أقلام فكرية

ريتشارد رورتي: ما بعد الحداثة والدفاع البرغماتي عن الديمقراطية (2)

علي رسول الربيعيالإجراء والجوهر: كما ذُكر أعلاه، يقترح رورتي أن الإطار الإجرائي للديمقراطية الليبرالية هو الذي يمكّن التداول و"المحادثة" الأستمرار في الديمقراطية الليبرالية من دون مبرر فلسفي. ولتوضيح ذلك، استعار رورتي فكرة السوق، حيث يجتمع الناس من مختلف الاديان ويتعاقدون بخصوص أجراء أعمالهم، على الرغم من أنه قد يكون هناك خلافات فلسفية عميقة عنيفة بينهم.[1] يمثل هذا، بالنسبة لرورتي، الحل الوحيد لمشكلة انهيار إيماننا بالمعايير الأساسية للتنوير، وضرورة وجود إطار عمل يتم من خلاله إجراء "المحادثة" المستمرة حول الديمقراطية الليبرالية.

يصر رورتي على أن هذا الإطار الإجرائي يمكن أن يقف بذاته دون الحاجة الى مبرر فلسفي. بدلاً من الاعتماد على فلسفة التطمين، يحاجج رورتي بأن المجتمع الديمقراطي يحتاج فقط إلى عملية "توازن مناسب".[2] يستعير عبارة "التوازن المناسب" من جون راولز، الذي يعرفها بأنها "التعديل المتبادل للمبادئ والنظر في الأحكام".[3] إنها عملية ضمان توافق المبادئ والأحكام، وأن مصدر هذه المبادئ كان موضوعًا للتاملذ وللتفكير. ويحاجج رورتي ايضا بأن ما تحتاجه الديمقراطية ليس "إطارًا فلسفيًا" للمفاهيم [4]، بل إطار إجرائي، مثل التوازن المناسب، بدون محتوى حقيقي.[5] يبدو أن اعتراض رورتي على تسمية "أهداف جوهرية" هو فقط لأنها تقود إلى تبرير الأشياء أو ألأمور أو الوقائع باستعمال الفلسفة. فيأتي أعتراضه من موقفه الذي يعتبر هذا النوع من التبرير، كما أشرت سابقًا، بلا معنى أو، أو كإرباك ضار.[6] فيمكن فهم مفاهيم العدالة الإجرائية والمساواة، بالنسبة لرورتي، على أنها "تطورات ثقافية ضيقة وحديثة "تستحق المحافظة عليها.[7] ويجب الدفاع عنها عن طريق مقارنات مع البدائل الملموسة، وعلى أساس عملي برغماتي يدلل أن هذه المفاهيم تساعدنا على فهم وتحقيق نوع المجتمع الذي نريده، وليس من خلال اللجوء الى مفاهيم الأساسية أو حقائق العالمية.[8]

يعترف رورتي بأن حجته لإطار إجرائي مناسب تشبه نموذج هابرماس للفعل التواصلي. إنه يعتقد أنه يتفق مع هابرماس في أن "المجتمع الليبرالي هو مجتمع يرضى بتسميته الفعل" صواب "(أو" حق "أو" عادل ") مهما كانت نتيجة التواصل على أن لايكون مشوًه، وأيا كانت وجهة النظر التي تربح لكن على شرط أن تكون بطريقة حرة ومفتوحة.[9] يرى رورتي هناك القليل للاختيار او التفضيل بين موقفه وموقف هابرماس، على الأقل فيما يتعلق بالشكل الإجرائي الذي يجب أن يتخذه المجال العام. وتكمن نقطة الاختلاف الرئيسة، وفقًا لرورتي، في حقل "الفلسفية فقط"، لأن هابرماس ملتزم بوضع معايير عالمية وعقلانية.[10] يكتب رورتي أنه يجد أنه من الممكن "التوافق مع هابرماس الى أن يصل الى النقطة التي تتعلق بالعالمية، فينحرف عن الأتفاق معه".[11] أما بخصوص اختيار هابرماس لنمط العقلانية التي يتبناها، فأن رورتي يبدي رضاه عنها بوصفها توجها موضوعيا لكن يرفض أو يختلف منها في أدعائها العالمية، اي يتفق مع هابرماس في العقلانية ويختلف في العالمية لهذه العقلانية.[12] ويقول إن الأمر بكل بساطة، هو عدم قبوله فكرة أن الفلسفة في حد ذاتها لها صلة بالسياسة، في حين أن الجماعات والمجتمع وعلاقاته له هذه الصلة.

يعترف رورتي أن هناك خطراً وهو أن نتائج الإجراءات المتسامحة والعقلانية قد لا تكون هي نفسها متسامحة دائمًا. لكنه يرى أن الديمقراطيات الليبرالية لديها الوسائل لتجنب ذلك الخطر عن طريق "الأصغاء الى المتخصصين".[13] يزعم رورتي أن الديمقراطية الليبرالية البرجوازية يمكنها أن تطمن نفسها من خلال توظيف ما يسميه "خبراء التنوع أوصياء العالمية أو رعاتها".[14] قد يبدو "التطمين" اختيارًا فريدًا للكلمة، يستعملها رورتي للإشارة إلى نوع من التبرير الأخلاقي للمجتمع الذي لا يرتبط بالقيم العالمية. يحدد "المتخصصين،ممثلي الرقابة " (عن سبيل المثال، علماء الاجتماع والصحفيون وعلماء الأنثروبولوجيا، ولكن كما هو متوقع، وليس الفلاسفة) الذين يجلبون التنوع إلى أنتباه وأهتمام "ممثلي العدالة". يحاجج رورتي بأن الديمقراطيات الليبرالية تشتغل بالفعل من خلال الالتزام بمبادئ العدالة الإجرائية، ولكن أيضًا من خلال توظيف "متخصصين على وجه التحديد ... [مهمتهم هي] ... مواصلة المشاركة في توسيع نطاق خيالنا الأخلاقي".[15] هدفهم هو تحقيق التوازن بين الطابع العالمي للعدالة الإجرائية، من خلال تذكير المجتمع بوجود التنوع وأهميته.

العرقية المتعمدة

يدعي رورتي بخصوص الإثنية المتعمدة التي يتبناها أنها تعطي أولوية للتسامح الليبرالي، أو على الأقل القيام بذلك حتى يظهر معجم مفردات أخرى تبدو أكثر فائدة من إجراءات الديمقراطية الليبرالية. تشير كلمة "مفيدة"، في هذه الحالة، إلى قدرة معجم المفردات المعينة على خدمة مصالح الناس. وفقًا لطريقة "إعادة الوصف" لرورتي، سيسعى مؤيدو المفردات الجديدة إلى إعادة وصف الإجراءات الليبرالية الحالية والمفاهيم الماضية والمستقبلية للتمثيل والمشاركة والعدالة. عن سبيل المثال، يمكن تحديد أحد الأهداف الرئيسية للحركة النسائية، وفق تعبير رورتي، باعتبارها الحاجة إلى إعادة تعريف فهمنا للانقسام بين المجال العام / الخاص، لتمكين النساء من أن ينظر إليهن كمواطنات كاملات المواطنة.

ولكن حتى لو تم إجراء مثل إعادة التوصيف هذه، فإن العملية برمتها لا تزال إجراءً ليبراليًا أساسيًا. يمكن أن يُجبر نموذج رورتي للديمقراطية الناس على الخضوع بتسامح وصراحة لكل محادثة تهدف إلى إقناعهم باستخدام مفردات أخرى، سواء كانت مقدمة من قبل ليبرالية رورتي أو من قبل النسوية. لذلك، لم يبتعد رورتي أبداً عن هذا الإطار الإجرائي الليبرالي الذي يكمن في كونه أهم ضامن للنقاش الحر في المجال العام. يحاول رورتي الهروب من الانتقاد الذي يوجه له بأنه : في الواقع، يضفي الطابع العالمي على القواعد والإجراءات الديمقراطية الليبرالية، حيث يقول أن نموذجه يجب أن يقرأ على أنه إثني متعمد.

يجادل رورتي أن الليبراليين الغربيين الذين لم "يتبنوا ( طروحات) ما بعد الحداثة" يُجبرون فعليًا على أن يكونوا من عرقيين، لأن مفهوم المساواة الإنسانية، الذي يستند إليه نقد العرقية، هو" مركزية غربية مختلفة" أو أخرى .[16] بمعنى آخر، غالبًا ما يقوم أولئك الذين يحاججون ويقفون ضد المركزية الإثنية على أساس مجموعة من المفاهيم الأخلاقية هي نفسها نتاج ثقافة معينة ولحظة تاريخية بعينها. وفقًا لرورتي، يمكن لليبرالي ما بعد الحداثة أن يقبل أن الإجراءات الليبرالية تعبر عن مركزية عرقية، لكنها تبقى توفر أفضل إطار لجميع ثقافات العالم المختلفة حتى تتعايش، حتى تلك التي ترفض مبادئ الليبرالية المتسامحة.

نقد

تفتقد النظرية الديمقراطية التي تطرحها أعمال رورتي الأنسجام والتماسك وهي غير مقنعه في اغلب الأحيان . وقد اثارت الكثير من الانتقادات، سواء بسبب التناقضات الملحوظة في مقاربته المناهضة للأسسية الإبستيمولوجية (المعرفية)، أو لما يعتبره البعض ايديولوجية محافظة في الدفاع عن الديمقراطية الليبرالية الغربية. برنشتاين، عن سبيل المثال، يجادل بأن عمل رورتي هو "اعتذار أيديولوجي عن نسخة قديمة من ليبرالية الحرب الباردة مرتدية خطاب" ما بعد الحداثة "المعاصر.[17] على الرغم من أن بيرنشتاين يحفاظ على نقد قوي لنظرية المعرفة والسياسة عند رورتي، إلا أنه في مقال لاحق أعترف بأن عمل رورتي يشكل تحديات مهمة، ويساعد أسلوبه المثير للجدل على إحياء انضباط الفلسفة من خلال التشكيك في بعض معتقداتنا العزيزة.[18] يرى وولين، في مقال نقدي خلاف ذلك، فيقول أنه ربما هناك ميزة وجدارة في عمل رورتي تنبع من تداخل نظرية ما بعد الحداثة مع مفاهيم الديمقراطية. كما يرى وولين، إن المعالجة الواضحة للقضايا الديمقراطية هي نظرية نادرة الحدوث في طروحات مابعد الحداثة.[19]

لسوء الحظ، لا يوضح رورتي أيًا من الأشكال المختلفة للديمقراطية التي يدعم، باستثناء المؤسسات الأساسية مثل "التصويت، الصحف، المنظمات المجتمعية" لأهميتها.[20] وكما يقول برنشتاين، يبدو  رورتي وكأنه يفتراض بأن معنى "الديمقراطية الليبرالية" واضح إلى حد ما بالنسبة للجميع.[21] ويشير رورتي في بعض الأحيان بشكل منفصل إلى الليبراليةذ والى الديمقراطية ولكنه بشكل عام يجمع بينهما كنموذج سياسي واحد.[22] ليس هذا بالأمر غير المعقول، لأنه يوجد تقارب قوي بين الليبرالية والديمقراطية الغربية.[23] ومع ذلك، فإن الاثنين ليسا متطابقين، وتبقى الاختلافات بينهما مصدر خلاف. يرى وولين، عن سبيل المثال، أن تركيز رورتي على خصخصة الفلسفة ليس ديمقراطياً على الإطلاق، ويجادل بأن التمييز الصارم بين المجالين العام والخاص "ليس ما تدور حوله الديمقراطية"، مستشهداً بدلاً من ذلك بـ "المساواة والاعتقاد بأنه يجب ان تكرس السلطة العامة للمساعي المشتركة.[24] على الجانب الآخر من الطيف السياسي، يرفض منظرو اليمين الجديد مثل فريدريك هايك ارتباطًا وثيقًا بين الديمقراطية والليبرالية، من منظور أن قيمة الحرية يجب أن تكون لها الأسبقية على الديمقراطية، بمعنى ان يكون لإرادة الناس الأولوية.[25]

إن نظرية رورتي حول الديمقراطية الليبرالية لها نمطها الخاص. وإن مفهومه للحرية مفهوم سلبي، حيث يتم الحفاظ على دور المجال العام إلى الحد الأدنى عن عمد. ولأنه- كما يرى رورتي- لا يمكن أن يكون هناك معرفة يقينية، فإن التدخل في الشأن العام له دائمًا القدرة على تدمير حرية الفرد دون داع. ومع ذلك، ليس من الواضح سبب رفض رورتي الادعاءات الجوهرية لصالح إطار إجرائي. مع أن فلسفته تتضمن وتؤكد، في الواقع، على التزامات جوهرية بمبادئ التسامح وتسوية الخلافات، ومناهضة القسوة والمساواة الإنسانية.

يشير رورتي أن المضمون الجوهري للديمقراطية سيتم إعداده في مجريات النقاش العام، لكنه لايلتفقت الى أن مثل هذا النقاش يفترض مقدما وجود مساحة عامة شاملة ومتساوية للجميع . تستند نظرية رورتي للديمقراطية على افتراض أن المواطنين متساوون، وأن المجال العام الليبرالي شامل كليًا لجميع المشاركين. لكن ولين يشكك في التمييز بين القطاعين العام والخاص في عمل رورتي، ويرى أنه يحمي التمييز بين القطاعين العام والخاص من المنافسة والاحتمالية.[26]

إن حجة رورتي أن الاختلافات بين المشاركين في المجال العام يمكن اختزالها إلى مجرد "فلسفية" ومن ثم أنزالها إلى المجال الخاص هي في الواقع تهرب منه من مواجهة مسألة ما إذا كانت العدالة الإجرائية والمؤسسات الليبرالية قد تتضمن على تحيزات. يرى رورتي أن هذه الإجراءات محايدة ازاء جميع المقاصد والأغراض، وبالتالي هي مطالب مفتوحه لحق الأختلاف والنقاش حولها. لكن مثل هذا الافتراض يمكن أن يؤدي إلى خطورة تتمثل في رضا المجتمعات الديمقراطية الليبرالية عن أوضاعها. وهذا الشعور بالرضا ستكون له عواقب سياسية هي: أنه طالما كانت المتطلبات الإجرائية للمناقشة تحدث، فلا داعي لمعالجة التفاوتات الواسعة النطاق. ثم أن هناك أنواعًا أخرى من النظريات التي لا تتوافق مع أيٍّ من هذين التوصيفين. فالمنظِّرون النسويون، عن سبيل المثال، يسعون إلى فحص علاقات القوى القائمة على النوع الاجتماعي( الجندر) المتضمنة في المجالين العام والخاص.[27] يفرض رورتي انفصالاً صارما جامداً بين الفيلسوف العقلاني التنويري من جهة، وليبرالي ما بعد الحداثة في ساخريته من ناحية أخرى. وكلاهما مدعوان إلى حصر اهتماماتهما الفلسفية في المجال الخاص، وترك المجال العام حرا لتحقيق العدالة الإجرائية الليبرالية. لكن لسوء الحظ، ما يبدو أن رورتي بسبب فلسفته هذه قد ضاع فرصة نقد حقيقي لتلك الإجراءات والمؤسسات، والقيم الجوهرية التي تشكلها. فطبقًا لرورتي، لا يمكن لأولئك الذين يرغبون في تقديم وجهات نظر نقدية حول الإجراءات والقيم الأً أن يفعلوا ذلك في المجال الخاص غير السياسي، أو سيكون عليهم الانخراط في عملية "إعادة الوصف" بشكل مقنع بما يكفي لضمان حدوث تحول في "المفردات" لهذا المجتمع بالذات.

ينتقد وولين مفهوم إعادة الوصف- الذي يقول به رورتي- باعتباره يفتقد العمق السياسي المطلوب، مجادلا أن رورتي يؤيد نظرية للتاريخ تنسب كل تغيير اجتماعي إلى التلاعب في اللغة.[28] الادعاء بأن اللغة لها وظيفة بناءة ليس فريدًا من نوعه ولم يقل به أحداً غير رورتي. فيمكن القول أنها واحدة من السمات المميزة القليلة لنظرية ما بعد الحداثة ككل. لكن وفقًا لنموذج رورتي للديمقراطية، يبدو أنها عملية حميدة نسبيًا. يصفها رورتي بأنها أحدث طريقة فلسفية حيث يحدث التغيير من خلال إعادة وصف الممارسات التوافق بشكل صحيح مع الصورة الذاتية للمجتمع. يستعمل رورتي مصطلحات مؤرخ العلوم توماس كون، الذي حدد الاختراقات الثورية في العلوم بأنها "تحولات نموذجية". اقترح كون أنه بمجرد حدوث هذا الاختراق، لن يكون هناك عودة إلى الطريقة السابقة لمشاهدة أو ملاحظة شيء ما.[29] وبأستعمال مصطلحات رورتي، تتغير "مفردات" العلوم بشكل دائم. ه تصبح ذه المقارنة إشكالية عندما يسحب رورتي نظرية كون لتفسير التحولات في تصور الذات للمجتمع وتطبيقها كنظرية للتغيير الاجتماعي.

لأن – أيً رورتي- يتجاهل الصراعات السياسية الفعلية والعميقة، سواء المادية أو الأيديولوجية، التي تصاحب هذه التحولات. أحد الأهداف الرئيسية للحركة النسوية، عن سبيل المثال، نشأت عن الصراع الذي يهدف الى حق توضيح تجارب النساء. كان جزء من المشروع هو الكشف عن الثغرات في النظرية السياسية والمعرفية الناجمة عن الإهمال المسبق لهذه التجارب.[30] هذا أكثر من مجرد مناورة لغوية. هناك قوة حقيقية على المحك في هذا النوع من إعادة الوصف. إذا نظرنا إليها فقط على أنها تحولات في المفردات، يتم تجريد هذه الصراعات من أهميتها السياسية، وتأثيراتها على السلطة في المجالين العام والخاص.

الاستنتاج والخلاصة

لقد ناقشت: أن اهتمام رورتي بالديمقراطية هو، في معظمه، اهتمام بانتقاد كيف عامل وتناول الفلاسفة والمنظرين السياسيين الديمقراطية. وبمصطلحاته، إنها نظرية تدور حول معجم مفردات الديمقراطية. وهي بهذا تقدم نقد سلبي إلى حد كبير. لكن، من جهة أخرى، يقدم رورتي بعض الوصفات الإيجابية لنظرية أو ممارسة الديمقراطية مستشهدا ببعض الكتاب والروائيين ومواقفهم، مثل أوريل، أو القادة السياسيين الشعبيين مثل مارتن لوثر كنج، ولكن ليس الفلاسفة.

يشير نورمان جراس أنه بسبب الأهمية التي يضفيها رورتي على النقاش واستمراريته، فإن ليبرالية برجوازية ما بعد الحداثة تكون أكثر راديكالية وأكثر إنسانية من الأشكال السابقة لليبرالية. بمعنى آخر، على الأقل في المدينة الفاضلة الليبرالية حيث يكون كل شيء تقريبًا مشروطًا، فهذا يعني أن كل شيء متروك للمناقشة العامة.[31] لكن عمل رورتي يعتمد بوضوح على بعض الادعاءات التي لا تنشأ بوصفها مشروطة ببعض التزاماته الأخرى. وليس كل شيء متروك للسؤال. عن سبيل المثال، يعطي رورتي الأولوية لإجراء محادثة متسامحة، وهو إجراء تواصلي غير مباشر بدون أسس. إنه غير مستعد لدراسة أي من القيم الجوهرية الأخرى التي تشكل جزءًا من هذا التقليد الديمقراطي نفسه، أو التعرف على بعض التقاليد المنافسة أو التكميلية الأخرى. إن رغبة رورتي في القضاء على القسوة والمعاناة أهداف جديرة بالثناء، ولكنها لا يمكن أن تكون أكثر من التزامات تعسفية. يشير رورتي أننا يجب أن نقبل هذه الالتزامات لأن لديها صدى داخل المجتمعات الليبرالية. حتى بمصطلحات رورتي الخاصة، فإن معجم مفردات الديمقراطيات الغربية، ناهيك عن تلك الموجودة في أجزاء أخرى من العالم، تبدو أكثر ثراءً وتعقيدًا من هذا الذي يطرحه رورتي.

رغم الأنتقادات التي قدمتها لعمل رورتي لكن لا يجب أن تنتقص هذا كليا من أهمية عمله بخصوص الديمقراطية. قدمت ما بعد الحداثة تحديًا كبيرًا للطريقة التي يتعامل بها المنظرون مع قضايا أسس النظرية والممارسة السياسية. غالبًا ما يتم اعتبار ادعاءات ما بعد الحداثة حول أحتمالية وعرضية المعرفة بأنها الخطوة الأولى على طريق النسبية، مما يؤدي إلى عدم القدرة على الفعل والتصرف سياسياً. إن دفاع رورتي القوي عن "الليبرالية البرجوازية ما بعد الحداثية" هو محاولة للتوفيق بين ما يُعتبر غالبًا المواقف المتعارضة بين السياسة وما بعد الحداثة. تتحدى نظرية رورتي للديمقراطية الحكمة التقليدية المتمثلة في أنه لا يمكن أن تكون هناك سياسة قوية دون التيقن من أسس ابستيمولوجية (معرفية) تقوم عليها. إن نقطة النهاية في نموذجه السياسي هي: يتم إعادة تعريف ممارسة السلطة على أنها تحول لغوي، ويتم نقل جميع فرص النقد والتغيير في الديمقراطية الليبرالية تقريبًا إلى المجال الفردي الخاص، حيث تختفي فعليًا. لسوء الحظ، يذهب معهم الفرصة لاستجواب حقيقي للقيم الإجرائية والموضوعية والفلسفية التي تشكل مفهوم رورتي للديمقراطية الليبرالية المعاصرة.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

......................

[1] Rorty, Objectivity, Relativism, and Truth, p. 209.

[2] Rorty, Objectivity, Relativism, and T ruth, p. 184.

Rawls, A Theory of justice (Cambridge, MA, Belknap Press of the Harvard University Press, 1971), p. 20 [2]

[3] جون راولز، نظرية في العدالة، ترجمة ليلى الطويل، الهيئة السورية العامة للكتاب، دمشق، 2011، ص 32.

[4]

[5] Rorty, 'Posties', p. 12.

[6] Rorty, Contingency, Irony and Solidarity, p. 63.

[7] Rotry, Objectivity, Relativism, and Truth, p. 208.

[8] Rorty, Objectivity, Relativism, and Truth, p. 211.

[9] Rorty, Contingency, Irony and Solidarity, p. 67.

[10] Rorty, Contingency, Irony and Solidarity, p. 67.

[11] Rorty, 'Posties', p. 12.

[12] Rorty, 'Posties', p. 12.

[13] Rorty, Objectivity, Relativism, and Truth, p. 201.

[14] Rorty, Objectivity, Relativism, and Truth, p. 206.

[15] Rorty, Objectivity, Relativism, and Truth, p. 207.

[16] Rorty, Objectivity, Relativism, and Truth, p. 207.

[17] Bernstein, 'One step forward', p. 556.

[18] R. J. Bernstein, 'Rorry's liberal utopia', Social Research, 57:l (Spring 1990), 31-72.

[19] شيلدون ولين، "الديمقراطية في خطاب ما بعد الحداثة"، مجلة البحوث الاجتماعية، العدد، 57 (صيف 1990)، 5-30. ولمزيد من النقاش حول مقاربات ما بعد الحداثة للديمقراطية، بما في ذلك أراء Rortyذ وHellerذ وFeherذ وLaclauذ وMouffe، راجع M. Saward، "ما بعد الحداثة، البراغماتيون ومبرر الديمقراطية"، الاقتصاد والمجتمع، 23: 2 (1994)، 201 -16.

[20] Rorty, 'Intellectuals in policies', p. 489.

[21] Bernstein, 'One seep forward', p. 547

[22] Bernstein, 'One seep forward', p. 547.

[23] D. Held, Models of Democracy (Cambridge, Policy, 1987), p. 5.

[24] Wolin, 'Democracy in the discourse of postmodernism', p. 25.

[25] Hayek in Held, Models of Democracy, p. 248.

[26] Wolin, 'Democracy in the discourse of postmodernism', p. 14.

[27] N. Fraser, 'Solidarity or singularity, in her Unruly Practices: Power, Discourse and Gender in Contemporary Social Theory {Cambridge, Policy, 1989), p. 104.

[28] Wolin, 'Democracy in the discourse of postmodernism', pp. 19-20.

[29] توماس كون، بُنيَة الثورات العلمية، ص123 فمابعد.

[30] N. Hartsock, Money, Sexand Power: Toward a Feminist Historical Material­ ism (New York, Longman, 1983).

[31] N. Geras, Solidarity in the Conversation of Humankind: The Ungroundable Liberalism of Richard Rorty (London, Verso, 1995), p. 88.

 

 

في المثقف اليوم