أقلام فكرية

الأيديولوجية الشيوعية العدو اللدود للماركسية!

ميثم الجنابيماركس ما بعد ماركس: عوضا عن الخاتمة (9-9)

إن احدى المفارقات المدهشة لمصير الماركسية والفكرة الشيوعية تقوم في صراعهما العلني والمستتر، مع أنها من أصل وجذر واحد. بمعنى إن الفكرة الشيوعية هي الوجه السياسي والعملي والمستقبلي لحصيلة الاجتهاد النظري (الفلسفي) لماركس. وإن سبب هذه المفارقة يكمن أولا وقبل كل شيئ في تعايش العلم (الفلسفي) والأيديولوجية (السياسية). ومن ثم ضمور الأولى لصالح الفكرة الحزبية. ومن تداخل هذه القوى المتعارضة والمختلفة والمتضادة أحيانا جرى صنع ظاهرة تحول الأيديولوجية الشيوعية إلى العدو اللدود للماركسية. وهي ظاهرة يصعب حدّها بمعايير المنطق، لكنها أكثر واقعية من المنطق نفسه! وهي الظاهرة التي يمكن رؤيتها على مثال أغلب التجارب السياسية و"الفكرية" للأحزاب الشيوعية. 

كما إننا نعثر في هذه الحالة المفارقة للماركسية، أي تحولها إلى قوة أيديولوجية عارمة على نجاحها التاريخي وسقوطها السياسي أيضا. فإذا كان النجاح قد حالف ماركس من حيث الشهرة والقدرة المعنوية للتأثير في مسار التاريخ العالمي للقرن العشرين مقارنة على سبيل المثال لا الحصر بما قام به رانكه في محاولاته تنظيم الفكرة الهيغلية تجاه مراحل التاريخ بوصفها "تموضعا" للفكرة والعقائد (كما ظهرت في البروتستانتية)، فلأن ماركس ربط استنتاجاته النظرية بالفئات الأوسع انتشارا في أوربا القرن التاسع عشر (بروليتاريا المدن الصناعية)، بوصفها طبقة المستقبل، أي القوة التي تجّسد في ذاتها ولذاتها إدراك أهمية وحتمية النفي التاريخي للملكية الخاصة والطبقات بوصفه "قانونا". ومع كل ازدياد في توسع مفهوم الجماهير (الفلاحون والفئات الرثة ثم الشرق بأكمله!) توسع مدى تطابق وتماهى ماركس مع "ماركسية" الأحزاب، والأيديولوجية الماركسية مع هتاف الجماهير. عندها أصبح ماركس الشخصية الأقرب إلى العقول البسيطة والبطون الفارغة. بمعنى تحولت الماركسية بهيئة الشيوعيىة الى دين من نوع جديد مع إن كل ما فيها معاد للدين. بل وكانت الفلسفة الأكثر تنظيما لفكرة النفي الفلسفي للأديان والأيمان الديني. من هنا واقع المفارقة النموذجية بهذا الصدد والتي نعثر عليها عند اتباعها. والمقصود بذلك هو أن اتباع الشيوعية عادة ما يتهمون رفاق الدرب القدماء بالمروق والخيانة حالما يخرجون من قيود الماركسية بوصفها اجتهادا نظريا، بينما غيّر ماركس تبعيته في ميدان الفكر الفلسفي والسياسي ما لا يقل عن سبع مرات!! وهذه في الواقع من فضائله. فالفكر الكبير ليس متقلبا بل نقديا. والماركسية مجرد فكرة لا غير شأنها شأن كل ما سبقها ولحقها. أما تحويلها الى عقيدة فقد قتلها وجعلها أداة بأيدي الحمقى والمغفلين. إن محاولة الإبقاء على ماركس أيقونة أو مسبحة بأيدي عجائز العقول الخربة والأنفس الميتة وعنفوان الغرائز الجسدية يجعل مما فيه قوة قاتلة ومدمرة شأن احاديث النبي والقرآن وأقوال السلف "الصالح" بأيدي السلفيات الإسلامية المتشددة، أي همجية لا علاقة لها بأصول الفكر والفكرة والرجال. بحيث نرى هيمنة فكرة وأسلوب المحرمات في الأحزاب الشيوعية لا تقل عما عليه الأمر في السلفيات المتشددة. بمعنى تمثلها لنموذج التحريم والتجريم. إن تحويل هذه القواعد الدينية ونقلها إلى الحزب جعل منه كيانا أقرب ما ميكون إلى محاكم تفتيش لها كهنتها وجلاديها. لكن أفضع ما فيها كونها موجهة ضد اتباعها! وهذه كنيسة غريبة! وقد ترتب على هذا الاثر التخريبي للاحزاب تدمير منظومة القيم بشكل عام والعلمية بشكل خاص. بحيث يمكننا رؤية الجرأة العارمة للتجريح والهجوم والتدمير والاستعداد للقتل وما شابه ذلك من قبل أميين وجهلة وأنصاف متعلمين ومن ذوي الشهادات الرسمية الفارغة! ومن بين نوادر هذه الحالة إن احد الأشخاص قد هاجمني مرة بشدة وعنف "ثوري" على مقال نقدي ضمن هذا السياق، لا تتعدى حصيلته "العلمية" مدرسة متوسطة وثلاث سنوات في السجن! وإن السبب القائم وراء هذه الظاهرة هو أن الأيديولوجيا زمن! لهذا سرعان ما تضمحل وتتلاشى بحيث لا تبقي من آثارها على شيئ غير غباء "مجتهد" وذهنية متشنجة ونفسية متعصبة تلازمها في الأقوال والأعمال.

إن مهمة نقد الشيوعية هنا وغيرها لا تهدف إلى نقد الشيوعية كما هي بوصفها فلسفة، مع ضرورته، ولكنه يهدف أساسا إلى تعليم العقل السياسي مرونة الانفتاح بما في ذلك على النفس، وتحريره من ثقل الأيديولوجية الطاغي. فإذا كنت تكره الطغيان، فلا بأس بالبدء به أولا من النفس. فالايمان الاجوف بالأفكار قبل تفحصها النقدي هو طغيان الجهل والعبودية. وقد التقيت بشخصيات شيوعية حزبية "قائدة" لم تقرأ في حياتها مقالا للينين. أما ماركس فإنهم لم يسمعوا إلا ببعض كتبه. الأمر الذي جعل من الشيوعية والماركسية مجرد صيغة مناسبة للذهنية السياسية الحزبية ونفسية الطوائف، ومن الذهنية السياسية والأيديولوجية نفسية الإيمان. وقد كانت تلك الوسيلة "المثلى" والملازمة لهذا النمط من التفكير والنفسية أن يجري احتكار الفكرة من جانب أزلام الاحزاب. بحيث جرى ربط الأحزاب بالفكر، وأزلام الأحزاب بالفكر. بحيث اخذت بالانتشار، بأثر ذلك، ظاهرة "مفكرون" جهلة وأنصاف متعلمين. بل و"مفكرون" و"منظرون" لم يكتبوا شيئا!! فكيف يظهر مفكرون بلا فكر؟! وعلماء بلا علم؟! وحثالة في هيئة مبدعين؟!

إنها الحالة التي يتجسد فيها انقلاب القيم والمفاهيم. بحيث يؤدي إلى استعداد الجميع للتقلب والتبدل دون تراكم ذاتي. شيوعي حتى الجلد وقت الجَلد، ثقيل كالجاموس في أهوار العراق، هادئ وثقيل وقت الراحة والعلف، ومتحمس وسريع الحركة وقت الهروب. بحيث نرى امثلة عديدة كيف يترك "قادة" الأحزاب الشيوعية وهم في السبعين والثمانين من العمر ويتبارون في الدفاع عنه أو مباركته في مناسبات "الولادة" و"الشهادة"! إن السبب وراء هذه المفارقة الغبية بسيط للغاية، ولا علاقة لها بالفكر، بقدر ما لها علاقة بالنفس. بمعنى الخوف من تمزيق القاعدة التي جرى تربيتها على هذا النمط. عندها ستبدأ سكاكين الرحمة في تشريح الجلد الرقيق عن اللحم العتيق، وإبراز كل بواطن النفس والجسد، أي كل ما لا ينبغي التعرض له.

إن احتكار الماركسية من جانب الأحزاب الشيوعية قد أدى إلى نتائج عملية بائسة بالنسبة لفكرة الحزب والتاريخ السياسي والدولة والأمة والثقافة. فهل يمكن للمرء أن يكون مفكرا ماركسيا؟ لا يمكن! لأنه مجرد تابع، أو في أفضل الأحوال تلميذ نجيب. ففي تقاليد الإسلام على سبيل المثال يقولون عن المجتهد الكبير "إمام" أي من يتقدم بين اقرانه (لأنه مسلم). لكنه يمكنه أن يكون صاحب مدرسة في علم الكلام والفلسفة والتصوف الخ. وبالمقارنة، لا يمكن للمرء أن يكون في الأحزاب الشيوعية سوى ايديولوجيا فقط، أي منّظرا في مجال الأيديولوجيا. وليس مصادفة أن يجري مصادرة فكرة "الطليعة" في التجارب الشيوعية جميعا. والأولية هنا للاستعداد والقدرة على المصادرة. من هنا بلورة فكرة ومفاهيم "الطليعة السوفيتية" في كل شيئ (الأمم، والتاريخ، والأحزاب، والفكر، والعلم، والحقيقة، والعمال، باختصار في كل شيئ). وما هو الغريب في الأمر؟ فقد قال لينين (الحزب هو عقل وضمير الطبقة العاملة). وأصبح ذلك شعارا للدولة والحزب. وللفكرة معناها الأيديولوجي ومعناها الفعلي. الأول وهي رغبة حالما تصطدم بالواقع، فإنها تتحول بالضرورة إلى مصادرة. الأمر الذي نعثر عليه في تجارب الأحزاب الشيوعية جميعا. ولا يمكنها التخلي عن ذلك إلى أن تنقرض. وذلك لأن "طليعبتها" تعادل معنى مصادرة العقل والضمير. مما يحولها مع مرور الزمن إلى انحطاط متراكم. وهي حالة يمكن رؤيتها على مثال الانحطاط البياني في شخصياتها الكبرى. فمن شخصيات ماركسية اولية كبرى مثل كاوتسكيي وبليخانوف ولينين وتروتسكي وأمثالهم يتحول ستالين إلى رجل الفكر الأول مع أن حصيلته العلمية والمعرفية مدرسة دينية اولية فقط! وهي ظاهرة يمكن العثور عليها في تجارب الأحزاب الشيوعية في كل مكان. بمعنى هبوطها المستمر. ففي المشرق العربي نعثر على بكداش (سوريا) وعزيز محمد (العراق)، باختصار اكراد وفكر مثل وصحراء وسحر! وتلك مصيبة يا أم عمرو!

وفي حالة تخصيص هذه الظاهرة في العالم العربي التي أدت في نهاية المطاف إلى خاتمة تعيسة ومثيرة للسخرية بالنسبة لتجارب الأحزاب الشيوعية، فتقوم في تحول الأيديولوجية الشيوعية "العربية" إلى أيديولوجية أقليات قومية وعرقية ودينية. وهكذا كان الحال في كل مكان. وليس مصادفة أن يرفضها جميع رجال الفكر الكبار في العالم اجمع. وفي هذا كانت وما تزال تكمن مأساة ماركس والماركسية. بل إن سقوط الشيوعية في كل مكان مرتبطا بهيمنة الأقلية. فجميع الدول التي انهارت فيها الشيوعية كانت بسبب هيمنة الأقليات في قيادة الحزب الشيوعي، كما نراه في الاتحاد السوفيتي وأوربا والعالم العربي وغيرها. والاستثناء الوحيد للصين، لأنه لا أقلية هنا. والأولوية فيها للدولة والأمة. أما الحزب والأيديولوجية فهي أداة معمرة. وعلى العكس من ذلك، حالما تهيمن الأقلية، فإن الأيديولوجية والحزب تصبح أداة مدمرة. وهي عبرة فيما يبدو متأخرة بالنسبة للأحزاب الشيوعية. ولكنها مهمة لغيرهم. (انتهى)

***

ا. د. ميثم الجنابي

 

في المثقف اليوم