أقلام فكرية

التفلسف بين جاذبية الفلسفة ومزالق تاريخها ونقد موقف رورتي منه (1)

علي رسول الربيعيالموقف من تاريخ الفلسفة 

سألوني عن معنى العنوان ودلالته، فقلت: أرى أن الرغبة في التفلسف قد تقع بين حالين في موقعين طرفيين وهما جاذبية المدارس الفلسفية في أن يتبنى المتلفسف طروحات ونظريات أحداها بطريقة مذهبية عقيدية يرفعها فوق التاريخ وبين الوقوع في النسبية التاريخية لكل الأفكار والمشكلات والقضايا الفسفية. فاذن على التفلسف أن يحذر الوقوع كلا الحالين. ومن هنا النظر في طبيعة العلاقة بين الفلسفة وتاريخها.

هناك أعتراف على نطاق واسع أن تاريخ الفلسفة مهم للغاية في مجال الفلسفة وللتفلسف ايضاَ. وأنه يلعب دائمًا دورًا في التدريب الفلسفي وأستيعاب الفلسفة، وغالبًا ما يحتل مكانة بارزة فيهما. علاوة على ذلك، يكرس الكثير من ذوي الأهتمامات الفكرية أنفسهم لدراسة تاريخ الفلسفة. وإن القضايا الفلسفية التي ليست في الأساس تاريخية، أيً بمعنى غير مرتبطة بمرحلة من التاريخ، غالباً ما يتم طرحها في المناقشات الفلسفية المستمدة من تاريخ الفلسفة.

لا جدال في أن تاريخ الفلسفة مهم للفلسفة، إلا أنه من غير الواضح ماسبب هذه الأهمية. تكمن هذه الصعوبة عمومًا في أن الفلسفة هي بالأساس بحث عن حلول لمشاكل بعينها. ولكن لا يقتصر النشاط الفلسفي على حل هذه المشاكل فقط، بل يحاول حل مجموعة معينة أخرى من المشاكل المختلفة ايضاً، وهذه هي العلامة الرئيسة التي تميز العمل الفلسفي من أشكال النشاط الفكري الأخرى. ليس من السهل تحديد المشاكل التي تندرج ضمن هذا النطاق بطريقة دقيقة. لكننا يمكن ندرك مثل هذه المشاكل الفلسفية بسهولة إلى حد ما، عن طريق تشابهها، وكذلك لأن المشاكل الفلسفية عادة ما تنطوي على قضايا ذات تجريد عالي نسبياً تتجاهلها التخصصات الأخرى التي يتم تحديدها بسهولة أكبر.

يمارس معظم الفلاسفة تقريبًا من خلال هذا المفهوم للتفلسف في مجالهم هذا اليوم. ويتضح هذا سواء في عملهم الفلسفي الفعلي أوعلى مستوى الأحكام التي يقررونها بشأن نجاح عملهم أوفشله. لقد سيطرت وجهة النظر الفلسفية هذه على كتابات الفلاسفة السابقين الذين نعتبر أعمالهم فلسفية بشكل نموذجي.

قد تكون آراء الفلاسفة السابقين مفيدة في الجهود الحالية لحل المشاكل الفلسفية الراهنة، من خلال اقتراح استراتيجيات لحلها أو عن طريق الإشارة إلى الوقوع في المغالطات والمزالق والعيوب سابقاً مما ستوجب تجنبها. لكن هذه الفوائد بالكاد تبدو متناسبة في أهميتها المركزية للفلسفة في تاريخها . دعنا هنا نسأل إذا كانت الفلسفة هي أساسًا حل المشاكل، فهل سيكون تاريخ هذه الجهود في حل المشاكل جزءًا راسخًا من مجال الفلسفة، و جزءاً أساسياً من التدرب على التفلسف؟ لماذا لا يُنظر إلى النجاحات السابقة كجزء من معرفتنا الفلسفية الحالية ؟ لماذا يدرس الكثير من أصحاب الأهتمامات الفلسفية تلك الأعمال الفلسفية السابقة، بدلاً من تكريس أنفسهم مباشرة للمشاكل التي تحدد هذا المجال راهناً؟ لماذا ينبغي دراسة تاريخ الفلسفتة، كما هو، على وجه الحصر تقريبًا من قبل أولئك الذين تكون اهتماماتهم وتدريبهم فلسفيًة وليس تاريخيًة؟ قد لايكون الحصول على إجابات مرضية لهذه الأسئلة الصعبة بسهولة إذا كانت الفلسفة نشاطًا أساسيًا لحل المشاكل.

سيكون أحد الردود على هذه الصعوبة هو الأرتياب أو تفنيد الرأي القائل أن الفلسفة نشاطًا لحل المشاكل. فقد يصر المرء على أن تاريخ الفلسفة ليس مهمًا تمامًا للعمل الفلسفي. أو ربما ينكر، من ناحية أخرى، أن الفلسفة مجال هدفه الرئيس هو حل المشكلات. يبدو أن كلاً من الموقفين، الموقف الذي يؤيد مفهوم للفلسفة بوصفها حل للمشكلات والموقف الآخر الذي ينظر اليها بوصفها مرتبطة بتاريخها وهو ذو ذو أهمية لها، راسخين. ولكن أنْ ينكر أيً منهما الآخر عليه أن يقدم وجهة نظر متماسكة ومقنعة .

هناك طريقة أخرى أكثر تفصيلاً تركز على أن تاريخ الفلسفة يقود الى شكوك حول نموذج حل المشاكل. لقد أكد علماء التاريخ مثل R. G. Collingwood [1] بقوة على أن المشاكل الفلسفية تنشأ في سياقات فكرية معينة، وهذا ما يعطي تلك المشاكل الأهمية التي تمتلكها. إذا كان المرء يؤكد بقوة على فكرة أن المشاكل الفلسفية هي بهذه الطريقة علاج لسياقاتها التاريخية، فقد لا يبدو أن مثل هذه المشاكل لها مكانة مستقلة بوصفها ذات أهمية فكرية جدية. قد يبدو نموذج حل المشاكل وكأنه مجرد خدمة يقدمها الفلاسفة لتبقى الفلسفة على قيد الحياة. وهكذا يمكن أن تقوض هذه التاريخية فكرة أن الهدف الحقيقي للفلسفة هو حل المشاكل. هذا هو التحدي أزاء المفهوم التقليدي للفلسفة الذي واجهه ريتشارد رورتي ورد عليه في الفلسفة ومرآة الطبيعة، وفي عواقب البراغماتية والكتابات الحديثة الأخرى.[2]

إن هدفي الرئيسي هو شرح أهمية الفلسفة في تاريخها، بالنظر إلى أن الفلسفة هي في أحد اوجهها الأساس نظام لحل المشاكل. لكن قبل أن أضطلع بهذه المهمة، أريد أن أواجه التحدي المطروح على صورة حل المشاكل من قبل التاريخية المتطرفة بالصوغ الذي يقدمه رورتي. في القسم الأول، أعرض حجة رورتي التاريخية ضد الرأي القائل بأن الفلسفة مكرسة لحل المشاكل. وأبين بعد ذلك في القسم الثاني أن مثل هذه التاريخية لا تقوض صورة الفلسفة في حل المشاكل، وأن تاريخية رورتي والصورة البديلة التي يعطيها للفلسفة تعتمد على معيار مزدوج يؤثر على فكرته عن التاريخية. وأنتقل في القسم الثالث، إذن إلى أهمية تاريخ الفلسفة للفلسفة. وأتناول الخطط السابقة المعتادة لأهمية تاريخ الفلسفة، وأزعم أنها غير كافية. في الجزء الرابع، أختتم حديثي بالقول إن تاريخ الفلسفة له أهمية خاصة للفلسفة لأن فهم وجهات النظر الفلسفية والتوصل إلى الحقيقة حول القضايا الفلسفية يسير بالضرورة جنبًا إلى جنب. تاريخ الفلسفة له أهمية فلسفية مفعمة بالحيوية لأننا يجب أن نواجه ونفكر في القضايا الفلسفية من أجل تفسير الموقف الفلسفي لأي شخص آخر وبالتالي تفسير أي موقف فلسفي من الماضي.

 موقف روريتي العدائي

تُعرف الفلسفة، في بعض الأحيان، من خلال مجموعة من المشاكل التي تميًزها أو الخاصة بها و تتصف تلك المشاكل بأنها ثابته ومستمرة. تؤدي مثل هذه المشاكل إلى جذب انتباه الفلاسفة في كل عصر، ما لم يتم حلها بشكل حاسم. يعتبر رورتي، إن هذا الرأي أفتراض مقبول وشائع على نطاق واسع في النصوص المعيارية والنموذجية حول تاريخ الفلسفة.[3] ويرى أن هذا النوع من التاريخ يعكس الفكرة السائدة في مثل هذه النصوص وهي، "أن الفلسفة" اسم لحقل معرفي، وأنه، في جميع الأزمنة والأمكنة، يمكن الوصول إلى الأسئلة الأساسية العميقة نفسها.[4]

لكن ليست هذه النصوص المعيارية النموذجية للفلسفة هي المصد الرئيس لفكرة أن الفلسفة تعالج المشكلات الدائمة أو الثابتة والمستمرة. بل بالأحرى، تستمد تلك الفكرة قوتها أساسًا من الطريقة التي يناقش بها الفلاسفة أنفسهم وسابقيهم. بأعتبار أن الفلاسفة السابقين واجهوا المشكلات نفسها التي تشكل جوهر المناقشات الحالية ومعالجتها.

نتعامل بهذه الطريقة مع أسلافنا الفلاسفة حتى يومنا هذا. وقدم أرسطو وكانط مثل هذا التفسير لأسلافهم الفلاسفة، وكانت تلك التفسيرات منهجية ومثيرة للإعجاب وقدمت نموذجين للأجيال المتعاقبة. حتى هيجل، الذي رأى أن الفلسفة تطورت بشكل منهجي ديالكتيكي وأن هناك تقدم في تاريخ الفلسفة، قرأ ضمنيا القضايا الحالية في الماضي. لأنه تصور أن الفلاسفة السابقين طرحوا أسئلة لا يمكن فهم معناها الحقيقي إلا من حيث المشاكل التي ظهرت لاحقاً. المشاكل السابقة هي، في الواقع، نصوص جدلية غير مكتملة من الأسئلة الحقيقية التي عالجها هيجل بنفسه، ويمكن فهمها بشكل كامل وصحيح فقط من حيث هذه الأسئلة. أنا أزعم في الأقسام اللاحقة أن هذه الطريقة لتمثل المرء لأسلافه طبيعية ومثمرة وفي الوقت نفسه لا مفر منها إلى حد كبير. وإن وصف أسلافنا الفكريين يعزز بوضوح الانطباع بأنهم قد شاركونا أهتماماتنا حول المشاكل الدائمة.

لكن علينا أن نكون حذرين بشأن ما نستنتجه من هذه الممارسة المتمثلة في تمثيل الفلاسفة السابقين على أنهم عالجوا المشاكل التي تثير أهتمامنا الحالي. قد تعكس هذه الممارسة الطريقة التي نمثل بها وجهات نظر الآخرين أكثر من أي صفة أبدية للمشاكل التي تمت معالجتها. علاوة على ذلك، هناك أسباب مقنعة لرفض فكرة المشاكل الفلسفية الدائمة. نعم أنه لمن الصحيح أن المشكلات التي عالجها الفلاسفة في العصور المختلفة تشبه بعضها بعضًا من نواحٍ عديدة، لكنها نادراً ما تكون متطابقة تمامًا. كما أكد الكثيرون من ديوي إلى رورتي، أن هذه المشاكل تنشأ في سياق مواقف فكرية واجتماعية معينة، وفي مراحل مختلفة من اكتساب المعرفة التي تتصل بها. إن هذه السياقات حاسمة لفهم بقاء أو الأحتفاظ الفكري بالمشاكل الفلسفية التي نواجهها اليوم؛ وإلى هذا الحد، تعيًن هذه السياقات جزئياً ما هي تلك المشاكل. فعرض المشاكل بصرف النظر عن تلك السياقات لا يؤدي الاً إلى تشويه حتما. وغالبًا ما نجد هذا التشويه واضحًا في الأوصاف التي قدمها بعض الفلاسفة لأسلافهم. ويكون الأمر أكثر دراماتيكية عندما تتباين التهم المعاصرة للفلاسفة السابقين بطرق تعكس الاختلافات الفلسفية بين أولئك الذين يقدمون الأوصاف.

 يبدو إلى هذا الحد، أنه من المعقول اعتماد نظرة تاريخية تجاه المشاكل الفلسفية. لأنه في الواقع، حتى في عصر معين، قد تكون المشاكل أقل تشابهًا من ظهورها للوهلة الأولى، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أختلاف السياق الثقافي ذي الصلة بهذه المشكلات. لكن لا تهدد هذه التاريخية بأي حال نموذج الفلسفة الذي ينظر الى الفلسفة أو ودورها كحل للمشاكل. في الواقع، سيكون من المفاجئ، من وجهة النظر هذه للنشاط الفلسفي، إذا لم تتحول المشاكل أو حتى تتطور تدريجياً. من المفترض أن تسفر الجهود المبذولة لحل المشاكل عن نتائج محددة في بعض الأحيان – وحاسمةً في أحيان أخرى، وربما في كثير من الأحيان تؤدي الى تحسينات في الصوغ وتوضيحات الافتراضات. وعندما يحدث هذا التقدم، مهما كان متواضعا، فإن المشاكل التي نعالجها ستتغير. وإذا رأينا، مع راسل، أن المشكلات الفلسفية معمرة حقًا، فعلينا أن ننكر، أن مثل هذه المشاكل عرضة لأي حل على الإطلاق.[5]

إذا كانت المشاكل الفلسفية مدفوعة جزئياً بالسياق الفكري أو الاجتماعي التي تنشأ فيه، فمن المرجح أن يؤدي التحول في السياق إلى حدوث تحول مماثل في المشاكل التي يتم معالجتها. قد يحدث هذا التغيير حتى عندما لا يُعتقد أن المشاكل السابقة قد تم حلها بشكل مرض. عندما الأهتمامات التي أدت بنا إلى طرح أسئلة معينة لم تعد تجذب انتباهنا، ستبدو هذه المشاكل مصطنعة وغير مُحفزة للأهتمام. وإذا استمرت هذه المشاكل في جذب الاهتمام فستبدو المناقشات حول الحلول المتنافسة عديمة الجدوى وبلا معنى، وأن هذه الحلول المقترحة ليس أكثر من تمارين فكرية. ولن يعكس هذا العمل الفلسفي رغبتنا في تعلم شيء جديد أو تعميق فهمنا للأشياء.

يزعم رورتي أن هذا الوضع بالضبط يحصل اليوم. ويجادل قائلاً إن المشاكل المتعلقة بالعقل والمعرفة والمعنى التي هيمنت على الفلسفة المعاصرة، بل والمحددة للفلسفة الحديثة ايضاً مستمدة من اهتمامات القرن السابع عشر والثامن عشر ولم تعد لها أي هيمنة لأن لم نعد نعتقد بها. لاتمثل المناقشة الفلسفية لهذه المواضيع الأن الأً قطع أثرية نموذجية لمحاولات حل المشاكل التي لا معنى لها. فيخلص رورتي الى أنه بدلاً من الاستمرار في محاكاة المفكرين السابقين لإيجاد حلول مرضية، يجب علينا بكل بساطة التوقف عن معالجة هذه المشاكل على الإطلاق.ويمكن للقارى أن يجد تفصيلا لموقفه هذا في الجزء الأول والثاني من كتابه "الفلسفة ومرآة الطبيعة ."

إذا كان رورتي محقًا أن المشكلات المركزية للفلسفة الحديثة أصبحت فارغة أوبلا معنى، فقد نتوقع إعادة صياغة تلك المشاكل في نهاية المطاف، أو حتى استبدالها بأسئلة جديدة تعكس بشكل أفضل أهتمامات اليوم. وقد حدثت مثل هذه التحولات من قبل، ومن الطبيعي أن نفترض أنها ستحدث مرة أخرى.

 ومع ذلك، فإن تاريخية رورتي هي الأكثر تطرفًا. إذا لاحظ المرء أن المدارس في فترة ما تفسح المجال مرارًا للمشاكل التي صاغها جيل جديد في وقت لاحق، وقد يتوصل المرء في النهاية إلى رأيً أن كل هذه المشاكل هي مثل الظواهر الثقافية العابرة، وبالتالي تصبح قيمة محاولة حلها موضع تسـاؤل.

 

وإذا كانت الأهتمامات الفلسفية لا تمر إلا عندما تبدو المشاكل بلا جدوى، وليس لأننا نجد حلولاً مقنعة لها، وقد يشك المرء فيما إذا كانت مثل هذه الحلول ممكنة. وفقًا لذلك، يرى رورتي أن التخلص من المشاكل التي عفا عليها الزمن اليوم لا يؤدي إلى مشاكل جديدة أكثر حيوية، ولكن إلى نهاية الفلسفة التي يُنظر إليها على أنها نظام لحل المشاكل. إن تحذيراته المتعلقة بالقضاء على المرض تتجاوز الاهتمامات الحالية للفلسفة بوصفها صورة لنموذج حل المشاكل الى الفلسفة نفسها. مساران للتخلص من المرض ممكنان. يمكننا أن نفكر في الفلسفة بعبارات لا تحل المشاكل، كما يوصي في الجزء الثالث من "الفلسفة ومرأة الطبيعة" أو يمكننا التخلي عن الفلسفة تمامًا والدخول في "ثقافة ما بعد فلسفية"، كما يتنبأ في كتابه: Consequences of Pragmatism (xxxvii-xliv). يأمل رورتي، مثل ماركس، أن إدراكنا للنمط الذي حكم مرورنا من مرحلة تاريخية إلى أخرى حتى الآن، سيجعلنا قادرين على التحرر من هذا النمط.[6]

 يعبر موقف رورتي التاريخي عن قدر لا بأس به من جاذبية حدسية على الرغم من أهدافه الجذرية. يختلف الفلاسفة بشكل كبير حول القضايا المركزية؛ فعلى الرغم من الدور المركزي للتفكير ( العقلي) في النشاط الفلسفي، لكن نادراً ما يتم حل هذه الخلافات طبقاً لحجج عقلانية. أنه من المثير للدهشة كيف أنه نادراً ما تقود الحجة أي شخص في الواقع إلى تغيير موقفه في النقاش. تبدو الخلافات غير متأثرة بالحجة أو المحاججة العقلانية في جميع المجالات عندما تنشأ قضايا ذات أهمية نظرية شاملة. وأن مثل هذه الخلافات وباء شائع في الفلسفة. من الصعب أن نتخيل كيف يمكن أن نفهم ونضفي معنى على "تلك الاختلافات المذهلة في الاعتقاد الفلسفي"، كما لاحظ جون ديوي، والتي غالبًا ما "أذهلت المبتدأ وأصبحت لعبة الخبير".[7] علاوة على ذلك، تحدث مثل هذه الخلافات على جميع مستويات التجريد، مما يترك القليل من الأرضية المشتركة للمتنازعين على التراجع عنها. تدعو هذه الاعتبارات، توافقاً مع رورتي، إلى أن القضايا نفسها تكون عديمة الجدوى وفارغة المعنى. وأن صف القضايا بطريقة تاريخية يزيد من هذا الحدس. إن النظر إلى قضية ما كجزء من ماضينا التاريخي، يجعل النظر اليها تلقائيًا أنها تفتقر إلى أهتمام حقيقي بالحاضر.

 أريد أشير هنا الى قضية منهجية ضرورية، وهي أنه من المهم التمييز بين رؤية شيء ما بأعتبار أنه ينتمي إلى تاريخنا ورؤيته في سياق التطورات والتغيرات التاريخية. يمكن أن يؤدي تطبيق المنظور التاريخي أو السياق التاريخي إلى تعزيز فهمنا للأشياء، دون أن يشير على الإطلاق إلى أي نقص في الاهتمام الحالي في القضايا المطروحة. ويمكن للمناقشة التاريخية أن تحيي الاهتمام في موضوع ما. لكن عندما لا تزال القضية تثير الاهتمام الحالي، فإن تاريخها يكون غير مكتمل. لذلك عندما نصف مشكلة من الناحية التاريخية فقط، وكجزء من ماضينا فقط، فإننا نصفها بأنها خالية من الاهتمام الحالي.

وبالعودة الى سياق نقاشنا يمكننا ان نقول؛ لكن مثل هذه الاعتبارات العامة لا تكاد تكون مقنعة. فالمناقشات الفلسفية تضيف القليل إلى معرفتنا أو فهمنا إذا قمنا بقياس هذا التقدم من خلال ما إذا كان يتم تحويل أتباع أو مؤيدي موقف ما إلى موقع وموقف آخر. ولكن من وجهة نظر مدرسة معينة، يلتزم أعضاؤها بموقف لا يزال مستقرًا بشكل معقول، غالبًا ما تؤدي هذه المناقشات إلى تقدم كبير بشأن القضايا محل النقاش. ولا تختلف الفلسفة عن المجالات الأخرى في هذا الصدد. عادة ما تبدو برامج البحث المتنافسة عقيمة نسبيًا لبعضها البعض، ولا يوجد مجال آخر. علاوة على ذلك، فإن القدرة على شرح وتمثل قضية تاريخية فقط، لا تكاد تكون دليلًا موثوقًا لحالتها المعرفية.

لكن رورتي لا يبقي قضيته في حدود هذه الاعتبارات؛ بل أنه بدلاً من ذلك، يكرس الكثير من كتابة "الفلسفة ومرآة الطبيعة" لتقديم تفسيرات موسعة حول المناقشات الفلسفية المعاصرة للعقل والمعرفة واللغة، والخلفيات التاريخية التي أدت إليها، من أجل إالكشف عن أن القضايا التي تشغل هذه النقاشات هي فارغة في النهاية، . ويكفي النظر في معالجته، في الجزء الأول، لمشكلة العقل والجسم، لأن الحالتين الأخريين تتبعان النمط والطريقة نفسها في المحاججة.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...............

[1] Collingwood, An Autobiography (London: Oxford University Press, 1939), 70.

[2] Philosophy and the Mirror of Nature (Princeton: Princeton University Press, 1979 Consequences of Pragmatism (Minneapolis: University of Minne­ sota Press, 1982). 'Realism and Reference', The Monist, LIX, 3 {July 1976): 321-340

 'The Historiography of Philosophy: FourGenres', in Philosophy in History,edited by Richard Rorty, J.B.Schneewind, and Quentin Skinner (Cambridge: Cambridge University Press, 1984): 49-75.

[3] Richard Rorty, 'The Historiography of Philosophy, 49-75.

[4] Rorty, 'The Historiography of Philosophy: Four Genres',63.

[5] Bertrand Russell, The Problems of Philosophy (London: Oxford University Press, 1912), 155-57

[6] Jonathan Ree, Michael Ayers, and Adam Westaby, Philosophy and its Past [Hassocks: The Harvester Press, 1978], p. 7

[7] John Dewey, Experience and Nature,Dover Publications Inc.; Reprint edition (25 July 1998), 30.

 

في المثقف اليوم