أقلام فكرية

ما بين ماركس وهيغل: إشكاليات التاريخ ويقين الروح الثوري (3)

ميثم الجنابيفلسفة الرجوع إلى التاريخ الإنساني

إن الأفكار الكبرى كالولادة تبدأ بصرخة عادة ما يجري تصويرها على أنها بداية الحياة وصيرورة الفرد الجديدة. وهي فكرة سليمة في ميدان الحياة العادية بسبب استجابتها المباشرة لبساطة الرؤية الفاقدة لمعنى الكلّ وترابطه الجوهري. لكنها تحتوي على القدر الضروري من أثر المنطق أيضا بوصفه توليفا يسعى لتأسيس وحدة الأسباب ويعاني منها أيضا بسبب ما فيها من إمكانية لرمي المنطق في سلسلة اللانهاية. ومن ثم إغراء "العقل" بالوقوف أمامها، مع ما فيه من احتمال الاعتراف ببداية لا معنى لها، أو نفيها بيقين لا يقل إشكالية عن الأولى، أو الوقوف بينهما بهيئة حيرة أبدية تجعل من مبدأ "العجز عن الإدراك إدراك" مرجعية مقبولة. وهي الحالة التي يواجهها المنطق على خلاف التاريخ الواقعي الذي يبدأ بيوم وينتهي بيوم، لأنها الدورة التي تصنع المنطق وتضعه بالقدر نفسه على محك خشن. من هنا شدة الاختلاف الظاهري في الموقف من التاريخ وإشكالاته بين ماركس وهيغل، رغم رجوعهما إلى أصول وجذور واحدة. وفيما لو وضعنا هذه الإشكالية على محك التاريخ الشخصي للأفكار فإن تبلور فكرة ماركس عن التاريخ كانت تحتوي على تمثيل نموذجي لفكرة النفي الهيغلي بما في ذلك في اشد أشكالها شكلانية. فقد أصبح ماركس هيغلا جديدا بعد مروره بفيورباخ، أي الصيغة الفردية والفكرية أيضا لثلاثية النفي الهيغلي!

فالصيرورة التلقائية لمفاهيم ومقولات ماركس عن التاريخ، بما في ذلك من حيث تراكمها المنهجي في منظومة فلسفية مستقلة، لم تكن في الواقع سوى التحوير والنقد الأولي للنزعة الانتروبولوجية لفيورباخ. بمعنى ظهور إشكالية الإنسان المجرد بوصفها إشكالية التاريخ الفعلي والتصورات والعقائد، أي كل ما كان يشكل موضوع اهتمام الفكر والتفكر الفلسفي الألماني آنذاك. من هنا أولوية وجوهرية الإنسان المجرد عند "ماركس الشاب". وهذا بدوره ليس إلا الاستمرار غير المباشر لكانط وهيغل بشكل عام وفيورباخ بشكل خاص.

فقد كانت الرؤية الأولية التاريخية الفلسفية لماركس انتروبولوجية (أي فيورباخية). بمعنى أنها تأثرت واستأثرت، على الأقل في مزاجها النقدي والتأملي، حصيلة الفلسفة الفيورباخية. ومن الممكن رؤية هذه الظاهرة بما في ذلك في ميدان اللغة والتعبير عنها حتى مراحل متقدمة في كتابات ماركس، أو على الأقل أنها جلية في عباراته حتى كتاب (الأيديولوجية الألمانية). بينما اضمحلت وتلاشت اللغة الهيغيلية التي يمكن أن نعثر على صداها الباهت في المخطوطات الفلسفية لعام 1944.

فقد كانت الفيورباخية بهذا الصدد فلسفة شاملة. وذلك لأنها استطاعت أن تستعيد وتوسع تقاليد النزعة الإنسانية والتنوير الفرنسي ولكن ضمن تقاليد الفلسفة "الكلاسيكية" الألمانية. لكنها وضعت الإنسان في جوهر وصلب تفسيرها للظواهر بشكل عام والدين بشكل خاص. بحيث يمكننا القول، بأن الفيورباخية هي الصيغة الألمانية المكثفة والجديدة لإعادة النظر المنظومية بالانقلاب التاريخي الهائل الذي لازم الثقافة الأوربية منذ عصر النهضة، وبالأخص إحلال المركزية الإنسانية عوضا عن المركزية الإلهية، أي استبدال التأملات الميتافيزيقية اللاهوتية بتأملات ومقارنات العقل النقدي الانتروبولوجي. وليس مصادفة أن يقسّم فيورباخ نفسه أعماله الفلسفية إلى ما هو فلسفي خاص (أدرج ضمنها كتابه عن سبينوزا) وما هو متعلق بفلسفة الدين مثل (جوهر النصرانية) و(محاضرات عن جوهر الدين). وسبب ذلك يقوم في إدراكه لطبيعة الدور الهائل لسبينوزا في ميدان الرؤية الأخلاقية النقدية تجاه الدين وقيمة فلسفته بالنسبة لتأسيس فكرة الحرية، التي ستبقى ملازمة لفيورباخ وماركس حتى النهاية، بوصفها إدراكا للضرورة. غير أنها ستتخذ في الرؤية الماركسية بعدا اجتماعيا طبقيا تاريخيا، جرى تأسيسه من خلال الرجوع إلى هيغل.

فالاهتمام المفرط بقضية الحرية وإشكالاتها هي الصيغة الفلسفية لإشكالية الوجود الإنساني. فقد شكلت قضية الحرية جوهر التفكير الهيغلي وغاية منطقه الذاتي، أي رؤية مقدمات وقانون تطور وانكشاف وتفتح وتوسع وتحقق الروح العندي والذاتي والمطلق، أو الفردي والاجتماعي والمطلق، والجزئي والكلي والمطلق في مختلف الميادين والمستويات.

إن حقيقة الحرية التي أرادها هيغل أو بحث عنها بوصفها عملية منطقية وطبيعية تاريخية هي الكمال. وسوف يتلقف فيورباخ هذه الفكرة ويعيد توظيفها عبر محاولاته إرجاعها إلى الإنسان وليس إلى الفكرة كما هي. وبالتالي لم تعن الحرية بالنسبة له سوى تكامل الإنسان بمعاييره الذاتية المتجردة عن أوهام الأديان أيا كان شكلها ومضمونها. وقد كانت تلك بالنسبة لماركس المفتاح السحري القائم وراء تحرره الفردي وصيرورة فردانيته الجديدة بوصفها تأسيسا جديدا للحرية ولكن بمعايير التاريخ الواقعي والفعل الاجتماعي المحكوم بمشروع المستقبل، أي مشروع صنع "التاريخ الحقيقي".

لم يكن هذا المشروع معزولا عن إشكاليات التاريخ الألماني من حيث مقدماته الفكرية وإشكالاته الكبرى، وبالأخص قضية الحرية بوصفها ميدان ومحك وممر حل القضايا الكبرى بما في ذلك قضايا المعرفة والمنطق. فقد تحولت الحرية إلى محك الرؤية المنهجية وأسلوب تأسيسها. الأمر الذي جعل منها القضية المعذبة للفكر الألماني كله آنذاك. من هنا البحث الدائم والمتعمق عن ملكوتها. فقد بحث عنها هيغل في مسار الروح المطلق، والبقية الباقية من فلاسفة ألمانيا في الروح القومي، بينما بحث عنها ماركس في مسار التاريخ الواقعي وصراع الطبقات الاجتماعية. وليس مصادفة أن يلتقي هيغل وماركس في دغدغة الرؤية الأيديولوجية لمنطق البحث حتى في اشد مظاهره تجردا، من خلال الوقوع في إغواء الإرادة الحرة لقفل ما كانت تسعى لفتحه، أي كل ما نعثر عليه في تناقض حدود المنظومة وطاقة المنهج، كما هو الحال عند هيغل في هدوء جيشان العقل المطلق في الدولة الألمانية وفلسفته، واستقرار الصراع التاريخي العنيف للطبقات عند ماركس في شيوعية الدولة، أو اللادولة، ورجوع الإنسان إلى ذاته. وهي فكرة الحرية لا غير. كما أنها النغمة القائمة في كل هباء الحيرة التي يثيرها سديم المطلق حالما يقف المرء أمام تأمل تناقضاته المغرية. وليس مصادفة أن يصل التصوف بمختلف مدارسه الثقافية المتنوعة الكبرى أمام مهمة الارتماء في هدوء الحرية المغري. وليس في ذلك أثرا لإرهاق الجسد، بقدر ما في ذلك تنشيطا من نوع آخر لإدراك العجز بوصفه حرية، أي إرجاع الإنسان إلى حقيقته. من هنا جوهرية الفناء في الحق وما شابه ذلك.

غير أن هذه "النهاية" الإشكالية بالنسبة للعقل البارد والمنطق المجرد والذهنية المتفحصة (وكذلك للتجربة التاريخية الحية)، كانت بالنسبة لماركس جزء من مسار المنظومة الفلسفية الآخذة في التراكم، والمحكومة بمنطقها الذاتي. من هنا حبكتها المغرية للعقل والضمير، وبالأخص حالما أصبحت أسلوبا لتأسيس وحدتهما بمعايير العقل النظري الحر والعقل العملي السياسي الاجتماعي وليس الأخلاقي. فعندما يعمل ماركس في أول الأمر على تأسيس مواقفه الأولية من إشكالية الحرية والضرورة، فإننا نراه ينقلها من ميدان الفكرة الأخلاقية المجردة (العقلية والعقلانية) إلى ميدان النشاط الإنساني، أي إلى ميدان التاريخ بوصفه المقدمة الضرورية لبلوغ الحرية وصنع "التاريخ الحقيقي". وبالتالي فإن المهمة لا تقوم في فهم طبيعة الاغتراب (بالطريقة الهيغيلية) بل عبر توليفها بالنزعة الانتروبولوجية لفيورباخ. ومن هاتين الفكرتين والمنهجين جرى توليف الرؤية الجديدة في الموقف من الإنسان والتاريخ. بمعنى النظر إلى إشكالية الاغتراب بوصفه نتاجا تاريخيا، كما أن التاريخ يحتوي في أعماقه على إمكانية تذليل هذه الظاهرة الملازمة لجسد الإنسان عبر ارتقاءه إلى مصاف العقل، ولكن ليس عبر عملية النفي المجردة (والتاريخية) التي أسس لها هيغل، بل عبر النشاط الإنساني. بمعنى تنشيط مكونات العقل المطلق الهيغلي ولكن من خلال البحث عن أدوات تناسبه في النشاط الإنساني نفسه. فالنشاط الإنساني يصنع الاغتراب ويقضي عليه. وهي عملية كانت تحتوي بنظر ماركس منذ البدء على أبعاد تاريخية، بمعنى أنها كانت تستند إلى رؤية وقراءة تاريخية جديدة وعميقة، كما نراها في الصيغة المجردة والشكلانية القائمة في نظرته إلى مراحل الاغتراب وتذليله.

فالاغتراب بالنسبة لماركس، على خلاف هيغل وليس بالضد منه، هو ظاهرة تاريخية اجتماعية. فالاغتراب الهيغلي قوة منطقية لم تع ذاتها بعد. أنها الصيغة الأكثر ديناميكية للمقولة الكانطية عن "الشيء بذاته". أما بالنسبة لماركس فإنها تأخذ منحى جديدا تماما يمكن رؤية ملامحها في التخطيط الشكلي الصارم، الذي ميّز مواقفه ككل حتى آخر أعماله النظرية الفلسفية، والمقصود بذلك مرور الاغتراب في مراحل ثلاث هي مراحل التاريخ العالمي، بوصفها الصيغة المنطقية والأكثر تجريدا للتاريخ ككل. أما فكرة التشكيلات الاجتماعية الاقتصادية اللاحقة (الخمس) فهي مجرد تدقيق وتجسيد ملموس لثلاثية النفي الكبرى.

فالاغتراب هو الصفة الجوهرية الملازمة للخضوع الفردي (الشخصي) الثقيل والمرهق بفعل سيادة نمط معين من العلاقات. وهو اغتراب أو خضوع حياتي أو اجتماعي تاريخي، عادة ما يلازم المجتمعات التقليدية ما قبل الرأسمالية. وهي مرحلته الأولى. ثم تأتي مرحلة التبادل الاجتماعي العام (الشامل)، أي المرحلة الرأسمالية بكل ما فيها. ففي هذه المرحلة تبلغ حالة الاغتراب درجتها القصوى كما هو جلي في سيادة النقد (المال). إذ تتحول كل السلطة الاجتماعية إلى نموذج لهذا الاغتراب القائم في سيطرة وسطوة المال، بحيث يحمل الإنسان في جيبه كل علاقاته بالمجتمع. ويصبح المال الشيء أو الشكل المتشيئ للاغتراب الاجتماعي، مع ما يرافقه من أشكال متنوعة للصنمية. غير أن تراكم القوى الإنسانية يؤدي إلى المرحلة الثالثة والكبرى ألا وهي مرحلة أو حالة "التملك" بوصفها الدرجة العليا التي تجعل من الإنسان مالكا لنتاج عمله، بمعنى بلوغ حالة التحرر من اغتراب نتاج العمل عن منتجه.

إن هذه الصيغة الأولية التي بلورها ماركس لنفسه في مخطوطاته الفلسفية الاقتصادية لعام 1844 كانت تحتوي على تمثل نقدي جديد للثلاثية الهيغيلية عن الفكرة ونفي الفكرة وتوليفها. ولكن عبر نقلها من تاريخ الفكرة المجردة إلى تاريخ العلاقة الإنسانية (الاقتصادية والاجتماعية). ومن الممكن رؤية هذه الثلاثية في توازي واختلاف أشكالها ومستوياتها المعرفية والمنهجية والعملية عند هيغل وماركس.  فقد مرت فكرة الحرية، على سبيل المثال، عند هيغل في دهاليز التاريخ الواقعي بالشكل الذي جعله يدلل عليها بعبارة تقول، بأن الحر في المجتمع الشرقي واحد، وفي العالم اليوناني – الروماني اثنان، وفي العالم المعاصر الجميع. أما عند ماركس، فإن الحرية تبدأ بتاريخ شيوعي بدائي حر، يتبعه تاريخ الاستغلال الطبقي (تاريخ العبودية والاغتراب) ويختمه تاريخ الشيوعية العلمية بوصفه نفيا للاستغلال والاضطهاد ومختلف أشكال الاغتراب. وإذا كانت حلقات التاريخ الكبرى المجردة عند هيغل هي تلازم التاريخ العندي والتاريخ الذاتي والتاريخ المطلق، أو الجزئي والعام والمطلق، فإنها تتخذ عند ماركس حلقات ما قبل التاريخ، والتاريخ الحالي، وما بعد التاريخ أو التاريخ الحقيقي.

غير أن هذه الثلاثية تفترق بصورة راديكالية تجاه المستقبل بوصفه مشروعا عمليا. وذلك لأنها عند هيغل هي مسار الفكرة ومنها، أما عند ماركس فإن مسارها يبدأ وينتهي بالتاريخ الطبيعي. لكنها لم تكن حتى منتصف أربعينيات القرن التاسع عشر أكثر من احتمال منطقي كامن في الاجتهاد الفلسفي لماركس في موقفه من الإنسان والحرية والتاريخ. وذلك لأن اهتمامه الجوهري بقضايا "الاغتراب" و"التملك" المميزة للمخطوطات الفلسفية الاقتصادية لعام 1844 كان يتطابق مع اهتمامه بقضايا "جوهر الإنسان" و"جوهر التاريخ". ففي هذا العمل تظهر أولى المبادئ المنهجية في الرؤية التاريخية لماركس. إذ نراه يتكلم عن دور الممارسة والنشاط (الإنسان يبني ويهدم) ومن خلالهما يصنع التاريخ العالمي. كما أنها العملية التي تصنع بقدر واحد استقلال الإنسان واغتراب نتاج العمل أو النشاط الإنساني والتشيئ. وفي مجرى هذا السياق الجديد يأخذ ماركس بالابتعاد عن ثقل التقاليد الهيغيلية في الموقف من التاريخ، بحيث نراه يتوجه أكثر فأكثر صوب الأبعاد الإنسانية الحية فيه. وليس مصادفة أن يقول هنا بأن فكرة الروح العالمي الهيغيلية ليست أكثر من عبارة مأثورة.  وعوضا عنها أخذت تبرز بوضوح اكبر مفاهيم النشاط والعمل والتجوهر الإنساني وجوهر التاريخ والاغتراب والتموضع والتشيوء وغيرها من المفاهيم والمقولات التي ستشكل لاحقا أصالة الفلسفة الماركسية في موقفها من التاريخ. غير أن الفكرة الجوهرية الكبرى التي جرى تأسيسها الأولي هنا تقوم في إرجاع فكرة التاريخ إلى التاريخ الإنساني.(يتبع....).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم