أقلام فكرية

ما بين هيغل وماركس: إشكاليات التاريخ ويقين المستقبل (2)

ميثم الجنابيالتاريخ ومغامرة العقل والحرية!

لقد وضع هيغل التاريخ الإنساني بالضد من الطبيعة. الأول متغير ومتبدل والثاني تكرار. إذ لا جديد تحت الشمس بالنسبة للطبيعة على عكس مسار الروح! وهي صيغة بيانية مقبولة بمعايير المقارنة البلاغية لا بقواعد المنطق العقلي الدقيق والعلم الطبيعي. لكنها تبقى سليمة من حيث انحصارها ضمن سياق الرؤية الهيغيلة عن التاريخ باعتباره مسارا عقليا إنسانيا. وذلك لأن المصير الإنساني، كما يقول هيل، هو الوحيد الذي يمتلك قابلية التغير. وإن هذا التغير يكمن في التاريخ نفسه. وبالتالي لا ضرورة لوضع أعمال وأفعال الأفراد ومعاناتهم وانفعالاتهم في أساس تفسير التاريخ ومساره. وذلك لأن التاريخ يحتوي في أعماقه على وحدة الإمكان والواقع، والقوة والفعل. فالروح هو الوحيد القادر على جعل نفسه بالفعل ما كان عليه بالقوة. وخلافا للطبيعة فإن علاقة الإمكان بالواقع، والقوة بالفعل بالنسبة للروح يحكمها كل من الوعي والإرادة. فالتطور في التاريخ هو مسار معقد ومرهق لأنه صراع مع النفس. وإن حقيقة التطور التاريخي هو قهر للنفس. من هنا افتخار الروح ورضاه باغترابه عن فعله، كما يقول هيغل. وليست هذه الصيغة سوى الصورة المكثفة عن فكرته المتعلقة بقضية الحرية، باعتبارها مضمون التاريخ وحقيقته. غير أن هيغل لا يتكلم عن تاريخ حقيقي وآخر ليس حقيقي. وسوف تظهر هذه الفكرة لاحقا عندما تتحول الفكرة السياسية إلى قائدة ومرشدة للرؤية الفلسفية للتاريخ كما هو الحال عند ماركس.

فالحرية بالنسبة لهيغل تتطابق من حيث المعنى والواقع مع بداية التاريخ ومساره بوصفه مسار الروح وحاكمية العقل فيه. وشأن كل عملية عميقة تبدو متعرجة في مظهرها الوجودي لكنها مستقيمة بمعايير المنطق. الأمر الذي حدد بالنسبة لهيغل تحليل القضية الأولية في التاريخ ووعيه، ألا وهي "اين يبدأ التاريخ؟". وقد أجاب هيغل على هذا السؤال بوضوح لا لبس فيه: التاريخ يبدأ من حيث يبدأ العقل بالتغلغل في السلوك الفعلي تجاه العالم ومجرياته وأحداثه، أي حين تظهر وتتبلور الحالة التي تحقق فيها العقلانية نفسها في الوعي والإرادة والفعل. ولاحقا سوف يأخذ او يبدأ ياسبرس من هذه الفكرة ويضعها في فكرته عن الزمن المحوري في التاريخ، بوصفه بداية الوجود الإنساني والمعنى. غير انها، مقارنة بالفكرة الهيغلية، تبقى مجرد رؤية تأويلية مفصلة حسب معطيات المعارف التاريخية والعلمية وليس حقيقة التاريخ الفعلي ومساره "ما قبل التاريخ". بينما يبدأ التاريخ بالنسبة لهيغل حالما يحقق العقل نفسه في الوعي والإرادة والعمل. بمعنى خروجه من حيز الطبيعة إلى ما وراءها، أو من الغريزة إلى العقل. والعقل هنا ليس قواعد المنطق والمنطق نفسه بل مضمون المجرى التاريخي المحكوم بفكرة التغير والتبدل. فعندما ينظر المرء إلى أطلال قرطاجة وتدمر وبيرسيبولس وروما، فإن ما يتبادر إلى ذهنه هو زوال الممالك والبشر، كما يقول هيغل. لكن وراء هذا التغير، الذي يبدو في مظهره كما لو انه انحلال وانقراض، تكمن على الدوام حياة جديدة. وليس التغير هنا سوى الاستقامة المنطقية أو المجردة في المسار التاريخي باعتبارها تمثلا وتمثيلا لوحدة المتناقضات التي يبدع الروح (المطلق) من خلالها وعبرها. ومن ثم تكامله الذاتي عبر متناقضات الوجود. ففي تطور الروح نلمح التناقض ودوره في التطور كما يقول هيغل. وبالتالي،ليس تطور الروح واكتماله، أي بعد أن يجّسد نفسه بصورة كلية وبلوغ غايته النهائية، سوى الاغتراب التاريخي (العقلي والعملي) "في روح الأمة"1 . وترتب على هذه الفكرة خمس أفكار عامة يمكن استخلاصها من الفلسفة الهيغيلية وهي:

إن نشاط الأمة يبدأ وينتهي شأن كل كائن حي ثم يكرر هذه الحالة كما لو نه في دورة أبدية. وبالتال، فإن الأمة في نشاطها مثلها مثل نشاط الإنسان الفرد، أي يمر في نشاطه مراحل حتى يبلغ الشيخوخة. حينذاك تصبح الحياة بكل ما فيها مألوفة ومعتادة. إنها شأن الساعة الرملية أو ساعة المكوك التي تملئ ثم تترك لتعمل من نفسها أو لحالها؛ وإن الروح القومي الجديد للشعب الذي حالما يبلغ كماله ويحقق نفسه بنفسه لا يموت موتا طبيعيا مثل الإنسان. وسبب ذلك يقوم في أن روح الأمة يوجد بوصفه جنسا، وهو بالتالي "يحمل في جوفه سبله الخاصة"؛

وإن إشكالية الزمن والتاريخ تعيد إنتاج نفسها في صيرورة الدولة، شأن علاقة الروح بروح الأمة. فإذا كان الدهر (كرونوس) حسب الأسطورة الإغريقية هو أول حاكم، فإن إله السياسة هو أول من صنع الدولة، أي العمل الأخلاقي الأولي الأكبر. وهي الفكرة التي أسس لها وبلورها افلاطون. غير أن هيغل أعطى لها بعدا يتجاوز الحكمة العملية التي قال بها افلاطون صوب علاقة التغير والنفي الدائم في الوجود بوصفه أسلوب عمل الروح المطلق وتحقيقه العقلي في الوجود التاريخي للإنسان. من هنا قول هيغل بأن الزمان يلتهم نفسه بنفسه عبر التهام ذريته، بينما الروح باق بنفسه بإبداعه الشامل؛

وفي عملية النفي هذه تبرز خاصية الفكر القائمة في كونه اساس المنجزات التاريخية. لكن الفكر يختلف عن منجزاته العقلية. إذ نجد في هذه العملية وجود واقعي وآخر مثالي. فلو أردنا مثلا أن نكون صورة عامة عن اليونان، كما يقول هيغل، لوجدنا ذلك عند سوفوكلس وارستوفان، وثيوكيديدس، وافلاطون. ففي هؤلاء الأفراد نعثر ونرى صور الروح اليوناني ذاته وفكرته في ذاتها، أي روح الأمة اليونانية. وهي الذروة التي يشعر بها روح الأمة بالرضى والارتياح. لكنه يظل يحمل في نفسه أيضا حالة التمايز بين ما هو مثالي وواقعي؛

وأخيرا، إن الزمن هو عنصر النفي الدائم في العالم المحسوس كما أن الفكر هو قوة النفي أيضا، غير انه أعمق صور النفي غير المتناهية. فالفكر هو الإحاطة الشاملة بالوجود، وبالتالي هو مصدر وموطن كل ما هو جديد. فإذا كان الإنسان الفرد يتطور ويتكامل لكنه ويبقى في القت نفسه هو هو، فإن الشعب هو ميدان ومجال إحداث التغيرات والانتقالات الكبرى. وذلك لأنه يصنع الضرورة الأساسية والفكرية والعقلية لهذا التغيير والتحولات. وتشكل هذه الأفكار في كلّها مضمون الفهم الفلسفي للتاريخ.

إن الفكرة الجوهرية عند هيغل بصدد حقيقة التاريخ ومساره الفعلي تقوم في أن العقل هو الذي حكم وما يزال يحكم التاريخ. وهي فكرة استمدها من انكساغورس الذي أول من قال بها عندما اعلن توصله إلى أن النوس (الناموس أو الإدراك أو العقل) هو الذي يحكم العالم. فقد اعتبر هيغل هذه الفكرة "نقطة تحول في تاريخ العقل البشري". بحيث جعل ذلك من انكساغورس في زمانه "رجلا صاح بين قوم من السكارى"، كما يقول هيغل. وأّثرت الفكرة التي وضعها انكساغورس على عدد غير قليل من الفلاسفة القدماء مثل سقراط، ولاحقا على الفلسفة، باستثناء مدرسة ابيقور، الذي كان يقول بأن جميع الأحداث هي وليدة الصدفة.

ويتطابق حكم العقل للتاريخ بالنسبة لهيغل مع رؤيته الفلسفية أو منظومته الفلسفية للتاريخ. وحتى حالما يتكلم هيغل عما اسماه بالعناية الإلهية التي لا تترك العالم نهبا للمصادفات والعلل العرضية (كما قال بها اوغسطين)، فإن مضمونها الفعلي ليس إلا الصيغة اللاهوتية للفكرة العقلية الفلسفية. وحتى حالما يحيط هيغل بهالة وجدانية فكرة العناية الإلهية بصدد التاريخ، فإنه يقف من حيث الجوهر بالضد منها، أو على الأقل انه يسعى لعقلنتها بالشكل الذي يجعل منها تعبيرا "إيمانيا" عن حقيقة العقل بوصفه القوة الوحيدة الفاعلة في الوجود، أو انه يسعى للتوفيق بينهما بالشكل الذي يذكرنا بما كان الفلاسفة المسلمون يسعون إليه. حيث نعثر عند هيغل على الصيغة القائلة، بأن "العناية الإلهية" توّجه أحداث العالم بما يتفق مع المبدأ القائل بأن العقل هو الذي يحكم العالم. وذلك لأن "العناية الإلهية هي الحكمة" القادرة على بلوغ غرضها وغايتها في ما اسماه هيغل "بالتدبير العقلي المطلق للعالم". غير أن تأويل هيغل لفكرة العناية الإلهية يختلف عن الفهم والتأويل اللاهوتي الديني. وذلك لأن الإيمان بالنسبة لهيغل، غير معين ولا محدد لكنه يعادل فكرة "الإيمان بالعناية الإلهية"، دون أن يتبع ذلك "تطبيقا محددا لها على مجرى التاريخ ككل" كما يقول هيغل. ذلك يعني إن "الإيمان بالعناية الإلهية" بالنسبة له يعادل معنى الإيمان بالتدبير العقلي للعالم.

وبما أن تفسير التاريخ بالنسبة لهيغل يعني "تصوير انفعالات البشر أو الكشف عن عواطف الإنسان وعبقريته وقواه الفعالة، التي تؤدي دورها على حلبة المسرح الكبير"، من هنا مساعيه صوب ما اسماه بمهمة الكشف عن "خطة العناية الإلهية" أو "المسار الذي تحدده العناية الإلهية".

ففي مواقفه الفعلية من فكرة "العناية الإلهية" يسير صوب الفكرة العقلية المجردة، بمعنى التحرر من ثقل المزاج الخفي للفكرة الدينية نفسها، تماما كما تعامل سقراط مع فكرة العقل التي دفعها ووضعها انكساغورس. فهيغل يسعى للكشف عن "خطة" أو قانون مسار الأحداث بالشكل الذي يبرز فيه الطابع الضروري لأحداث التاريخ والتاريخ نفسه.

إن مضمون الفلسفة الهيغلية عن التاريخ تتعالى، بل وتقف بالضد من التصورات والأحكام المبتذلة الملازمة في الإغلب للفهم الديني اللاهوتي عن "العناية الإلهية" و"دورها" في التاريخ2 . وذلك لأنه لا يجعل من مفهوم "العناية الإلهية" وأمثاله مبادئ في إدراك المسار التاريخي وحقيقته. والسبب يقوم في عجز هذه المفاهيم من حيث الوظيفة والجوهر عن إدراك المعنى العام أو الفكرة العامة، وكون التاريخ الإنساني هو تاريخ البشر والشعوب والدول، أي أولوية دراسة تاريخ الشعوب والدولة. لهذا يعتبر هيغل إن دراسة الأفراد ودورهم في التاريخ هو الآخر تاريخ الشعب والدولة3 . بعبارة أخرى، إن هيغل لا ينفي ولا يرفض دراسة الأفراد في التاريخ، غير أن المقصود بالنسبة له من معنى الأفراد هو الشعوب والتحولات الكلية، أي الدولة. من هنا رفضه لفكرة "العناية الإلهية" حالما يجري حصر بمضمون الإيمان فيها، وفي الوقت نفسه لا يقرّ بالإيمان المجرد أو غير المتعين "بالعناية الإلهية". وذلك لأن هذا النوع من الإيمان لا يقدم تفصيلا دقيقا بما جرى ويجري في مسار "العناية الإلهية". من هنا مطالبته بتوجيه الجهود صوب "معرفة طرق وأساليب العناية الإلهية في التاريخ، والوسائل التي تستخدمها، والظواهر التاريخية التي تتجلى فيها" على أن يكون ذلك بدوره مرتبطا بالمبدأ العام (الهيغلي) في نظرته للتاريخ. من هنا يتضح، بأن مضمون الفكرة الهيغلية بهذا الصدد تقوم في انه إذا كان من سبقه يرى حكم الله وعقله في النبات والحيوان، فما هو المانع من رؤيته في التاريخ؟ من هنا مطابقته إياهما ضمن معرفة طرق وأساليب عمل "العناية الإلهية" أو العقل المطلق في مسار التاريخ وأحداثه وغاياته. من هنا قول هيغل "إن الحكمة الإلهية، أي العقل، هي نفسها شيئ واحد في الجليل والعادي من الأمور والأحوال". وبغض النظر عن الاختلاف النسبي بين "العناية الإلهية" و"الحكمة الإلهية"، إلا أنهما كل واحد من حيث الوظيفة والمعنى. لاسيما وأن هيغل نفسه يقول، بأن ما يسعى إليه هو بلوغ القناعة القائلة، بأن "تحقق الحكمة الإلهية بالفعل يجري في مجال الروح الفعال والطبيعة على السواء". ومع ذلك لم تدفعه هذه الأفكار ونتائجها صوب تبرير كل ما هو موجود، وذلك لأن هيغل يسعى إلى ما أسماه بإدراك "الوجود الإيجابي" وما عدا ذلك من "عناصر سلبية" هي مجرد أشياء زائلة.

إن هذه النتيجة التي توصل إليها هيغل تبقى من رغبات وإدراك المنطق المجرد لما سبق وإن وضعه في (فينومينولوجيا الروح)، أي تتبع ورؤية الأفعال الجوهرية للروح المطلق في كل مظاهر الوجود والمسار التاريخي العام والخاص، ومن ثم التعالي عن وحدة الاضداد بوصفها الحالة الواقعية لوجود الأشياء حسب المنطق الهيغلي نفسه. فمن وجهة المسار التاريخي الفعلي للأشياء والأحداث لا تتساوى الظواهر، كما إن لكل منها نصيبه وقدره في الأفراح والأتراح، كما انه لا ثابت فيها ولا عابر غير التاريخ الفعلي للإنسان ومغامراته الدائمة بوجوده. أما من الناحية المنطقية المجردة، فإن كل ما جرى ويجري هو "عين الاستقامة" التي ترتقي الى مصاف "الحكمة" القائمة وراء تنوع الأفعال والأحداث وتناقضاتها الخاصة والجزئية. الأمر الذي يجعل من فكرة "العناية الإلهية" و"الحكمة الإلهية" أقرب ما تكون إلى لاهوت التاريخ وليس فلسفته. لكنها تحتوي بالقدر ذاته على إمكانية أن تكون الفكرة الإيمانية واللاهوتية هي فكرته الفلسفية العقلية. وتشابه هذه النتيحة وتلازم آراءه القائلة، بأن "الفكرة هي التي تقود العالم وتوجهه وترشده". وهي فكرة ليست دقيقة ولكنها عميقة. وفيها نعثر على شبه لما قالت به الفكرة الإسلامية عن أن العقل هو بداية ونهاية الأشياء كلها، أي حالة العقل في رهان الإرادة الإلهية، الذي وجد تعبيره في "الحديث النبوي" القائل "لما خلق الله العقل قال له: قم! فقام. ثم قال له: أدبر! فأدبر. ثم قال له: أقبل! فأقبل. ثم قال له: اقعد! فقعد. فقال (الله): ما خلقت خلقاً هو خير منك، ولا أفضل منك، ولا أحسن منك، ولا أكرم منك. بك آخذ، وبك أعطي، وبك أعرف. لك الثواب، وعليك العقاب". بعبارة أخرى، إن العقل هو الكينونة العملية الفاعلة لله أو انه الله نفسه في كل هيئات الوجود والأفعال عبر عنايته وحكمته فيهما.

وضمن هذا السياق فقط يمكن القول، بأن الفلسفة العقلية لهيغل، لم تستطع الإرتقاء إلى مصاف الرؤية العقلانية المتجانسة في ما يتعلق بالموقف العقلي نفسه من التاريخ. فهي تحتوي وتحتمل التفسير والتأويل المتضاد والمتناقض من التاريخ. وذلك لأن الفكرة الفلسفية العقلية تفترض في مجرى تفتتحها وتأسيسها للمفاهيم والمواقف الإرتقاء إلى مصاف العقلانية التاريخية المجردة، لكي لا تكون الفكرة العقلية دينية، ولا الدينية عقلانية مفتعلة، كما هو جلي في الصيغة المكثفة للفكرة الهيغيلية عن تساوي أو تعادل مفاهيم العناية الإلهية والعقل والحكمة.

إلا أن هذا التشويه اللاهوتي لا يشوه بؤرة الحقيقة المحددة لمضمون الفكرة الفلسفية عن التاريخ عند هيغل. من هنا تتبعه أساسا في مجرى دراسة "تحكم العقل" في التاريخ وأحداثه على ما هو واقعي ملموس وما هو منطقي مجرد. ومن هنا تفريقه بين ما ينبغي وما هو موجود بالفعل في إدراك "الغاية النهائية" للعالم، والتي تتحقق عبر مسار العقل والروح، على خلاف الشر العاجز عن منافسه العقل في هذا المجال! وهي فكرة متناقضة ولا تتسم بالتجانس المنطقي بما في ذلك ضمن سياق المنطق الهيغيلي. فالشر ينبغي أن يكون ضمن مسار العقل بالمعنى الهيغلي هو عقل شرير أو عقل ناقص. ومهما يكن من أمر هذه القضية، فإن مضمون الفلسفة الهيغلية عن التاريخ يبقى في نهاية المطاف هو "الروح ومجرى تطوره. والتاريخ الواقعي هو الميدان الذي يتكشف فيه الروح، أي في التاريخ الكلي. إذ فيه تتكشف حقيقة الروح بصورة عينية ملموسة" كما يقول هيغل. إنه يبحث ويؤسس هنا لمنطق التطور العقلي المجرد والكليّ، وليس جزئيات الأمور والظواهر والأحداث. وقد حدد ذلك ما اسماه هيغل بضرورة دراسة كل من الخصائص المجردة لطبيعة الروح، والوسائل التي يحتاجها لكي يحقق فكرته، وأخيرا الدولة، باعتبارها الشكل الذي يتخذ صيغة التجسيد الكامل للروح في الوجود العيني. ووراء كل هذه النتيجة العامة أو الرؤية النظرية العامة تكمن فكرة الحرية بوصفها الغاية النهائية للمسار التاريخي.

إن إحدى الخصائص الأكثر جوهرية بالنسبة للروح عند هيغل هو كينونته المتسامية والمجردة والصائرة في الوجود الطبيعي والتاريخي عبر اغترابه فيها أو ذوبانه أو تشيؤه في كل مظاهرهما بوصفه القوة المحركة والساعية لبلوغ وعيها الذاتي. وليس هذا الوعي في نهاية المطاف سوى الحرية نفسها. وهي الصيغة التي تعادل ما اطلقت عليه المتصوفة قديما بالتحرر من رقّ الاغيار، أي بلوغ الحرية بوصفها حقيقة عبر شحذ إرادة المريد بقانون البحث عن الحقيقة، ومن ثم بلوغ وعي الذات بوصفه انتصاب القلب في طلب الحق. بينما تتخذ عند هيغل وتتطور بوصفها حركة الروح المجرد أو العقل الكامن في السلوك والإرادة عبر تعرجات الحياة والتاريخ بكل مظاهره من اجل بلوغ وعي الذات بوصفه حرية.

إن هذه الخاصية الجوهرية للروح تجعل منه ضدا للمادة. وبالتالي، فإن هيغل يضع الروح بالضد من المادة، بوصفهما كيانات مختلفة ومتناقضة، ويسعى كل منهما إلى غاية تختلف عن الآخر، كما أن لكل منهما نسق خاص به في المسار الذاتي. فإذا كانت ماهية المادة الثقل، فإن ماهية الروح هي الحرية. والفلسفة تعلمنا، كما يقول هيغل، إن كل صفات الروح لا توجد إلا بواسطة الحرية، وأنها جميعها ليس إلا وسيلة لبلوغ الحرية. إذ تسعى كلها للحرية. وإذا كانت المادة توجد بالوحدة مع شيء ما من الأشياء، فإن الروح يوجد بذاته لذاته، وبالتالي فإن مركزه فيه. واعتبر هيغل وجود الروح بذاته هو  عين الحرية، بمعنى إن الحرية هي المتحررة عما غيرها.

إن وجود الروح في ذاته يعادل عند هيغل معنى الوعي الذاتي، أي وعي الروح بوجوده الخاص، ومن ثم يحتوي على فاعلية التحقق الذاتي. وهذه بدورها ليست إلا فكرة التصّير من الإمكانية بالفعل. الأمر الذي كان يدفع بالفكرة الهيغلية عن التاريخ صوب الرؤية الغائية. فقد اعتبر هيغل أن مصير العالم وحركته الغائية هو وعي الروح بحريته الخاصة. وأن وجود الروح في ذاته ليس إلا الوعي الذاتي، بمعنى وعي الروح بوجوده الخاص. وهذا بدوره لا يعني سوى "احتواء الروح على الفاعلية التي يمكنها تحقيق ذاتها بحيث يجعل من نفسه بالفعل ما كان بالإمكان أو بالقوة. من هنا فإن "التاريخ هو استعراض الروح في مجرى اكتسابه للمعرفة بما هو كامن في القوة"، أي أن التاريخ هو عرض للروح في مجرى عمله واكتساب المعرفة عما سيكونه بالقوة. ومن اجل بلوغ ذلك، فإن الروح بحاجة إلى وسائل لتحقيق فكرته. ووجد هيغل هذه الوسائل في حاجات البشر ونوازعهم ومصالحهم. بمعنى، إن الحاجة والمصالح هي التي تقف وراء سلوك البشر. فعندما ننظر إلى التاريخ الماضي، فإننا نرى فيه كمية هائلة من التضحيات والمرارة الأخلاقية. الأمر الذي يحدد السؤال المتعلق بماهية المبدأ الأول والغاية النهائية وراء هذه التضحيات الجسام. أما الإجابة فتقوم في فكرة الحرية. فهي التي تقف وراء كل الأخطاء والخطايا والعذاب الفعلي في التاريخ. ووضع هيغل هذه الفكرة في أساس تحليله لكل من ماهية المبدأ والغاية والمصير أو طبيعة الروح وفكرته الخاصة من جهة، والإرادة من جهة أخرى.

فالمبدأ هو شيء خفي شأن "خطة الوجود". انه ماهية هلامية ليست واقعية تامة، لكنها صادقة في ذاتها شأن المبادئ والغايات التي لا وجود لها إلا في رؤوس البشر. بمعنى إنها شيء ممكن ومن ثم واقعي. أما الإرادة فهي القوة الدافعة للمبدأ المشار إليه سابقا من أجل الظهور إلى الوجود. بمعنى إنها تتمظهر من خلال الحاجة والغريزة. فالأعمال كلها مرتبطة بحاجة ما معينة. ولم ينجز شيء ما عظيم في التاريخ بدون عاطفة ووجدان وانفعال، كما يقول هيغل. ووضع هذه المقدمة في أساس تحليله للفكرة والانفعالات البشرية وأثرها في التاريخ.

فالانفعال هو الجانب الذاتي والشكلي للإرادة. وعبر هذا الفكرة حاول هيغل تفسير أو ابراز هذه الإرادة وراء ظهور وصيرورة الدولة. فالدولة القوية هي التي تتحد وتتوحد فيها المصالح الشخصية للأفراد والمصلحة العامة للدولة. أما العقل فيبذل جهودا هائلة عبر الصراع الذي يجري على كافة المستويات من أجل إيجاد الأشكال السياسية والتنظيمية المناسبة لكي يتحقق في النهاية ببلوغ الانسجام المنشود. وهذا بدوره بالنسبة لهيغل ليس إلا التحقق الفعلي لفكرة الروح. إذ لا توجد هذه الفكرة إلا بصورة ضمنية في ذاتها، بوصفها طبيعة أو غريزة لا واعية.

الأمر الذي يجعل من مسار التاريخ بالنسبة لهيغل حركة تتجه صوب جعل الطبيعة والإرادة الطبيعية من خلال الصراع وتنوع الإرادات والمصالح وغيرها "أدوات ووسائل يستخدمها روح العالم لبلوغ هدفه". وبالتالي، فإن كل ما يجري في العالم هو وسيلة العقل. فالعقل هو الذي يحكم العالم. وذلك لأن الناس لا ترى ما تحققه هي في التاريخ. وهي الحالة التي يحقق العقل فيها من خلالهم أهدافه.

اما الصيغة العليا والمثلى والتامة لكل هذه العملية أو لمسار الروح المطلق في الكينونة التاريخية للبشر فتقوم في صنع الدولة. (يتبع.....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

3- إن تكامل الروح في "روح الأمة" يعني تصنيعهما المتبادل. لكن هل يعني "روح الأمة" "عقل الأمة"، الذي ادعوه انا بالعقل الثقافي التاريخي للأمم؟ وما هي النتائج المترتبة على هذه الفكرة بالنسبة للفكرة القومية؟ إن هيغل يتكلم عن الروح المطلق، والروح العالمي، ويطبقه بصور جزئية على نماذج التاريخ العالمي لكنه ينظر إلى ذلك بمعايير وشعور التفوق الغربي الأوربي النصراني على غيره. وهي فكرة سوف يذللها ماركس في رؤيته للتاريخ، بينما سيقوم شبنغلر في تذليلها بمعايير النقد التاريخي الثقافي. غير إن التذليل الماركسي للهيغلية بهذا الصدد جرى من خلالها نفيها بمعايير طبقية ثقافية (أوربية). لهذا اعتبر شبنغلر الماركسية فلسفة انكليزية وليست ألمانية.

2- إن حقيقة "العناية الإلهية" ودورها يعادل في الواقع دور "العناية" اللاهوتية وممثليها من أفراد ومؤسسات وأحزاب تجتهد وتجاهد وتفكر وتفسر وتؤول وتعي وتعمل وتحلم وتتنفس وتحيا وتموت بمعايير التحزب الضيق وإنعدام رؤية الوجود الإنساني الفعلي وحدوده الواقعية بمعايير الأزل والأبد، وإدراك حقيقة الكون المدهش في صيرورة الوجود والعدم أو الكون والفساد.

3- وقد جعلت الماركسية من هذه الفكرة مضمون وأدوات الصراع الاجتماعي الفعلي، أي فكرة دور الفرد في التاريخ، والاستعاضة عنه بفكرة الطبقة الاجتماعية. وعوما يمكن القول، بأن  المسار التاريخي في تطور الدول والشعب والأمم والفكرة يؤدي بالضرورة إلى انتشال هذه العقدة المركبة من أوهام حشرها الأيديولوجي في صلب الرؤية الفلسفية عن التاريخ.

 

في المثقف اليوم