أقلام فكرية

ما بين ماركس وهيغل: إشكاليات التاريخ ويقين الروح الثوري (5)

ميثم الجنابيفلسفة الأمل والتفاؤل المطلق

إن رؤية وأحكام ومواقف ماركس اللاحقة تجاه أحداث التاريخ ومجرياته و"فصوله الكبرى" مع ما رافقها من تدقيق للمقولات والمفاهيم وابتداع الجديد منها، كانت مجرد توظيف لحقائق التاريخ الملموس وتجريده من كل ما يبعده عن التلازم الخفي للمنطقي والتاريخي في النظر إلى كل ما يعيق تحقيق وتجسيد التاريخ الفعلي، أو تاريخ الحرية الحقيقية. وقد بلغت هذه الرؤية ذروتها في الموقف من الطبقات والمصير الزائل للرأسمالية عبر الثورة الاشتراكية وبناء الشيوعية. 

إننا نقف هنا أمام لوحة منطقية مكثفة جدا عن رؤية ماركس للتاريخ تتسم بقدر هائل من الدقة، تتجرد فيها كل تنويعات الوجود التاريخي، كما تحتمل كل فرضيات المستقبل. من هنا إشكالاتها الكبرى، التي تبدو على خلفية ابتذالها فيما سبق والآن من جانب الأحزاب وأنصاف المتعلمين، مأساة ماركس التاريخية! لكنها تبقى مع ذلك قدره التاريخي أيضا، بمعنى مأثرته وآثاره المحتملة، كما سنرى ذلك على مثال "الشيوعية العربية".

إن القيمة الكبرى لفلسفة ماركس تقوم أساسا في فكرتها التاريخية. فقد اخضع ماركس كل شيء لرؤيته التاريخية، بما في ذلك المنهج نفسه. وليس مصادفة أن يكون ظهور الكثير من التيارات الفلسفية الكبرى عن التاريخ ليس إلا نماذج متنوعة من إعادة "قراءة" التاريخ تحت أثر فلسفة التاريخ عند ماركس. وبقدر ما ينطبق ذلك على ماكس فيبر، فإنه ينطبق أيضا على تراث التيار الفلسفي الداعي بالرجوع إلى كانط (الكانطية الجديدة) وبالأخص في مدرسة بادن واهتمامها النوعي بفكرة التاريخ وبالأخص عند كل من فيلهيلم فيندلباند وهنريخ ريكرت. والشيء نفسه يمكن قوله عن مختلف التيارات النقدية لليسار الجديد الذي اكتسح العالم على امتداد عقود، وبالأخص في ستينيات وسبعينات القرن العشرين، سواء في مدرسة فرانكفورت أو الوجودية (وبالأخص ياسبرس وتأملاته الفكرية عن التاريخ ومعنى التاريخ). وأخيرا كل نماذج وشخصيات "قراءة" التاريخ والنصوص من اجل إعادة بناء وتركيب الصورة التاريخية الفعلية للماضي والحاضر كما نراه عند غادامير وفوكو ودريدا وغيرهم. إضافة إلى مدارس التأويل الحديثة بل وحتى المناهضة للماركسية كما هو الحال على سبيل المثال عند والت وتمان روستاو في كتابه (مراحل النمو الاقتصادي – البيان غير الشيوعي"، أي ترديده "المقلوب" لصدى الفكرة الماركسية عن مراحل التشكيلة الاجتماعية الاقتصادية.

إن ماركس قد يكون الوحيد من بين فلاسفة التاريخ الذي جعل من فكرة المنهج ذاتها، بوصفها منطقا مجردا، جزء من تاريخ العلاقات الاجتماعية والاقتصادية أيضا. ولا تخلو هذه الفكرة من ثغرات جدية بسبب ما فيها من استعداد لنقل هواجس السببية المشروطة بحياة الناس المادية إلى ميدان الفكر المجرد واجتهاده في استخلاص قواعد التحليل والدراسة. مع أن هذه القضية تبقى إحدى اشد القضايا تعقيدا بالنسبة لتحديد ماهية وحدود المنهج، لكنها تكشف عن الهاجس التاريخي في فلسفة ماركس، أي جوهرية الرؤية التاريخية في تفسير أصول الأشياء، كل الأشياء، من الإنسان إلى "الله". الأمر الذي كان يلازمه بصورة خفية تراكم الاستعداد الخفي لفكرة الحتمية وكمونها في كل شيء، بما في ذلك في الموقف من التاريخ. بحيث يمكننا القول، بأن الاستعداد الأيديولوجي الكامن في فلسفة ماركس عن التاريخ كان يكمن أساسا في غلو نزوعها التاريخي. وذلك لأن المضمون الفعلي والتأسيس النظري لفلسفة التاريخ عند ماركس كانت تقوم في محاولتها توحيد الماضي والمستقبل في كل واحد بوصفه صراعا. من هنا جوهرية فكرة الصراع الطبقي بوصفه "القوة المحركة للتاريخ العالمي". وعليها جرى تأسيس فكرة انتهاء تاريخ الطبقات والملكية الخاصة، حالما يجري بلوغ التاريخ ذاته من جديد. وهي فكرة "فعلية" للصيغة المجردة التي بلورها هيغل عن وعي الذات التاريخي بوصفه نفيا كليا في مسار الروح. غير أنها تأخذ عند ماركس صيغتها الواضحة والعملية من خلال تحويل فلسفة النفي المنطقي إلى وعي الذات الطبقي عبر النفي التاريخي (الانتقال) من مشاعية بدائية إلى مشاعية متطورة (شيوعية)، بمعنى نفي تاريخ الملكية الخاصة في تشكيلاتها المعروفة (من عبودية وإقطاعية وبرجوازية).

إن نهاية تاريخ الملكية الخاصة يعني بداية التاريخ الفعلي، أو الانتقال إلى "ملكوت الحرية". حينذاك تتحول المفاهيم المتعلقة بالدولة والسلطة والاقتصاد والإنسان والحياة مع ما يلازمها بالضرورة من تبدل نوعي في القيم، أي كل ما كان يتراكم في مشروع "الاشتراكية العلمية" بوصفها إحدى فرضيات الأمل الواقعي. مما جعل من فلسفة ماركس بهذا الصدد فلسفة الأمل والتفاؤل المطلق. من هنا احتواءها بقدر واحد على مزيج من طوباوية الأمل ومشاريع العمل الفعلية. لكن تحويل هذا المزيج النموذجي للعقل والوجدان إلى أيديولوجية العمل الحزبي قد جعل منها سبيكة "واقعية". وذلك لأنه أدى إلى رفع الفعل وتحسس قيمته المجهولة في الأغلب من قبل صانعيه، إلى "حقيقة". وعادة ما تلازم هذه العملية آلية فعل الأيديولوجيا نفسها، مع ما يترتب عليه من ابتذال دائم للاجتهاد النظري بشكل عام والعملي بشكل خاص. وهو السبب القائم وراء شعور ماركس المليء بالنفور والقرف مما اسماه "بالشيوعية المبتذلة"، التي جعلته أيضا يقول، بأنه "ليس ماركسيا". أما محاولة توظيف هذه العبارة من اجل إخراج النفس من هذه الصيغة أو الصيغ المبتذلة، فإنه يفترض الخروج على "الشيوعية المبتذلة" و"الماركسية المبتذلة" عبر رفعهما إلى مصاف الرؤية النقدية الحقيقية القادرة على تجاوزهما أو إعادة تفعيلهما بالشكل الذي يجعلهما طاقة فكرية روحية إضافية وايجابية بالنسبة للعقل والوجدان الاجتماعي. وهي عملية ممكنة فقط حالما يجري دمجهما النقدي الكلي بمنظومة جديدة للفكرة التاريخية والسياسية. غير أن هذه المهمة تبقى كما يقال من نوع وطراز آخر لا علاقة ولا قدرة للأحزاب بها، أيا كان نوعها وتاريخها وتراثها. فالأحزاب تنتهك وتبتذل الفكر حالما تسعى للتعبير عنه أو جعل نفسها ممثلة أو حاكمة له وعليه. وعلى العكس من ذلك كلما تقترب من الحياة الواقعية والفعلية وتعمل بمعايير الاجتهاد العقلي والنزعة الإنسانية كلما تقترب أكثر فأكثر من مشاريع الفكر المتسامي. والسبب يكمن في أن الفكر والحزب يختلفان من حيث الرؤية والوسيلة والغاية والقيم والمفاهيم.

وإذا كان من الممكن الحديث عن ماركس بمعايير الرؤية النقدية الفلسفية هنا، فإن نقطة ضعفه الكبرى تقوم في استمراره بتقاليد العقل المطلق والنزعة الكونية المطلقة. لاسيما وانه اختلاف جلي أيضا بما في ذلك بمعايير ماركس نفسه. فقد كان النقد العقلاني الذي وجهه ماركس لهيغل يقوم بالذات في الكشف عن الخلل المنطقي والتاريخي في روح الديالكتيك وبلوغه النهاية المتعارضة مع مساره الذاتي في نماذج العقل المطلق. فالوحدة القائمة بين الروح العندي والروح الموضوعي والروح المطلق في الفلسفة الهيغلية يفترض حسب منطقها الذاتي أن تكون مجرد حركة لا تنتهي ولا تتناهي بوصفها جزء من فكرة المطلق. غير أن الفيلسوف عادة ما يرغب في رؤية ثمار اجتهاده بوصفه نهاية الرؤية الحقيقة أو حقيقة التاريخ الفعلي بعد أن يكشف عن نفسه فيها. وهو الخطأ أو النقص الذي كان جليا لماركس منذ انتقاله من راديكالية الهيغليين الشباب إلى تأملاته النقدية الأولية ونفيها اللاحق في محاولاته إيقاف الديالكتيك الهيغيلي على قديمه بعد أن كان يقف على رأسه! وهي مهمة أنجز ماركس صيغتها الأولية. لكنه أعاد تكرار نفس الخطأ الهيغلي ولكن من خلال إيقاف حركة الديالكتيك، وليكن على قدميه! فإذا كان الفرق بينهما يقوم في أن الديالكتيك عند هيغل يقف على رأسه وتوقف، فإن إيقافه على قدميه عند ماركس كان يتضمن أيضا توقفه عند مشروع لا يخلو من طوباوية إنسانية. الأمر الذي جعلها محببة لقلوب الحفاة ذوي القبضات المتشنجة في تحديها للأرض والسماء على السواء! وفي هذا تكمن أيضا قيمة ماركس التاريخية.

فقد كانت فلسفة ماركس من حيث الجوهر اجتهادا نظريا في تفسير الواقع الرأسمالي الأوربي آنذاك والبحث عن بدائل لتجاوزه. وبالتالي فهي إحدى النظريات النقدية الكبرى في مواقفها الاجتماعية والسياسية. من هنا جوهرية التاريخ والرؤية التاريخية فيها. وهو استنتاج لا يقلل ولا ينفي ولا يتعارض مع الحقيقة القائلة، بأن نظرية ماركس عن المجتمع، بل عن كل شيء، هي نظرية تاريخية. كما أنها بالقدر ذاته فلسفة تاريخ من ألفها إلى يائها في تأسيسها ودعمها لرؤيتها المستقبلية. لقد وحدّت فلسفة ماركس في مقولاتها ومفاهيمها واستنتاجاتها النظرية منظومة خاصة سعت لتفسير كل ما كان يواجهها، وتأسيس مهمة تغييره بمعايير التاريخ الواقعي وبمعايير المستقبل أيضا، بوصفه احتمالا واقعيا ومستقبليا.

وقد تعرضت آراء ماركس بعد أن تحولت إلى "ماركسية" إلى نفس المصير الحتمي الذي تتعرض له الأفكار الكبرى حالما توضع فكرة البدائل في مشاريع أيديولوجية عملية. بعبارة أخرى، إن تحويل ماركس إلى "نبي" ومؤلفاته واجتهاده النظري إلى "كتب مقدسة" قد أدى إلى نفي الروح النقدي لماركس. مع ما ترتب عليه بالضرورة من جعله جزء من ماركسية الدولة ومساعيها لتدعيم النظام والسلطة. وهي عملية يرافقها بالضرورة جعل مهمة التبرير والتأويل المتحزب لماركس "ماركسية رسمية"، بوصفه المصير الذي دفع ماركس ثمنه، بمعنى جعله جزء مطواعا ومتطوعا بدون إرادته في خدمة مصالح النخبة المترقية من حضيض الحثالة الاجتماعية إلى هرم الارستقراطية "الثورية". والشيء نفسه يمكن قوله عن مجرى تحوله إلى أيقونة الأحزاب الشيوعية ومختلف تيارات اليسار، الذي أدى إلى تبسيطه وابتذاله من اجل جعله مقبولا. لكنها في الوقت نفسه عملية طبيعية، ترافق بالضرورة انتقال الأفكار العملية الكبرى إلى ميدان العوام. فالأغلبية المطلقة من أتباع اليسار "الكادحين" تحتوي على فئات يصعب تحديدها بمعايير العلم، ويسهل توظيفها بمعايير الأيديولوجيا، من هنا فهمها لماركس بمعايير الشعارات الرنانة. ومن ثم تغيب وتتلاشى وتضمحل حقيقة ماركس بالنسبة للأغلبية المطلقة، وتبرز وتتوهج وتنتعش صورته الأيديولوجية السياسية والحزبية المتوافقة مع ذوق العوام. وليس مصادفة أن لا يقرأ الشيوعيون ماركس، وبالأخص "قادة" الأحزاب منهم!

لا تخلو هذه العملية المعقدة من دراما التاريخ و"مكر الله" و"العقل المطلق". بمعنى أنها تحتوي بقدر واحد على ما في نزوع الفكر العملي صوب الجماهير من أقطاب متناقضة ترتوي من رحيق الفكرة الإنسانية الساعية صوب الحرية والنظام الأمثل من جهة، وتتعطش في مجرى سقيها لجفاف العقول النظرية من مخزونها المحدود، من جهة أخرى. فالنظريات الكبرى عادة ما تعاني من نقص جوهري بمعايير التاريخ، ومنطقي بمعايير الحقيقة. وذلك بسبب مساعيها الذاتية للتعميم النظري. وهو "نقص" ضروري أيضا لأنه جزء من صيرورة الوجود والعدم الكبرى. وضمن هذه الرؤية يمكننا القول، بأن ما جرى من تصنيع للماركسية، أو لماركسيات متنوعة ومختلفة ومتباينة ومتناقضة ومتصارعة هو نتاج لا علاقة لماركس به. بمعنى أنه جزء من صيرورة الوجود الجديد لماركس معين وانعدام آخر. وهذا بدوره ليس إلا الحالة المرافقة لكل تأويل متجدد، بغض النظر عن مستواه ودقته وقدرته على الاستجابة لما يسمى بمتطلبات العصر. وعادة ما تلازم هذه الحالة مسار الفكر والتاريخ الواقعي بقدر واحد. من هنا طابعها الدرامي بمعايير النظرية والتطبيق، والتاريخ والفكر، والواقع والبدائل. (يتبع...).

 

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم