أقلام فكرية

في وظيفة الميتافيزيقا الدائمة

الدماغ هو الجهاز المركزي ومحور التحكم في الجسد الحيواني والإنساني فإذا ترك بفطرته الغريزية بدون تأهيل وتنمية وتربية يظل واقفا عند اللحظة البيولوجية؛ لحظة إشباع الحاجات الحيوية في قاعدة هرم إبراهام ماسلو (الهواء والماء والغذاء والتزاوج) في الغابات والبراري كما كانت الحياة في أولها وربما استمرت ملايين السنين حتى أدرك الكائن الإنساني الحاجة الحيوية إلى الأمن والسلام وتلك حاجة للاستقرار الاجتماعي تستدعي وجود بعض القيم والأعراف لتنظيم العيش المشترك للكائنات الاجتماعية وأول الحضارة هو الخوف من عاقبة اعتداء الإنسان على إنسان أخرى أو اعتداء جماعة على جماعة أخرى وما يولده ذلك الاعتداء من ردة فعل وانتقام وعدوان مضاد. إذ لا فرق بين البشر والحيوانات إلا بقدرة البشر على ضبط غرائزها الحيوانية وتقنينها بالقيم والأعراف والقانون والنظام. وقد احتاجت الإنسانية ملايين السنين للانتقال من الحالة البدائية للعيش في كنف الطبيعة ومواردها المتاحة والانتقال من الصيد والرعي والبداوة إلى الزراعة والتمدن والحضارة. فالحضارة هي أولاً «فعل تحضير»، ومسار تصاعدي وتقدمي، يرمي من خلال التغيير إلى احتواء وإدماج أولئك الذين يظلون خارجها في البراري والأرياف والغابات، «المتوحشون البريون ومع الحضارة تطور الثقافة والمدنية وتطورت وظيفة الدماغ عند الكائن الإنساني إذ لم تعد تقتصر على رؤية وادراك الفرائس واقتناصها أو الحذر منها بل تطورت إلى الخيال والتخييل والشك والتفكير المجرد وهذا هو أرفع عمليات العقل البشري ولكنه لا يتم هكذا من تلقاء ذاتية بل عبر اللغة والكلام والمران والتعليم والتدريب والتأهيل والتنوير ومن هنا جاءت الحاجة إلى الفلسفة والعلوم بوصفها معنية بتأهيل وتنمية العقول وجعلها مثقفة أي صالحة للزراعة والعقل مثل الأرض مهما كانت تربتها خصيبة لا تنتج الثمار بدون حراثة وتهيئة بالماء والاسمدة وكذلك هو العقل مهما كان ذكيا لا ينجب الأفكار والمعرفة بدون تعليم وتربية وتنمية وتهيئة. ونقصد بتهيئة العقل التهيئة الكلية لكل البنية الدماغية المتعددة الوظائف كما هو الحال بالتربية البدنية للجسم الإنساني التي تهتم ليس بتمرين عضو معين من أعضاء الجسم بل بتمرين وتهيئة الجسم كله وإكسابه اللياقة اللازمة للنشاط والطاقة والحيوية والحركة والاستدارة بمرونة ورشاقة. والفلسفة بوصفها الوسيلة الممكنة لتنمية وتأهيل العقل تنمية عقلانية مستدامة، تمنح الأفراد القدرة على استعمال جميع المعارف والمهارات المكتسبة لمجابهة الأوضاع المختلفة وحل المشكلات الجديدة؛ أي (الذكاء العاطفي) هذا المعنى هي تجسيد لمفهوم الهابيتوس عند بيبر بورديو بوصفها نسقا من الاستعدادات المُكتسبة بالتربية والممارسة الاجتماعية التي تحدد سلوك الفرد ونظرته إلى نفسه وإلى الأخرين والحياة والكون، وهو أشبه ما يكون بطبع الفرد أو بالعقلية التي تسود في الجماعة، لتشكل منطق رؤيتها للكون والعالم. ووفقاً لهذا التصور، يعد «الهابتوس» جوهر الشخصية والبنية الذهنية المولدة للسلوك والنظر والعمل، وهو في جوهره نتاج لعملية استبطان مستمرة ودائمة لشروط الحياة ومعطياتها عبر مختلف مراحل لوجود، بالنسبة للفرد والمجتمع هذا أولا. وثانيا الاستيعاب؛ بمعنى القدرة على استخدام المعرفة وتجريبها ذاتيا؛ لأن المرء لا يستطيع أن يتصرف بمعرفة ما إلا عندما يستوعبها ويجسدها في لغته وذهنه وخبراته وتجاربه الاجتماعية. فكل معرفة غير مستوعبة من الفاعلين الاجتماعيين تظل بالنسبة لهم خارجية وغريبة ومستبعدة من حياتهم. فالمعرفة لا تتحول إلى ثقافة إلا إذ توطنت في البنية الثقافية للمجتمع المتعين وصارت نسقًا أصيلًا في تفكيرهم وسلوكهم.

ثالثا: الشمول؛ بمعنى القدرة على الربط العميق بين المعارف المستوعبة والموضوعات والقضايا التي تبدو متباعدة، والنظر إليها برؤية كلية قادرة على الجمع بين أجزاءها في نسق فكري ثقافي منطقي واضح ومقنع.

رابعا، الحكم؛ بمعنى القدرة على التجرد والتجريد الذي يعني في العلم (الحلم) وفي الفن (الذوق) وفي الأخلاق (الضمير) وفي الحياة (الفهم) وهو هدف وغاية كل تعليم وتعلم، فإذا كان التعليم يعلم المعرفة فإن التعلم يعلم الفهم وبدون أن يفهم الناس المعرفة التي يدعون امتلاكها تظل معرفتهم بلا قيمة ولا جدوى. والعلم هو أن تعرف كل شيء عن شيء محدد ومتخصص في علم من العلوم بينما الثقافة هي أن تفهم شيء عن كل شيء تعرفه وهذا هو كل ما يمكن انتظاره من الثقافة، وبدون هذا الـ(كل) لا وجود لشيء جدير بالقيمة والاعتبار. والفلسفة هي ربيبة عصرها وبنت زمانها وبهذه تختلف عن كل إشكال المعرفة والفكر الأخرى. فكل نظرة فلسفية محددة بعصر الفيلسوف وتصوراته الخاصة واسلوبه الفريد المتميز في النظر الى مشكلات عصره والتصدي لأسئلته الكبرى وصياغتها في رؤية عقلية كلية مجردة. فالفيلسوف لا يأتي المعجزات, فأقصى ما يقوم به, أن يشيد صورة مفهومية عن العالم في العصر الذي يعيش فيه. وفهم الفلسفة لا يكون الا بفهم اسئلتها المتعينة في سياقاتها التاريخية والثقافية في عالم الممارسة الفورية المباشرة والسياق هو كامل الوسط الاجتماعي الحي الذي يحيط بالنص الفلسفي من جميع الجهات ولا توجد إجابات فلسفية جاهزة ومكتملة منقولة من الماضي كما هو الشأن في الاسطورة واللاهوت. ففي كل عصر من العصور يختار الانسان نفسه من جديد. فحينما ظهرت الفلسفة في اليونان القديم كانت قطيعة أبستمولوجيا مع الأجوبة التي قدمتها الاسطورة للمعنى الكلي للعالم إذ حلت النظرة العقلانية لتأمل الوجود وظواهره المختلفة بدلا عن النظرة السحرية المتلحفة بالأسطورة فكانت اسئلتها عن أصل الكون وحقيقة الوجود والفكر والمعرفة والقيم. وحينما هيمنت النظرة اللاهوتية في فضاء العصور الوسيطة ازدهرت الفلسفة اللاهوتية المسيحية والإسلامية في تأمل العلاقة بين الله والعالم ومنذ عصر النهضة الأوربية حدثت القطيعة الأبستمولوجيا مع نظريات الفيض الأفلاطونية والمنطق الصوري الارسطي. وحينما استعاد الإنسان ثقته بنفسه وعقله وقدراته على المعرفة والتقدم وصناعة التاريخ ازهرت فلسفة التاريخ والإنسان وهكذا ارتبط تجديد الفلسفة مع حركة الواقع والتاريخ وايقاعاته فكلما تغيرت الحياة والتاريخ كلما زادت الحاجة إلى تجديد الفكر والمعرفة ونعني بالتجديد هنا تجديد في الأسلوب والمعنى والمبنى. والمفاهيم هي نظارات العقل بمعنى من المعاني إذ لا يتحقق التأمل والتفكير في العالم إلا عبرها ومن خلالها وهي مفاهيم مكتسبة من اللغة والثقافة والتعليم والتربية ولا يمكن فهم العقل بدون فهم اللغة إذ لا تفكير الا بالكلمات والصور الذهنية حتى في الأحلام. وإذاكان العقل يولد صفحة بيضاء بحسب جون لوك فهو لا يظل كذلك بعد المهد بل تنقش الثقافة واللغة والتربية والتعليم الكلمات والمفاهيم. لكن تلك المفاهيم ممكن أن تتحول بعد الاستخدام الطويل إلى أوثان واوهام تكبل الفكر وتعيق نشاطه الدائم في تعقل العالم وعندما يتنكر الناس للفلسفة بوصفها مطهرا للعقل  فإن مختلقات خيالهم تتضخم وينغمسون في مهاوي الأوهام والضلالات والأخطاء. وقد ارتبطت الفلسفة منذ نشأتها الباكرة في السؤال المتجاوز لذاته باستمرار فهي صبوة العقل الذي لا يكف عن التساؤل في معنى العالم فماذا أكون وماذا أعرف وكيف أعيش؟ أنها الميتافيزيقا أي مابعد الطبيعية والمابعد نزوع تجديد أصيل في صميم أم العلوم. وهي بذلك تقع على الطرف النقيض للاهوت المقدس الذي يكتفي بالنقل والتكرار والتأكيد ففي عالم المقدس ليس هناك اسئلة بل أجوبة وحمدا وشكرا أما في عالم الأنسان فتحضر الأسئلة والتأمل والقلق والتفكير والحوار والانفعال. والعقل والتفكير والكلام هو القاسم المشترك بين الناس أما العواطف والمشاعر والانفعالات والمعتقدات والايديولوجيات فهي خاصة بالإفراد وبالجماعات.

***

ا. د. قاسم المحبشي

في المثقف اليوم