أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: كيركيجارد وسخافة الإنشغال بهموم الحياة اليومية

كيف حالك؟ انت تسأل صديقك لم تره منذ شهور. يجيب "بخير، مشغول". "وماذا عنك؟" انت تجيب "مشغول جدا". جميعنا اعتدنا على مثل هذه المحادثات،على مشهد يقف فيه الناس طويلا على أقدامهم، يسرعون من أجل تلبية موعد او انجاز عمل ما. الإنشغال (busyness) يبدو شيئا لا مهرب منه في الثقافة الرأسمالية الحالية، ولكن ما هو الشيء الخطير في الإنشغال؟ لماذا الحرص على جعل الناس واعين بحجم الإنشغال الذي هم فيه؟

لنقف لحظات مع هذا المقطع السريع من القرن التاسع عشر للفيلسوف الدانماركي كير كيجارد(1813-1855)...." من بين كل الأشياء السخيفة، يبدو لي ان ما هو أكثر سخافة، هو ان تكون منشغلا – تكون شخصا ما متلهفا بنشاط للحصول على الطعام اوالعمل. لذلك، متى ما أرى ذبابة تحط في لحظة حاسمة على انف مثل هذا الشخص المنشغل بالتجارة والأعمال، او عندما يكون ملطخا بالوحل بفعل مرور مركبة مسرعة تسير خلفه، او عندما تُفتح بوابة أمامه، او بلاطة تسقط فوق رأسه، عندئذ سأضحك من القلب بكل حرارة ".

كتب كيركيجارد هذه الكلمات ضمن عمل رائع من منظور أحد الشخصيات عام 1843 بعنوان (اما/او: جزء من الحياة). الجزء الاول من العمل كُتب من منظور شاب جميل وقاسي اسمه A بينما الجزء الثاني كُتب من منظور قاضي اخلاقي اسمه vilhelm.

الاقتباس أعلاه جاء من الشخصية الاولى A الذي هاجم الإنشغال واعتبره معيبا واعتقد ان الجواب الملائم له هو الضحك، لأنه أفضل طريقة لتجاهل أهمية الشخص المنشغل. الناس المنشغلون يملأون وقتهم بالغطرسة، دائما يجدون اشياءً للعمل – اعتادوا على القول "انا لدي وقت محدود" – لكن هذا النشاط الذاتي هو ببساطة وسيلة تافهة للهروب .

في اثينا القديمة كان العمل لطبقة العبيد، اما الاقتصادي الامريكي Thorstein Veblen يصف في نظريته عن الطبقة المترفة، ان الطبقة المرفهة والغنية في القرن التاسع عشر تجنبت العمل. هذه الطبقة اعتبرت الكسل كقيمة مثالية. بالمقابل امريكا المعاصرة مجّدت الإنشغال بالعمل واعتبرت الافراد المنشغلين يتمتعون بصفات الكفاءة.

ان تكون مشغولا لا يعني بذاته شيئا جيدا . فمثلا، الانشغال يُنظر اليه كشيء ضار لصحتنا البدنية والعقلية. هناك ايضا مفهوم (فخ الانشغال) الذي يجعلنا غير متأملين بالذات، غير صادقين، ونفتقد للتركيز. ومع وجود وقت محدود و عدد لا محدود من الواجبات والمهام التي تنتظر الإنجاز، وفي ضوء تقدم التكنلوجيا وزيادة مقدرتنا على الانتاجية، يبدو ان الانشغال سيبقى ويستمر معنا. لذا، كيف نتجنب ضياع أنفسنا في دوامة الإنشغال هذه؟

حاليا، أصبح الانشغال وسام تقدير للناس. لكن وفق رؤية A، الناس "المنشغلون" يتجنبون مواجهة الفراغ العام في وجودهم لكي يصرفوا أنفسهم عن الأسئلة الهامة حقا، مثل منْ هم وما الغاية من حياتهم. لديهم كل شيء هام ولكن لا شيء هام ابدا. وهكذا يكون الشخص المنشغل سخيفا.

قد يجادل البعض، انه ليس كل شخص مشغول باختياره. احيانا الظروف تجعل من الوقت شيئا نادرا ومصدرا ثمينا. وعندما نأتي الى نهاية يوم طويل، متأملين منْ نحن وما الغاية من حياتنا من الأفضل التوقف عن العمل والاسترخاء مع التلفزيون. ولكن يجب ان نتذكر وصف كيركيجارد "للشخص غير السعيد"، الذي جاء في الفصل الاخير من (اما/او: جزء من الحياة):

"الشخص غير السعيد هو الذي تكون مُثله، محتوى حياته، امتلاء وعيه، جوهر وجوده، بطريقة ما خارج ذاته. الشخص غير السعيد دائما غائب عن ذاته".

هذا المقطع يقترح ان استثمار كل شيء لدينا في الأحداث الخارجية، وفي الناس والاشياء هو طريقة مؤكدة لعدم السعادة. بدلا من ذلك، من المهم جدا إعطاء الاهتمام لنفسك، لأن فهم ما هو مهم لك هو اول خطوة في معرفة كيف تجعل حياتك أقل انشغالا – حيث ستعرف أي الأشياء تتخلى عنها، وأي منها تعطيها الوقت الملائم والعناية والانتباه. بهذا ستعرف من أنت وما الغاية من حياتك؟

كيركيجارد نظر الى التغيرات السريعة في المجتمع والثقافة: صعود التصنيع، انتشار الاصلاحات الديمقراطية، ظهور الصحافة اليومية، والتزايد في زخم الاتصالات، وتقلّص العالم وولادة عولمة الرأسمالية. هو ايضا وفي ضوء هذه التغيرات الخطيرة كان يتوقع الأشياء قبل حدوثها بشأن الاتجاه الذي يسلكه المجتمع.

احدى المخاوف الخطيرة لدى كيركيجارد هي ما بدا عليه المجتمع من انشغال مشتت للانتباه.

يرى كيركيجارد ان الانشغال يصل ذروته في ضياع الوقت. هو يكرر هذه المشاعر في رسائله عام 1848،حين شجب الثمن الباهض الذي دفعه عصره للإنتاجية والانشغال، كون ذلك يحط من قيمة اولئك الذين لايستطيعون مجاراة سرعة الانشغال، وانه بالنهاية، سيكون الانشغال والأكثر انشغالا الذي يطمح اليه الناس، هو مجرد كونهم منشغلين بضياع الحياة وفقدان الذات. لذا فان الانشغال ضمن هذه الحلقة الدائرية يجعلنا نخسر حياتنا ونفقد ذاتنا .

بهذه الطريقة، بالنسبة لكيركيجارد، الانشغال هو طريقة زائفة للهروب من ذواتنا وحياتنا، وطريقة لتجنب التفكير بخياراتنا وتقرير ماذا نريد ان نعمل،ومنْ نريد ان نكون. هو وصف الانشغال بـ "وسائل تسريب" لتجنب مواجهة الذات، وللحيلولة دون ان نصبح ما نريد. الشخص المشغول وُصف كحامل لـ "مرآة " كرمز للتأمل بالذات، لكن الناس في انشغالهم هم نادرا ما يكون لديهم وقت للنظر في هذه المرآة، واذا فعلوا، هم ينسون الصورة التي يرونها في عجلتهم. اثناء انشغالهم تكون هذه الصورة شديدة الضبابية، وان الذات الأصلية التي يمكن ان يكونوا فيها تظل مجرد احتمال.

اذاً كيف نتجنب الانشغال؟ في (أعمال للحب،1847) يضع كيركيجارد تمييزا ملائما للكيفية التي يجب ان ننظر بها الى انشغالنا اليوم. يسأل كيركيجارد:

"ماذا نعني بـ مشغول؟ الشيء المألوف ان الاسلوب الذي ينهمك به الفرد هو الذي يقرر ما اذا كان يسمى مشغولا. لكن هذا ليس هو الحال" . بدلا من ذلك، كير كيجارد يشخص الانشغال باعتباره معتمد على الهدف من انشغال المرء. أي ان الانشغال لا يُعرّف بالطريقة التي تنجز بها المهمة (بخصائص اللااستقرار والتسرّع) وانما بنوع المهمة وعلاقتها بالفرد. هو يرى:

"ان تكون منشغلا هو ان تشغل نفسك، وتنقسم وتتشت مع كل التعدد الذي به يستحيل للفرد ان يكون كاملا .. ان تنشغل بما يجعلك منقسما ومشتتا". يرى كيركيجارد كون الفرد منشغلا يعني كونه منقسما ومشتتا، منخرطا بعدد هائل من مختلف الاشياء ومندفعا خلالها بسرعة . التشظي بالانتباه يؤدي الى نوع من تشتت الذهن او الذهول، وفقدان التركيز، وان افتقار الاتجاه لدى الفرد يؤدي الى ضياع حياة المرء وخسران ذاته. اذا اردنا تجنب هذا، يرى كيركيجارد ان الانشغال المشتت للذهن يتطلب استجابة دينية. المرء يجب ان يتوقف لكي يجد الطمأنينة والهدوء اللذان يسمحان بالتأمل بالذات.

فقط عبر التوقف بسكون وصمت يمكن للمرء ان يرى بشكل صحيح الصورة المنعكسة في المرآة: يرى ما يمكن ان يعمله،ومنْ سيصبح. ولهذا يمكن للفرد ان يتجنب الانشغال من خلال التركيز على شيء واحد بدلا من إلهاء متعدد الأشكال تقدمه لنا الحداثة.

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم