أقلام فكرية

مبدأ اللايقين في الفيزياء الحديثة: صفة موضوعية أم صفة ذاتية (2)

محمود محمد علينعود نكمل حديثنا عن مبدأ اللايقين عند مدرسة كوبنهاجن فنقول: في الوقت الذي يدافع فيه هيزنبرج عن فكر وتوجه مدرسة كوبنهاجن، نجده يقدم عرضا لمفهوم السببية في ضوء ميكانيكا الكوانتم، حيث نراه يقول عن مبدأ السببية: " لقد درج الناس علي القول ن خلال السنين الأخيرة، أن العلم الذري قد أبطل مبدأ السببية أو علي الأقل، أفقده قسطا من سلطته، وذلك إلي درجة أنه لم يعد من الممكن الحديث عن ضبط عمليات الطبيعة، بالمعني الدقيق لكلمة ضبط، بواسطة قوانين . وأحيانا يقال فقط إن مبدأ السببية لا يسري مفعوله إلي علم الذرة الحديث "؛ ويستطرد هيزنبرج فيقول: "لقد عمل العلم الذري منذ بداية نشأته علي صياغة وتطور مفاهيم لا تتفق، والحق يقال، مع هذه الصورة التي رسمناها عن مبدأ السببية . ولكن هذا لا يعني أن هذه المفاهيم الجديدة تناقض الأسس التي قامت عليها تلك الصورة . فكل ما في الأمر هو أن طريقة التفكير الخاصة بالعلم الذي كان شائعا، لا بد أن تتميز منذ البداية، عن أسلوب التفكير الذي تقوم عليه الحتمية . لقد سبق لعلم الذرة القديم أن بني تفسيره للكون علي أساس فكرة الترابط الإحصائي بين العديد من العمليات الصغيرة المزولة، فعمم هذه الفكرة وقدم لنا صورة عن العالم، قوامها أن جميع الكيفيات الحسية التي للمادة، يرجع السبب فيها بكيفية غير مباشرة، إلي وضعية الذرات وحركتها، يقول ديموقريطس " لا يكون الشئ حلواً أو مراً إلا في الظاهر. أما في الواقع فلا وجود لشئ آخر غير الذرات والخلاء "، فإذا فسرنا هكذا الظواهر الحسية بواسطة تضافر العديد من العمليات الصغيرة المعزولة نتج من ذلك ضرورة، أننا نعتبر قوانين الطبيعة إحصائية لا غير . والحق أن هناك قوانين إحصائية .

ويشرح هيزنبرح الطابع الإحصائي لنظرية الكوانتا قائلا: " علي الرغم من لأن المعرفة الناقصة بمنظومة ما كانت، منذ الاكتشافات التي توصل إليها كل من " جيبس " و " بولتزمان "، مندرجة في الصياغة الرياضية للقوانين الفيزيائية، فإنه لم يقع التخلي عن مبدأ الحتمية إلا بعد ظهور نظرية الكوانتا علي يد بلانك . لم يجد بلانك في البداية سوي عنصر واحد يدل علي الطابع المنفصل لظواهر الإشعاع التي كان يدرسها . لقد أثبت أن الذرة المشعة لا تصدر الطاقة بكيفية منفصلة علي شكل صدمات . إن هذا الانفصال في إصدار الطاقة الذي يشبه تتابع الصدمات، قد أدي، مثله في ذلك مثل جميع المفاهيم المتعلقة بنظرية الذرات، إلي القول بالطابع الإحصائي لظاهرة الإشعاع . ومع ذلك كان لا بد من مرور خمس وعشرين سنة علي اكتشاف الكوانتا حتي يصبح في الإمكان إثبات أن نظرية كوانتا، تحتم، في الواقع إعطاء الصبغة الإحصائية للقوانين الفيزيائية، والتخلي عن مبدأ الحتمية . فمنذ أن ظهرت أبحاث أينشتين وبور وسومر فيلد بدا واضحا أن نظرية الكوانتا هي المفتاح الذي يفتح باب الفيزياء الذرية علي مصراعيه . وكان النموذج الذري الذي قال به روتر فورد وبور خير مساعد علي تفسير العمليات والتفاعلات الكيماوية مما سمح منذ ذلك الوقت بدمج الفيزياء والكيمياء والفيزياء الفلكية في واحد منصهر، وحتم التخلي عن مبدأ الحتمية المحض عن صياغة القوانين الرياضية للظواهر الطبيعية حسب نظرية الكوانتا .

ومن هذا المنطلق شرع هيزنبرج في عقد مقارنة مذاهب كانط بالفيزياء الحديثة، حيث يقول: "... من اللحظة الأولي سيبدو مفهومه المحوري عن الأحكام التركيبية القبلية، وقد محقته اكتشافات هذا القرن ( يقصد القرن العشرين). غيرت نظرية النسبية رؤيتنا للمكان والزمان، بل لقد كشفت في الحقيقة ملامح جديدة للزمان والمكان، ليس بينها ما نراه في صور كانط القبلية للحدس الخالص . لم يعد قانون العلية يطبق في نظرية الكم ولم قانون حفظ المادة صحيحا بالنسبة للجسيمات الأولية . الواضح أن كانط لم يكن له ليتنبأ بالاكتشافات الحديثة . لكن لما كنت مقتنعا بأن مفهوماته ستكون الأساس لأي ميتافيزيقيا مستقبلية يمكن أن تسمي علما، فمن المشوق أن تري أين كانت حججه خاطئة .

ويستطرد هيزنبرج: " دعنا نأخذ قانون العلية كمثال يقول كانط إنه حينما نلاحظ واقعة فإننا نفترض أن ثمة واقعة سبقتها لا بد للأخرى أن تنتج عنها حسب قاعدة ما . وهذا كما يقرر كانط أساس كل العمل العلمي . أما إمكانية أن نجد دائما هذه الواقعة السابقة من عدمه فهو أمر لا يهم بالنسبة لهذه المناقشة . والواقع أننا نستطيع أن نجدها في الكثير من الحالات . لكن حتي لو لم نستطع، فليس ثمة ما يمنعنا من نسأل عما قد تكونه، وأن نبحث عنها . وعلي هذا فقد تم تطويع قانون العلية إلي منهج البحث العلمي . إنه الشرط الذي يجعل العلم ممكنا، ولما كنا نطبق هذا المنهج بالفعل فإن قانون العلية قبلي ولا يشتق من الخبرة . فهل هذا صحيح في الفيزياء الذرية ؟ فلنأخذ ذرة راديوم يمكنها أن تطلق جسيم ألفا لا يمكن أن يتنبأ بالوقت الذي سيطلق في المتوسط في نحو ألفي عام . وعلي هذا فعندما نلاحظ الانطلاق فلن نبحث عن مثل هذه الواقعة، ولا يلزم أن تثبطنا حقيقة أن أحداً لم يلحظ حتي الآن مثل هذه الواقعة . لكن لماذا تغير المنهج العلمي بالفعل في هذه القضية الجوهرية بالذات منذ كانط .

ثم يتساءل هيزنبرج: " ثمة إجابتان محتملتان لهذا السؤال . الأولي منهما هي: لقد أقنعتنا الخبرة أن قوانين نظرية الكم صحيحة، فإذا كانت كذلك، فإننا نعرف أننا لن نجد واقعة سابقة تعلل انبعاث الجسيم في وقت معين . أما الإجابة الثانية فهي: إننا نعرف الواقعة السابقة، لكن ليس بشكل دقيق تماما . إننا نعرف القوي في النواة الذرية المسئولة عن إطلاق جسيمات ألفا . لكن هذه المعرفة تحمل اللامحققية الناجمة عن التفاعل بين النواة وبين بقية العالم . فإذا أردنا أن نعرف السبب في إطلاق جسيم ألفا في ذلك الوقت المعين فمن الضروري أن نعرف التركيب الميكروسكوبي للعالم بأكمله بما فيه أنفسنا، وهذ أمر مستحيل . ولهذا فلم تعد حجج كانط للصفة القبلية لقانون العلية قابلة للتطبيق هنا .

إن قول هيزنبرج باللاحتمية والذاتية في الفيزياء الحديثة استنادا إلي احتمالية هذه الوقائع وإحصائية قياسها، قد فتح باب الاجتهاد لوضع تفسيرات ميتافيزيقية للكون الذري، وأول هذه التفسيرات هو القول بنظرية في الحرية الإنسانية استناداً إلي فكرة اللاحتمية . والعلماء الذين يذهبون هذا المذهب يحددون المسألة علي هذا النحو: لا يمكن أن توجد سيطرة حتمية كاملة علي الظواهر غير الحتمية ما لم تكن الحتمية مسيطرة علي الذهن نفسه، وعلي العكس من ذلك لو أردنا أن نحرر الذهن فينبغي إلي حد ما أن نحرر العالم المادي كذلك .

ويبرر هؤلاء العلماء موقفهم هذا من خلال مقارنتهم بين ميكانيكا نيوتن وميكانيكا الكوانتم، فالأولي قد ضربت علي الكون ستارا حديديا من الحتمية الألية الصارمة، التي تعبر عن سيطرة الضرورة العقلية علي الطبيعة والإنسان علي السواء . فكل شئ مقدر له سلفا وبنوع من الضرورة، ماذا سيكون عليه في المستقبل . وهكذا عاش الإنسان في ظل حتمية نيوتن أو السببية الضرورية كما لو كان يختنق . فكل ما يحدث لا بد له من سبب . فإذا عرف السبب كان كالقضاء المبرم الذي لا راد له، بحيث يتحتم علي الشئ أن يحدث . وقد أحسن كل من اسبينوزا وكانط التعبير عن هذه الحتمية كل بطريقته الخاصة . وبينما كان كانط علي استعداد للتضحية بالضرورة الابستمولوجية من أجل الأخلاق، كان ديكارت قد سبقه إلي ذلك، حينما قرر أن الإرادة أوسع من الذهن . أي أن الإرادة الحرة لا تخضع لمنطق التفكير الرياضي .

وكان العكس من ذلك، جاء مبدأ اللاتحديد عند هيزنبرج ليفك الحصار الذي ضربته حتمية نيوتن علي الكون بما في ذلك الإنسان . والأساس المنطقي الذي يعتمد عليه هذا اللاتحديد هو نظرية الاحتمالات بمعني أن حتمية نيوتن قد قامت علي فكرة المسار الثابت والذي تحتم الجمع بين الموضع والسرعة بالنسبة للشئ المتحرك . ولكن بناء علي معادلة هيزنبرج علي هامش الخطأ، فمن المستحيل الجمع بين الدقة الكاملة في قياس الموضع والسرعة بالنسبة لحركة الإلكترون . فيقول ويلر: " إن تركيب الأجهزة لقياس إحداثيات الإلكترون ( أي موضعه المكاني ) يحول أليا دون وضع المعدات المطلوبة لقياس سرعته في المكان نفسه، والعكس صحيح، فعملية القياس ذاتها تحدث في وضع الإلكترون تغيرا لا سبيل إلي التنبؤ به . وهكذا حاول البعض استثمار مبدأ اللاتحديد بطريقة ميتافيزيقية ليؤكد بها حرية الإرادة الإنسانية بالرغم أن منهم علماء يعرفون حدود العلم وبالرغم من أن هيزنبرج لم يترق ببحوثه إلي الإنسان . فقد ذهب " بافينك " و "إدنجنتون "، كل منهما علي حدة، إلي تفسير عجز العلماء عن التنبؤ بأي الإلكترونات هو الذي سيقفز من مداره، وإلي أي المدارات سيتجه، نقول تأولوا ذلك بأن الإلكترون " حر " في أن يقفز متي وأني شاء . أفيكون الإنسان وإرادته أقل حرية من الإلكترون .

ولكى نفهم وقع نظرية الكم على تصورنا العام للكون فهما واضحاً، فقد يحسن بما ألا نسأل الفلاسفة والعلماء، وأن نسأل الكتاب الأدباء، الذين عبروا عن مشاعر القرن العشرين . كتب جورج برنارد شو يقول: "إن العالم الذي بناه استحق نيوتن والذي ظل القلعة المنيعة للمدينة الحديثة على مدى ثلاثمائة عام قد تهاوى أمام نقد أينشتاين كما تهاوت جدران المعبد . كان عالم نيوتن يمثل معقل المذهب العاقل للحتمية: فالكوكب فى مداراتها تخضع لقوانين ثابتة لا تتغير، وكذلك تخضع الالكترونات فى مدارها فى الذرات لنفس القوانين العامة إن كل لحظة من لحظات الزمن تحكم اللحظة التى تليها . . . إن كل شئ يمكن حسابه: وكل ما وقع كان حتما أن يقع: لقد أزيلت الأوامر من فوق مائدة القوانين وحل محلها علم الجبر الجارى: معادلات الرياضيين .

ويصف برناردشو بعد ذلك الإنسان الحديث، حيث أصبحت لديه فيزياء نيوتن بديلاً للدين التقليدي . ويستطرد شو قائلا: " هنا كان إيماني، وهنا وجدت عقيدتي فى العصمة من الخطأ . وأنا الذى ازدريت الكاثوليكى وهو يحلم هباء بالإرادة الحرة المسئولة، مثلها ازدريت البروتستانتى بتظاهره بالحكم المتميز . ويصف " شو " بعد ذلك كيف تهشم هذا الدين البديل بواسطة الفيزياء الذرية ونظرية الكم فى القرن العشرين . يستطرد " شو " قائلا " والآن، - الآن – ماذا يبقى من ذلك ؟ إن مدار الإلكترون لا يخضع لقانون، فهو يختار مسارا وينبذ مسارا أخر . فكل شيء يسير على هواه، والعالم الذى كنت تستطيع الاعتماد عليه فيها مضى لم يصبح موضعا للاعتماد عليه " .

ولكي نفهم علي نحو أكثر تحديداً الفائدة من استخدام تماثلات الفطرة السليمة في التفسيرات الميتافيزيقية لمبدأ اللايقين في الفيزياء الذرية ، يجب أن ندرس مثال ورد في كتيب لبرنارد بافنك وهذا المثال يعود إلي القوانين التي تحكم انتقال الإلكترون من أحد المدارات حول نواة الأيدروجين إلي مدار آخر . وتحدد لنا قوانين ميكانيكا الكم ما هي المدارات التي يمكن أن يتحرك فيها الإلكترون حول النواة، غير أنه إذا كان هناك إلكترون معين يدور حول نواة الذرة، فليس هناك قانون يحدد لنا تحديدا دقيقاً، وفي كل لحظة، ما الذي سيفعله هذا الإلكترون في اللحظة التالية – هل سيقفز إلي مدار آخر أم لا يفعل ؟ وتستطيع النظرية أن تحدد فقط متوسط عدد الإلكترونات التي تقفز في الثانية التالية، ولكنها لا تستطيع أن تحدد ما إذا كانت إلكترون معين سوف يقفز أم لا . ويعطي فانك تفسيرا لهذا الوضع: " يجب أن نتذكر أولا أن الفعل الأولي المفرد (القفزة) لا يمكن حسابه علي هذا النحو، ولكنه يترك حرا ؛ وأن نتذكر ثانيا أن الجوهر الحقيقي لهذه الحرية ربما كان حدثاً فيزيائيا ... وبعبارة أخري، إن الاختيار " الحر " للفعل الأولي، والذي لا تحدده الفيزياء، لا وجود له في الواقع إلا كجزء من " خطة" أو " هيئة " ؛ أو هو جزء من مجموعة متسلسلة من الهيئات والأشكال الأرقي يمتص دائما الشكل المختلف ليصنع منه تركيباً أعلي ... والجديد في الأمر هو أن الفيزياء تقترح اختبار هذه الفكرة .

وتتضح الخاصية التماثلية لهذا التفسير في هذه الحالة . فبما أن قواعد ميكانيكا الأمواج لا يمكن صياغتها بلغة الفطرة السليمة، فإن المؤلف يقارن سلوك الإلكترون بسلوك الكائن الحي " الحر " في اختيار ما يفعله في اللحظة التالية . وقد استخدمت كلمة " حر " هنا في لهجة الفطرة السليمة الغامضة التي بمقتضاها نصف ما يفعله الكائن الحي بأنه فعل " حر " لأننا لا نعرف القواعد التي نستطيع أن نحدد بها ما سوف يفعله في اللحظة التالية . وبعد أن ترسخ وجود الحرية " الحرية " في العالم الفيزيائي فإن المرء يستخدم هذه " الحقيقة " لكي يصبح من المعقول أن تكون القرارات البشرية قرارات " حرة " . فمن المؤكد أن لا يمكن أن يكون أقل تحرراً من الشيء الفيزيائي غير الحي . وقد كان تبرير مذهب الإرادة الحرة بواسطة الفيزياء لذرية واحداً من الاسباب التي أعلن من أجلها مراراً أن الفيزياء قد صارت اليوم أكثر تآلفاً مع الدين التقليدي عما كانت عليه لقرون مضت .

وبطبيعة الحال، يجب أن نذكر أن نصوصاً مثل " أدخلت التقدمات الأخيرة في الفيزياء عوامل عقلية في العلم "، أو " إن العلوم الحديثة تبرر مذهب " الإرادة الحرة " هي نصوص لا تتحدث عن الفيزياء من " الوجهة العلمية " . إنها في الواقع تتناول التفسيرات الميتافيزيائية للنظريات الفيزيائية الأخيرة . ولكي نحدد المعني الدقيق لهذه النصوص يجب ان نقول: إن الفيزياء المعاصرة قد تعرضت لتفسير ميتافيزيائي، وطبقا لهذا التفسير يعتبر الإلكترون ناتجا عن قوي روحية، كما أنه في قفزة من مدار إلي مدار، إنما يمارس عملاً من أعمال الإرادة الحرة . ومن ثم فإن علينا أن نتساءل عما إذ كانت الميكانيكا النيوتونية لا تستطيع أن يكون لها تفسير ميتافيزيائي يرخص بإدخال القوي الروحية والإرادة الحرة إلي الفيزياء . وبما أن كل هذه التفسيرات هي في الأساس عرض لتماثلات من الفطرة السليمة للنظريات الفيزيائية فيمكننا فقط أن نتساءل عما إذا كان من الأقرب إلي " الطبيعة " أو إلي " الفطرة السليمة " أن نفسر ميكانيكا الكم بواسطة القوي الروحية وألا نفعل ذلك بالميكانيكا النيوتونية .

والحقيقة، أن هؤلاء الذين دافعوا عن الحرية الإنسانية بمنطق العلم سيان من العلماء أو الفلاسفة أو حتي من رجال الدين، لم يكن هدفهم هدم الحتمية في العلم أو التهليل للاحتمية، يل فقط تأكيد أن الظواهر لها قوانينها الخاصة المختلفة عن قوانين المادة الصماء . وإنه إذا كانت هناك حتمية فمحلها العالم الفيزيائي . ولا تسري علي الباطن الإنساني . وإنه لجدير بنا عدم الخلط بين حقائق العلم المتغيرة وحقائق النفس الثابتة . فها هو فالتون شين (أحد رجال الدين الكاثوليك) يقول إن القديس توما الأكويني يؤكد أن التغير في العلم التجريبي لا يستتبع تغيرا في الميتافيزيقيا التي تحكم هذا العلم، ما دامت الفلسفة مستقلة عن العلم . ونحن لو نظرنا للنتائج التي انتهت إليها نظرية الكوانتم ومبدأ اللاتحديد، فلن نجد فيها ما يبرهن علي عدم خضوع الحوادث الفيزيائية لمبدأ السببية . أي أن المدافعين عن الحرية الإنسانية استثمروا جهل العلماء بالظروف المحيطة بالإلكترون والتي تدفعه لتغيير مداره في تأكيد اللاحتمية .

من أجل ذلك من العبث أن نبحث عن سند فيزيائي لحرية الإرادة لأنها مشكلة الفلسفة في المقام الأول، وليست مشكلة الفيزياء . وهو ما أكده أحد الفلاسفة الهنود كانتا براهما N. K . Brahama وبنفس حجة شين عن استقلال الميتافيزيقا عن الفيزيقا . فيقول معقبا علي المحاولات الخاطئة لاستخلاص الحرية الإنسانية من نتائج العلم " ثم ماذا يمكن أن يحدث فيما لو فاجأتنا تجارب المستقبل بأن اللاحتمية التي يفترض وجودها في حركة الإلكترون، لا وجود لها حقيقة، ألن تجد الفلسفة نفسها عاجزة عن تبرير موقفها، فيما لو أخذت الآن برأي أدنجنتون ! إن الحرية وسائر الحقائق الميتافيزيقية الأخرى لا يمكن البرهنة عليها في عالم الظواهر الذي تسيطر عليه مقولات المكان والزمان والسببية .

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقل- جامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم