، ترجمة منى ابو سنة، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، 1997. ص 57 فمابعد. وأنظر:

John Dunn. , The Political Thought of John Locke: An Historical Account of the Argument of the Two Treatises of Government (Cambridge: Cambridge University Press, 1969) and Retlzi11ki11g Modem Political theory (Cambridge: Cambridge University Press, 1985).

 [2] John Locke: Socianian or Natural Law Theorist," in Religion, Secularization, and Political Thought: Thomas Hobbes to]. S. Mill, ed. James E. Crimmins (London: Routledge, 1989). For Locke's questioning that original sin is charged upon all humans, see John Locke, The Reasonableness of Christianity (1695; reprint, Washington, D.C.: Regnery Gateway, 1965), 4-5.

 [3] Locke, Essay Concerning Human Understanding, 4.rn. I should note that as he got older, Locke became less confident that people could use their reason to discover morality and the principles of justice. Locke لابد أن أشير إلى أنه عندما أصبح لوك أكبر سنا ، بدا أقل ثقة بأن يمكن للناس أن يستخدموا عقلهم لاكتشاف الأخلاق ومبادئ العدالة. Reasonableness of Christianity, 170-76

[4] John Stuart Mill, “Utility of Religion," in Three Essays on Religion (New York: Henry Holt, 1874), 99- 100.

[5] Mill، On Liberty and Other Essays، ed. John Gray (Oxford University Press، 1991) 56-57.

[6] Mill, Blakey's History of Moral Science (1833); reprinted in Collected works, vol. 1O, ed. J. M. Robson (Toronto: University of Toronto Press, 1969), 28.

[7] ohn Stuart Mill, Coleridge (1840), reprinted in Utilitarianism and Other Essays, ed. Alan Ryan (Harmondsworth: Penguin, 1987), 222, 178.

[8] John Dewey, A Common Faith (New Haven: Yale University Press, 1934), 9, 47.

[9] مقتبس  من  ستيفن روكفلر، جون ديوي: الإيمان الديني والديمقراطية الإنسانية (نيويورك: مطبعة جامعة كولومبيا ، 1991) ، 449.

[10] John Dewey, The Quest for Certainty (1929); reprinted in The Later works: 1925-1953, 17 vols., ed. Jo Ann Boydston (Carbondale: University of Southern Illinois Press, 1984), vol.4.

 

في المثقف اليوم