أقلام فكرية

مقدمات لـ "فهم الفلسفة السياسية" (8): راولز والإنصاف

علي رسول الربيعيراولز والإنصاف: غالباً ما يُنظر إلى أن إحياء الاهتمام بالفلسفة السياسية في العقود الأخيرة يعود الى  كتاب جون راولز A Theory of Justice (1972)، وكان لنظريته عن العدالة كإنصاف التأثير الكبير.  يتفق كثيرون مع نظريته ولكن هناك العديد أيضاً ممن يرون الأمور بطريقة مختلفة فاستفزتهم للرد عليها والإشارة إلى أوجه القصور فيها. أراد راولز التأكيد على أن وجهة النظر الديمقراطية الليبرالية فيما يتعلق بتوزيع الموارد يمكن أن تقدم أسس ثابتة ومنطقية. وكان أيضاً ينتقد تطبيق النفعية فيما يخص قضية العدالة والإنصاف.

قدّم راولز "تجربة فكرية" من أجل السيطرة على منطق إعادة توزيع الموارد. تخيل مجموعة من الناس يجتمعون معا ليقرروا كيف سيتم توزيع الموارد وهم في ما يسميه راولز "الموقع الأصلي"، حيث في الحالة هذه يكون كل منهم قادر على قول ما هو في مصلحته الخاصة، لكن لا أحد منهم يعرف من هو أو ما موقعه في المجتمع. وبعبارة أخرى، إنهم لا يعرفون ما إذا كانوا هم أنفسهم أغنياء أو فقراء. يجادل راولز بأن كل واحد منهم، بما أنه لا يعرف ما إذا كان في الواقع أفقر الناس في المجتمع، لن يرغب بإصدار التشريعات بأي طريقة تؤثر سلباً عليه إذا كان الأمر كذلك. ولذلك يجادل بأن هؤلاء الأشخاص الذين يفكرون بمنطق موقعهم سيختارون أمرين:

- أن يكون لكل شخص حقوق متساوية في نظام الحرية الأشمل، شريطة ألا يمنع الآخرين من الحصول على حريات مماثلة.

- أنه إذا كان هناك أي عدم مساواة في توزيع الموارد، ينبغي أن تكون أوجه عدم المساواة هذه على الدوام مفيدة للأقل حظا في المجتمع، وكذلك ينبغي أن تتاح للجميع فرصة عادلة ومتساوية للحصول على المناصب والمواقع.

هناك عدد من النقاط المهمة التي تتطلب مناقشتها فيما يخص حجة راولز، أولاً: أنه يأتي من موقع ديمقراطي ليبرالي يسعى إلى الحرية للجميع مع الحفاظ على العدالة الاجتماعية في توزيع الثروة. ما يسعى إلى القيام به في تجربته الفكرية هو وضع إطار عمل متماسك منطقياً لدعم هذه الرغبة. بعبارة أخرى، على عكس ما قاله إيمانويل كانط أن الأخلاق يجب أن تستند إلى عقل عملي خالص، دون أي تفكير في المكافآت الشخصية أو النتائج. ويجادل راولز بأن إعادة التوزيع لصالح الفقراء هو ما سيراه الجميع على أنه الشيء المنطقي الذي يريدون، إذا لم يتأثروا بموقفهم الاجتماعي.

ولكن من المهم أيضاً أن نقدر أن راولز مهتم بقدر كبير بالعملية التي يتم من خلالها تحديد العدالة فيما يتعلق بالنتيجة النهائية. إنه يريد أن يثبت أنه من الممكن من خلال المنطق البحت والمصلحة الذاتية الطبيعية للناس، وضع قواعد لتوزيع عادل في المجتمع دون الرجوع إلى أي سلطة خارجية.

سواء وافق المرء راولز أو لم يوافقه، فمن الواضح أن هناك وجهة نظر عميقة حول ما هو عادل. قد لا يبحث الناس عن المساواة المطلقة - ببساطة لأنه استحالة عملية ولن يستمر طويلاً ، ولأن البعض أكثر قدرة على كسب المال من الآخرين.

إذا كنت تتفق مع راولز، فأن أي اختلاف في الطريقة التي يتم بها معاملة الناس ينبغي ان تكون لصالح الأقل حظًاً. لكن يبدو في الممارسة العملية أن العكس هو الحالة القائمة في كثير من الأحيان.

نقد راولز للنفعية

إن ما يقدمه راولز هو شكل من أشكال "التعاقدية المثالية" - وهو نسخة معاصرة من نظرية العقد الاجتماعي في القرنين السابع عشر والثامن عشر - والتي كان يأمل أن توفر بديلاً للنفعية. وأعرب عن اعتقاده بأن نهج العقد الاجتماعي يأخذ الفرد على محمل الجد أكثر من النفعية، لأنه لا يتطلب من أي فردٍ التضحية بأيً فائدة لصالح المجتمع ككل. وهذا بالطبع يمثل مشكلة كبيرة  للنفعية، فالأغلبيات على ما يبدو دائماً تتفوق على الأقليات. لكن رولز شعر أيضاً بأن النفعية تتعارض مع أحكامنا الأخلاقية المعتادة. وبعبارة أخرى، لدينا رؤية بديهية لما ينطوي عليه الإنصاف والذي لا يتوافق بالضرورة مع نتيجة تقييم النفعية للمنافع.

ولذلك أراد راولز إنشاء "توازن " بين مبادئ العدالة والأحكام الأخلاقية التي ينظر فيها الناس. ولقد أراد أن يكون مقترحه للعدالة متوافقاً مع التقاليد الأخلاقية التي يمتلكها الناس بالفعل، ولديه افتراض أخلاقي أساسي مفاده أن الأفراد يستحقون الاحترام على قدم المواساة. بعبارة أخرى، "الموقف الأصلي" ليس مستقلاً كطريقة لإرساء مبادئ العدالة - لأنه يعتمد على المواقف الأخلاقية السابقة أو "البديهيات".

هير(1919-2002) واحد من أولئك الذين قالوا أن راولز يتلاعب بالحجج من البداية لإعطاء استنتاجات مناهضة للنفعية. بعبارة أخرى، يعمل راولز على الافتراضات الأساسية التي هي جزء من التقاليد الديمقراطية الليبرالية الحديثة، ومن ثم يخلق حالة مفتعلة بشكل مصطنع تحاول تثبيتها على أساس المنطق البحت.

لا يعمل الناس  دائماً على أساس العقل وحده. والأكثر أهمية هو قناعاتهم وقيمهم العميقة، التي يكتسبونها من خلال أسرهم أو جماعاتهم الاجتماعية أو خبراتهم أو من خلال الدين. يجب أن تأخذها بنظر الأعتبار  كل من الفلسفة السياسية والأخلاقيات.

مشكلات مع الموقع الأصلي لراولز

 نواجه هنا مشكلة رئيسية وهي، أن التجربة الفكرية فيما يخص الموقع الأصلي لراولز هذه لاتعكس ما يحدث في الحياة الحقيقية. لم يكن هناك أبداً ولن يكون وضع لا يعرف فيه الناس مكانهم في المجتمع، وبالطبع فإن رولز لم يقترح أبداً أنه يمكن أن يكون هناك. ولكن هل هذه المحاولة لبناء وضع غير واقعي من أجل إظهار منطق المصلحة الذاتية، تعطي نتيجة يمكن ترجمتها إلى العالم الحقيقي؟ يكمن هذا السؤال وراء انتقاد راولز من وجهة نظر جماعاتية.

 يعتقد الجماعاتيون  بأن الناس هم دائماً جزء لا يتجزأ من المجتمع؛ وأننا نكون على مانحن عليه طبقاً لمكاننا في مجتمعنا ولما نقوم به وكيف نرتبط بالآخرين وإلخ. وعدم ادراك الناس لموقعهم يمثل مشكلة باعتبار ذلك الإدراك ضروري لأي شكل من أشكال الوعي السياسي واتخاذ القرار. إن القرارات التي يتخذها هؤلاء في "الموقع الأصلي" لرولز منطقية، لكنها لا تعكس ما يحدث فعلاً عندما يجتمع الناس معاً.

 هذا لا يعني أن الناس قد لا يختاروا لأسباب إيثارية شكلاً من أشكال العدالة لا يفيدهم شخصياً - ولكن إذا فعلوا فإنهم يفعلون ذلك بأعين مفتوحة. في الواقع، قد يرغب الكثير من الناس بالمخاطرة - لاختيار موقف، إن كانوا أغنياء أفضل حالاً، فيمكنهم  الاستفادة بشكل أكبر. وقد يحسبون أن خطر الخسارة يستحق المخاطرة. يعتبر ذلك، في بعض النواحي، نموذجاً لرجل الأعمال داخل النظام الرأسمالي، أيً يعتبر من الأفضل المخاطرة على أمل تحقيق ربح أكبر بدلاً من اللعب بأمان وتحقيق القليل جداً من المكاسب. وبالتالي، حتى لو كان منطق راولز سليماً، فهو لا يمكن أن يكون نوع المنطق الذي يمكن أن يستخدمه الأشخاص الحقيقيون في مواقف سياسية حقيقية.

الفرص العادلة

اتخذ روبرت نوزك مقاربة مختلفة تماماً عن مقاربة أو نهج رولز في كتاب الفوضى، الدولة واليوتوبيا (I974) ، وهو كتاب آخر مؤثر بشكل كبير في الفلسفة السياسية المعاصرة. رأي نوزك أنه يجب إعطاء الأولوية إلى حق الأفراد في خلق الثروة والاحتفاظ بها لأنفسهم. إنه يعتقد أنه من الخطأ أن تفرض الدولة المساواة عن طريق أولئك الذين كسبوا المال قسراً للمساهمة في تقديم الخدمات للمحتاجين. ويجادل نوزك بأن للشخص كل الحق إن أختار أن يعطي من أملاكه أو أمواله لشخص أخر، ولكن ليس أن يجبره المجتمع على عمل ذلك. هذا بالطبع يعكس تقليداً قوياً في العطاء الخيري في الولايات المتحدة الأمريكية. عندما تكون ضرائب الدولة وتوفيرها أقل، تزداد فرصة المسؤولية الأخلاقية الفردية تجاه الاخرين.

بينما اعتقد رولز أنه يمكنك تجريد أشخاص من خلفياتهم من أجل الحصول على نظرة مثالية حول مبادئ العدالة. وجادل نوزك بأنه من المهم إدراج الاستحواذ التاريخي للممتلكات في تقييم العدالة. بمعنى آخر، فقد أدرك أن السمة الرئيسية لهوية الشخص هي ما يمتلكه وكيف حصل على امتلاكها. وترتبط أيضاً قدرات الناس بخلفيتهم وتعليمهم وفرصهم في المجتمع وما إلى ذلك. لذلك من الصعب أن نرى كيف يمكن إقامة أي عدالة ما لم تؤخذ الخلفية الاقتصادية والاجتماعية للأفراد بعين الاعتبار.

الإنصاف هو مفهوم فلسفي قائم على فهم كيفية عمل مختلف أجزاء المجتمع معًا، وما يحتاجون إليه، وكيف يمكن أن يزدهروا. هل يبدو هذا مألوفا؟ بالطبع - لقد عدنا هنا الى أفلاطون وتقسيمه الثلاثي المجتمع. ولكل القيود التي فرضها في الجمهورية، وتمييز الناس المختلفين أن لديهم احتياجات مختلفة. وهل ينبغي منع أولئك الذين لديهم القدرة الطبيعية على النجاح من بين زملائهم من تحقيق قدراتهم  الاقتصادية والسياسية؟ حتى لو تم توفير فرص التساوي بينهم، فإنهم  لن يبقون متساويون اقتصادياً لفترة طويلة. لقد عدنا هنا مع نيتشه الى معنى الوجود البشري الذي يمضي قدماً في التطلع إلى تغيير نفسه، والعمل على الوصول الى الإنسان الأعلى.

قد تبدو المساواة المطلقة جيدة، لكن كيف تمنح الناس الحافز على العمل والمساهمة فيه قدر إمكانهم، إن تلقوا الشيء نفسه في المقابل مهما كانت قيمة مساهمتهم؟ هل من الطبيعي أن يتوقع الناس أن يحصلوا على فوائد مساهمتهم وأن يعتبروا عادلين؟

لاحظ كيف يرتبط هذا بالإيديولوجيات السياسية (التي بيناها في مقال سابق من هذه السلسلة "الايديولوجيات والافكار"). إنه يعكس الصراع بين النظرة الاشتراكية للمساواة والنظرة الليبرالية للحرية والرأي المحافظ القائل بأنه على الحكومة أن لا تتدخل إلا بأقل قدر ممكن في الوضع الاقتصادي الطبيعي القائم.

المساواة في  حق إدارة الذات والمراعاة الأخلاقية

المساواة مفهوم أساسي لكثير من النقاش السياسي والفلسفة السياسية. وزعم بيان الاستقلال الأمريكي لعام 1776 أن "جميع الرجال يولدون متساوين" كنقطة انطلاق لإقامة نظامها السياسي. ولقد اعتبرنا بالفعل عدالة التوزيع كوسيلة لمعاملة الناس على قدم المساواة، ولكن ماذا يعني ذلك؟

هناك أشكال مختلفة من المساواة:

- تكافؤ الفرص - حتى لو انتهى الأمر بالناس في مناصب مختلفة من حيث الثروة والإنجاز، نظراً لاختلافهم في القدرات أو الذكاء، يجب أن يتمتعوا جميعاً بالفرص نفسها التي يتم تقديمها لهم. وهكذا، على سبيل المثال، ينبغي أن يكون الوصول إلى فرص التعليم أو العمل متاحاً للجميع بالتساوي.

- المساواة في الخير- ويقترح أن يتلقى الناس حصة متساوية من الموارد. ولكن لا يمكن الحفاظ على هذه المساواة في الممارسة العملية، باستثناء  المجتمعات المُقيدة لفترة طويلة، لأن الناس يستخدمون الموارد  التي يتم تقديمها لهم استخدامات مختلفة.

- المساواة في الحقوق - أن هناك حقوقاً أساسية مُقدمة للجميع على حد سواء، مثل الحق في الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة، أو التحرر من الاضطهاد بسبب اللون أو العرق أو الدين أو ما إلى ذلك.

- المساواة في الاحترام - مهما اختلف الناس في قدراتهم، إلا أنه يجب أن يحصلوا على نفس الدرجة من الاحترام جميعاً، وذلك وبكل ببساطة بأعتبارهم أعضاء في الجنس البشري.

- المساواة في التمثيل - يجب أن تتاح لكل شخص الفرصة نفسها للتصويت، أو بأي طريقة أخرى  تتعلق بالمشاركة في عمليات الحكومة وتنصيبها. وبالتالي وعلى سبيل المثال، يزعم أعضاء البرلمان أن جميع أعضاء دوائرهم الانتخابية يمكنهم الوصول اليهم على قدم المساواة. قد لن يستفيد الجميع من هذا الوصول، ولكن على الأقل يتم تقديمه.

تسهم هذه الجوانب المختلفة للمساواة في متطلبين أساسيين للغاية لمجتمع عادل ومتساوٍ - المساواة في  حق توجيه الذات (أو حق اختيار الشخص لنفسه ما يختار) والاحترام الأخلاقي. أولها هو حق الفرد في أن يقرر كيف ينبغي له أن يعيش، وأن يتخذ إجراءات قدر الإمكان، لوضع خطط للحياة تهدف إلى تحقيق الذات.

لم يناقش كل الفلاسفة ذلك. حيث إدعى أرسطو أن النساء والعبيد لم يكونوا قادرين على التفكير، أو على الأقل التفكير بفعالية (في حالة النساء)، وبالتالي كانوا بحاجة إلى أن يوجههم الرجال. في الواقع، كان فحوى حجته هو أنهم سيستفيدون من هذا، وسيعيشون حياة أكثر سعادة، حيث يتم تزويدهم بطريقة معيشية منظمة لن يكونوا قادرين على تحقيقها إن تركوا لحالهم. يستمر هذا الرأي في أي مكان تدعي فيه السلطة أنها تعرف ما هو في مصلحة الفرد حتى لو لم يكن هو ما يريده. المساواة في الاعتبار الأخلاقي ضرورية لإيجاد طريقة عادلة للتعامل مع الأشخاص الأكثر ضعفاً وفي النظر في حقوق الأشخاص وفي الالتزام الأخلاقي للمجتمع تجاههم. وبالتالي، لا ينبغي أن يحدث فرقاً معنوياً، سواء كان الشخص قيد النظر صغيراً أم كبيراً، ذكراً كان أم أنثى ، يجب أن يكون لهما جميعاً اعتبار أخلاقي متساوٍ.

هناك طريقة أخرى للتعبير عن نطاق المساواة في النقاش السياسي وهي ببساطة القول بأنه يجب معاملة الناس على قدم المساواة.

 

الدّكتور علي رسول الرّبيعي

 

في المثقف اليوم