أقلام فكرية

فلسفة الثقافة والحضارة عند ابن خلدون

ميثم الجنابيقراءة فلسفية جديدة لفلسفة ابن خلدون (8)

إن أحد المكونات الجوهرية التي ترافق وتلازم انتقال المجتمع والدولة من البداوة إلى الحضارة، أي كل ما يرتبط بهيمنة وسيادة واستبداد الملك (السلطة والدولة) هو توسع مصادر الثروة وثرائها. وهذا بدوره يؤدي إلى الترف الذي يحصل على انعكاسه المتنوع في أبهة الحضارة وبهائها وازدهارها. وهذه بدورها ليس إلا الوجه الناصع منها، والذي يكمن خلفه عدد هائل من صفات الرذيلة. والرذيلة بدورها جزء من ثقافة الدولة والمجتمع والحضارة. لهذا لم ينظر إليها ابن خلدون بمعايير ومقاييس الرؤية الأخلاقية وأحكامها المجردة، بل اعتبرها ضرورية أيضا من وجهة نظر المسار التاريخي الطبيعي للوجود الإنساني. وليس مصادفة أن يفرز في إحدى ملاحظاته الدقيقة والنقدية في الوقت نفسه مفارقة الظاهرة الملازمة لتطور الثقافة والحضارة من أن السعادة والكسب يحصل غالبا لأهل الخنوع والتملق. وهي رؤية تاريخية وواقعية تتوافق مع منهجه العلمي والتاريخي الدقيق، الذي يقرّ بالظواهر كما هي ويحللها بمعايير تطورها الذاتي. انه يكشف عن رؤية نقدية لإحدى مفارقات الوجود الطبيعي والتاريخي للإنسان. ويحللها من خلال تطور الدولة وأدواتها المرتبطة أساسا بفكرة الإكراه. فالإكراه هو الوسيلة التي من خلالها يجري بناء الدولة ووحدة البشر. غير أن للإكراه في الدولة، عند ابن خلدون بعدا ايجابيا. فحالما يستتب الملك والسلطان ويكبر يصبح الجميع بالنسبة له سواء. وبالتالي، يفّضل من يخضع له ويأتمر بأمره في كل شيئ. من هنا "سعادة" المتملقين وتعاسة أهل الشموخ والإباء. وليس مصادفة أن يكون "الكامل في المعرفة" سيئ الحظ كما يقول العامة، وذلك لأنه "حوسب بما رزق من المعرفة"[1]. وينطبق هذا على كافة أهل المعرفة والفقه والعلم وما إلى ذلك. وهنا يكمن سرّ الشكوى التاريخية والمعنوية التي يوجهها أهل العلم والمعرفة من تعاسة الواقع وسوء الحظ.

إن رذيلة الإكراه بمعايير الرؤية الأخلاقية هو فضيلة بمعايير الرؤية التاريخية والسياسية. وهي الحالة التي وقف أمامها ابن خلدون وحاول تفسيرها على أساس تحديد طبيعة العلاقة بين الجهل والمعرفة والإكراه. إذ نراه يعطي لها بعدا فلسفيا على مثال علاقة الخير والشر القائمة في الوجود. فالخير، بالنسبة لابن خلدون، هو من العناية الربانية بينما الشر أحد أعراض الوجود الضرورية كسائر الشرور الداخلة في "القضاء الإلهي". فوجود الكثير من الخير يلازمه شرّ قليل وهو "معنى وقوع الظلم في الخليقة"[2]. وبالتالي لا يمكن للتعاون أن يحصل بين البشر دون الإكراه وذلك لجهل اغلب الناس "بمصالح النوع"[3]. وسبب ذلك يقوم في أن الإنسان وأعماله تصدر عن روية واختيار، ومن ثم تختلف مواقفهم ومشاربهم، وبالتالي لا سبيل إلى وحدتهم إلا بالقوة والإكراه لكي يجري حفظ الوجود. أو كما يقول ابن خلدون "لابد من حامل يكره أبناء النوع على مصالحهم لتتم الحكمة الإلهية في بقاء النوع"[4]. إذ كل ما في الوجود جزء منه، وبالتالي يخدم ضمن سياقه وإمكاناته الذاتية والفعلية حركة المسار التاريخي بوصفه تاريخيا طبيعيا. وضمن هذا السياق اعتبر الاختلاف والتباين بين طبقات المجتمع أمرا طبيعيا وضروريا للتعاون. انه ينظر إليه ضمن سياق المسار التاريخي والحالة الواقعية للتطور التاريخي. من هنا تقريره حالة التركيبة الطبقية السائدة آنذاك عن أن الملوك في قمة الهرم وفي الأسفل من لا حول لهم ولا قوة. وما بينهما طبقات متعددة تنتظم بها الحياة، وذلك لأن النوع الإنساني لا يتم وجوده إلا بالتعاون[5]. وهذا التنوع الذي يبدو قاسيا ومريرا ولا أخلاقيا في بعض مظاهره هو فضيلة اجتماعية واقتصادية وعلمية ومن ثم تاريخية. ففيه تكمن أيضا القوة الدافعة للإنتاج والتطور، والذي يجد تعبيره المناسب في زيادة عدد السكان، واشتراكهم في العمل الاجتماعي، وتحسين شروط الحياة وما شابه ذلك.

من هنا انطلاق ابن خلدون في تتبعه لآلية التطور الثقافي من خلال دراسة التطور الاقتصادي والعلمي وأثره في توسع الدولة والحضارة. فالفكرة الاقتصادية عنده تشكل الحلقة الرابطة بين العصبية والدولة من جهة، والحضارة من جهة أخرى. لكنهما في الوقت نفسه حلقات أو كل مترابط وواحد. لكن الاقتصاد والحياة الاقتصادية يشكلان القوة المؤسسة والمتغلغلة في كل نسيج الوجود الإنساني وتاريخه. وليس مصادفة انطلاق ابن خلدون من مهمة تحديد معنى ومضمون المصطلحات الاقتصادية مثل الرزق، والكسب، والذخيرة، والقنية، والمعاش، والعمل. وهذه جميعا مرتبطة بحياة الإنسان وسعيه للعيش والوجود. وبالتالي، هي أمور طبيعية. وقد حدد ابن خلدون الرزق على انه كل ما "عادت منفعته على الإنسان وحصلت له ثمرته من إنفاقه في مصالحه وحاجاته". أما الكسب فهو كل ما يجري الحصول عليه بدون عمل (منتج) كالإرث وما شابه ذلك. لكنه يتحول إلى رزق حالما يجري استعماله للفائدة. أما الذخيرة فهي المعادن الثمينة مثل الذهب والفضة. أما القنية فهي كل ما يفيده الإنسان ويقتنيه من المتمولات. فإن كانت من الصنائع فالمفاد المقتنى منه قيمة عمله، وهو المقصود بالقنية، إذ ليس هناك إلا العمل، وليس بمقصود بنفسه للقنية. وقد يكون مع الصنائع في بعضها غيرها مثل التجارة والحياكة معهما الخشب والغزل، إلا أن العمل فيهما أكثر، فقيمته أكثر. وإن كان من غير الصنائع فلابد في قيمة ذلك المفاد والقنية من دخول قيمة العمل الذي حصلت به. إذ لولا العمل لم تحصل قنيتها"[6]. أما المعاش فهو مكاسب الإنسان كلها. مما سبق يتضح بأن كل هذه الجوانب الملازمة للحياة الاقتصادية هي أما نتيجة مباشرة للعمل أو مرتبطة به بشكل ما من الأشكال. من هنا قوله، بأن "المفادات والمكتسبات كلها أو أكثرها إنما هي قيم الأعمال"[7]. وبهذا يكون ابن خلدون قد شدد على أولوية وجوهرية العمل في الحياة الاقتصادية والثروة والدولة والعمران ككل. من هنا قوله "لابد من الأعمال الإنسانية في مكسوب ومتمول لأنه إن كان عملا بنفسه مثل الصنائع فظاهر، وإن كان مقتنى من الحيوان والنبات والمعدن فلابد فيه من العمل الإنساني كما نراه. وإلا لم يحصل ولم يقع به انتفاع". وبالتالي، فإن كل شيء في حياة الإنسان مرتبط بالعمل. بل أن وجود الآبار والينابيع بل حتى ضروع الحيوان (انباط وامتراء) تنضب بدون العمل الإنساني، كما يقول ابن خلدون.

لقد اعطى ابن خلدون للعمل قيمته وأثره الجوهري بالنسبة لحياة الإنسان والمجتمع والدولة، كما انه مصدر العمران والحضارة. فالحضارة غناء وثروة وترف ورفاهية. وهذه كلها نتاج العمل الإنساني. بل إن العمل هو الذي يحدد قيمة الأشياء والثروة. من هنا حكمه على أن قيمة العمل عرضة للتلف والزوال بزوال العمران، لأنها نتاج العمران. كما أن القيمة المنتجة لا تذهب وتزول بصورة كلية، وذلك لأنها تنتقل أما من جيل لآخر، أو من بلد ودولة إلى أخرى. وما يجعلها مستمرة متزايدة هو العمل والعمران. وما عدا ذلك مجرد أشياء أيا كان شكلها ونوعها من ذهب وفضة وجواهر وأمتعة. فهي لا تختلف عما غيرها من حديد ونحاس ورصاص[8].

ودفع ابن خلدون فكرته عن العمل إلى مداها الأبعد بوصفه القوة الطبيعية للوجود الإنساني، بل والقوة التي تختمر فيها قوة العقل المنطقي والروح الثقافي بمختلف أشكاله وأصنافه ومستوياته. من هنا نقده اللاذع لمساعي الأفراد بالحصول على الثروة خارج اطار العمل المنتج. من هتا قوله، بأن الفلاحة والتجارة والصناعة هي وجوه طبيعية للمعاش. أما ابتغاء الأموال من الدفائن والكنوز فإنه لا يدخل ضمن المعاش الطبيعي[9]. وبالتالي، فإن عدم طلب المعاش بدون الوجود الطبيعي له كالصناعة والزراعة والتجارة يجبر المرء، كما يقول ابن خلدون، على سلوك طرق يؤدي به في نهاية المطاف إلى مصاعب وتعب أشد من وجود الكسب الطبيعي، كما يمكن أن يعرضه إلى العقوبات (بأثر الجريمة). ووجد في الظاهرة الأخيرة صفة مميزة "للمترفين من أهل الدولة، ومن سكان الامصار الكثيرة الترف"[10]. فالعمل هو المصدر الفعلي والحقيقي للثروة. من هنا نقده للكسل والسعي للحصول على الثروة بدون جد وكد، أي بدون جهد دءوب ومتواصل. لاسيما وأن ظاهرة الكسب بما يخالف الحالة الطبيعية يؤدي إلى تصنيع مختلف الخرافات والحيل، أي ما يشابه في عالمنا المعاصر الاهرامات الوهمية ومختلف المضاربات وأمثالها. من هنا اشارته إلى مظاهر الخبل والجنون بهذا الصدد بحيث يمكن رؤيته على مثال أولئك الذين يقومون ببناء مبان مغلقة والحفر فيها أو الهيام في البراري ومما شابه ذلك. واعتبر هذه "الأعمال" جزء من التخريف والخرافة والكذب. وإذا حدث في بعض منها "فهو في حكم النادر على وجه الاتفاق لا على وجه القصد"[11].

من هنا تقيمه العميق للعمل المنتج في ميادين الزراعة والصناعة والتجارة. إذ نعثر عنده على تقييم ثقافي وأخلاقي لهذه الميادين من جهة، وتحليل عميق اقتصادي اجتماعي وتاريخي بالنسبة لأهميتها الجوهرية بالنسبة للتطور الحضاري للأمم والدول. فقد اعتبر الصناعة ملكة في العمل الفكري والجسدي. ففي مجال الملكة الجسدية اعتبر ترتيبها اسهل من الثانية وذلك لارتباطها اليومي يتهذيب وتطوير الملكة الجسدية والمهنة. بينما يختلف الحال بالنسبة للفكر. فهو أصناف وحرفته في تراكمه، وبالتالي لا يحصل دفعة واحدة "وإنما يحصل في أزمان وأجيال" كما يقول ابن خلدون. وينطبق هذا أيضا على عموم الأمور الصناعية. إنها تحتاج إلى وقت زمن وتراكم المعرفة والعمل[12]. بينما وجد في التجارة وحياة التاجر حالة مرتبطة بمعاناة البيع والشراء وجلب الفوائد والأرباح مما يضطره إلى المكايسة والمماحكة والتحذلق وممارسة الخصومات واللجاج وما شابه ذلك. مما يؤدي إلى صنع أخلاق تناسبها. وهذه بمجموعها "نقص من الذكاء والمروءة"[13].

وفي مجرى توسعه لتأسيس افكاره، وبالأخص ما يتعلق منها بارتباط تطور وتوسع الصنائع بتطور الحضارة وعمرانها، يقسم ابن خلدون الصنائع إلى ثلاثة أصناف وهي كل من "الضروري وغير الضروري"، و"صناعة الأفكار"، و"السياسة". وأدخل ضمن الأولى (الضروري وغير الضروري) كل من الحياكة والنجارة والحدادة. أما ضمن (صناعة الأفكار) فقد أدخل فيها الوراقة والاستنساخ والتجليد، بوصفها خاصية الإنسان، كما يقول ابن خلدون. وأخيرا السياسة، التي أدخل فيها الجندية[14]. غير أن ذلك لا يعني استنفاذ كل الصنائع الواقعية والممكنة، بقدر ما تشير إلى ما هو أساسي آنذاك. وإلا فإننا نعثر عنده على وعي دقيق يقول بإمكانية الصناعات المستحدثة. وذلك بسبب ارتباطها بالعمران. فكمال الصنائع بكمال العمران كما يقول ابن خلدون. بمعنى إن التطور العمراني يلازمه بالضروري الانتقال المستمر من الضروري إلى الكمالي. ومن ثم ازدياد الاحتراف والدقة في الصناعات مما يستجلب يدوره وينتج عنه صناعات أخرى[15]. ومع ذلك فإنه يقدم تصنيفه الخاص لما اسماه بأنواع الصناعات أو أمهاتها، حيث يقسمها إلى الصناعات الضرورية والصناعات الشريفة. وضمن الضرورية يدخل كل من الفلاحة، والبناء، والخياطة، والتجارة، والحياكة. أما الصناعات الشريفة فهي كل من التوليد، والكتابة والوراقة، والغناء، والطب[16]. ويضع ابن خلدون هذه الصناعات ومهامها المتنوعة في صلب فكرته عن العمران والمدنية والحضارة[17]. حيث يتناولها بالشرح والتعليق من خلال ابراز أهميتها بالنسبة للتطور الحضاري. بمعنى النظر إليها باعتبارها وسيلة العمران والحضارة وتجليها في الوقت نفسه. فإذا كانت التجارة على سبيل المثال قد لعبت دورا كبيرا في تطور العلوم النظرية والعملية مثل صناعة السفن والهندسة ومعرفة الطرق والجغرافيا والمناخ والهندسة، فإن التوليد هو المهنة الضرورية بالنسبة لحفظ النوع الإنساني، بحيث نراه ينتقل إلى الجدل الدائر بين الفلاسفة المسلمين بهذا الصدد. ويقف بالضد من آراء الفارابي القائلة، بأنه في حالة انقطاع النوع الإنساني فإنه يستحيل ظهوره من جديد (ذلك يعني لا إله يصنع). بينما نراه من جهة أخرى يوافق آراء ابن سينا عن إمكانية ظهور النوع الإنساني بعد انقطاعه وذلك لإرتباط هذه العملية بمجرى الكون وتأثيره لاقتضاءات فلكية وأمور غريبة، كما نرى بعض أمثلتها أيضا في (رسالة حي بن يقظان) لابن طفيل. ويوافق ابن خلدون على آراء ابن سينا فقط في ما يتعلق بعدم انقطاع النوع أو إمكانية ظهوره من جديد[18]. بينما نراه في مجرى تناوله أهمية وقيمة الخط، تأكيده على ما للخط العربي من تقاليد عريقة. وقد بلغ مستوى رفيعا عندما بلغت الحضارة والترف مستواها كما نراه في الخط الحميري. واللغة الحميرية هي المسند وحروفها منفصلة. بينما يختلف الحال بالنسبة لمضر. عرب الشمال. وهو أمر جلي في الصيغ الأولى لكتابة القرآن. وخلاصة ما توصل إليه ابن خلدون بهذا الصدد عن أن "الخط من جملة الصنائع المدنية... والكمال في الصنائع إضافي وليس بكمال مطلق". وليس لهذا علاقة بالدين والأخلاق، بل مرتبط "بأسباب المعاش والعمران"[19]. ونعثر على نفس الموقف من الغناء والجمال. فهو ينطلق من أن تناسب الأوضاع في أشكالها وكيفياتها هو أنسب عند النفس وأشد ملائمة لها، وهو ما يعادل معنى الجمال[20]. إذ أن "كل ما سوى المرء في حال النظر إليه وتأمله يكشف عن وجود اتحاد بين الإنسان وغيره كما هو الحال في الكون ككل. وذلك لأن "الوجود يشرك بين الموجودات كما تقوله الحكماء، فتود أن تمتزج بما شاهدت فيه الكمال لتتحد به. بل تروم النفس حينئذ الخروج عن الوهم إلى الحقيقة التي هي اتحاد المبدأ والكون. ولما كان أنسب الأشياء إلى الإنسان وأقربها إلى أن يدرك الكمال في تناسب موضوعها هو شكله الإنساني، فكان إدراكه للجمال والحسن في تخطيطاته وأصواته من المدارك التي هي أقرب إلى فطرته"[21]. بينما نراه يتناول أهمية الكتابة والحساب للعقل. وانطلق بذلك من أن للكتابة والحساب أثرا كبيرا في تطور العقل الإنساني. وذلك لأن "النفس الناطقة للإنسان، إنما توجد فيه بالقوة، وإن خروجها من القوة إلى الفعل إنما هو بتجدد العلوم والإدراكات عن المحسوسات أولا، ثم ما يكتسب بعدها بالقوة النظرية إلى أن يصير إدراكا بالفعل وعقلا محضا..... كل نوع من العلم والنظر يفيدها عقلا فريدا. والصنائع أبدا يحصل عنها وعن ملكتها قانون علمي مستفاد من تلك الملكة، لهذا كانت الحنكة في التجربة تفيد عقلا، والملكات الصناعية تفيد عقلا، والحضارة الكاملة تفيد عقلا.... وإن زيادة العقل من تضافر مختلف العلوم والصناعات والتجارب."[22].

ووضع هذه المقدمة في أساس موقفه التاريخي الثقافي من العلم والتعليم من جهة، وفلسفته الخاصة بهذا الصدد من جهة أخرى. فقد اعتبر ابن خلدون العلم والتعليم في العمران البشري جزء من الصنائع. وهذا بدوره مرتبط بخصوصية الإنسان باعتباره كائنا مفكرا. فالإنسان، كما يقول ابن خلدون، في عملية تفكير دائم. وعن هذا الفكر تنشأ العلوم. مما يدفع به أما لتأمل تجارب الأسلاف أو المعاصرين أو الإبداع الذاتي. الأمر الذي يجعل من "العلم والتعليم طبيعي في العمران البشري"[23]. والتعليم بالنسبة للعلم "من جملة الصنائع". فالحذاقة في العلم والتفنن به "إنما هو بحصول ملكة في الإحاطة بمبادئه، وقواعده، والوقوف على مسائله، واستنباط فروعه من أصوله. وما لم تحصل هذه الملكة لم يكن الحذق في ذلك الفن حاصلا"[24]. ذلك يعني، إن ابن خلدون يضع أربعة شروط للاحتراف في ميدان العلم والمعرفة. وهي شروط تتمثل الفكرة الجوهرية في العلم الدقيق بوصفه استمرار وإبداعا. وطبق هذا الموقف العام تجاه ما اسماه بالملكات الجسمانية، وذلك لأن كل الملكات جسمانية كما يقول ابن خلدون. من هنا فهي بحاجة إلى العلم والتعليم. ووضع هذا الموقف العلمي الدقيق في أساس نفي كل أنواع الخرافة والإلهام المزيف وما شابه ذلك. وذلك لأن أساس هذه العلوم وتطوير ملكاتها مرتبط حسب رؤية ابن خلدون بكثرة العمران. ومن هذا الموقف العام قدّم تقسيمه الخاص والجديد للعلوم إلى صنفين هما الصنف الطبيعي، والصنف النقلي. والصنف الطبيعي هو كل ما يهتدي الإنسان إليه بفكره، أي كل ما يتطابق مع معنى الاجتهاد والاكتشاف العلمي. وأدرج ضمنها أساسا "العلوم الحكمية الفلسفية". فهي العلوم التي يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها، ومسائلها، وأنحاء براهينها، ووجود تعليمها حتى يوقفه نظره وبحثه على الصواب من الخطأ فيها من حيث هو إنسان ذو فكر[25]. لقد عظّم ابن خلدون الفلاسفة والفكر الفلسفي والعلوم الفلسفية من خلال مطابقتها مع جوهر وحقيقة الإنسان، بإعتباره كائنا مفكرا. فهي العلوم التي تتراكم في مجرى بحثه وتأمله لإشكالات الوجود والبراهين المنطقية لكي يكون بإمكانه التفريق بين الخطأ والصواب، ومن ثم بين الحق والباطل، والخير والشر. أما الصنف الآخر  (النقلي) فهي المعارف التي يحصل عليها الإنسان بالنقل أو الإيمان. من هنا قوله، بأنه لا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول.

من هنا يمكن التوصل إلى أن ابن خلدون يجعل من العلوم الحكمية (الفلسفية) أساس المعرفة العقلية والمنطقية، أي العملية التي تتطابق مع حقيقته بوصفه كائنا مفكرا. وبالتالي، ليست حقيقة العمران سوى النتاج الذي يرافق تأمله العقلي وإبداعه النظري والعملي من خلال تطوير وتهذيب ملكاته الجسمانية. والأخيرة هي الصيغة العامة لمعنى المعارف البشرية كلها واجتهاده النظري والعملي التاريخي. ووضع هذا المدخل العام في تعريفه وتقييمه للمعارف والعلوم التي ترافق العمران وترتبط به ارتباطا عضويا. الأمر الذي نعثر عليه في تتبعه وتحليله ونقده وتقييمه لعلوم عصره الكبرى، وبالأخص تلك التي ارتبطت بالعمران الإسلامي. فعندما يتناول علم الفقه وعلاقته بالعمران نراه يلاحظ طبيعة ونوعية الترابط بين انتشار الآراء والمذاهب ومستوى التمدن. فعندما يتناول انتشار المذاهب الفقهية، فإنه يلاحظ انتشار الحنفية في العراق والمناطق الثقافية العريقة، بينما يجد في انتشار المالكية في المغرب والاندلس آنذاك بسبب ما اسماه بغلبة البداوة عليهم[26]. وفي موقفه من علم الكلام نعثر عنده على إدراك واضح وجلي لمهمته باعتباره علم الدفاع عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على "المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السّنة"، وبالأخص عقيدة التوحيد[27]. وبالتالي، فإن مهمته ضرورية. والسبب يكمن في أن ميزان وأحكام العقل سليمة لا لبس فيها في كل ما له علاقة بالوجود الطبيعي والتاريخي للإنسان كما يقول اين خلدون. لكن العقل يقف عند تخوم القضايا المتعلقة بالإلهيات من توحيد ونبوة وحقائق الصفات الإلهية وما شابه ذلك[28].  من هنا انتقاده لآراء ومواقف وأحكام المجّسمة والحشوية بسبب تحجيمهم التام للعقل، بينما ينتقد المعتزلة بسبب مواقفها من قضية الصفات وخلق القرآن. في حين ينتقد الإمامية بسبب موقفها من قضية الإمامة. وذلك لأنهم "اعتبروا الإمامة من عقائد الإيمان، بينما الإمامة قضية مصلحية اجماعية ولا تلحق بالعقائد"[29]. ومع ذلك توصل ابن خلدون إلى أن "علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم. إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنّة كفونا شأنهم"[30]. وحسنا انه لم يقل كفونا شرهم! لكن المحتوى العقلي لموقف ابن خلدون وحكمه حول علم الكلام يقوم في عدم جدواه الآن. والقضية لا علاقة لها بالدور الذي لعبه "أهل السنّة والجماعة" بهذا الصدد، بقدر ما أن اضمحلاله كان مرتبطا بالهيمنة النقلية وعقائد الإيمان الميتة واضمحلال وتلاشي الدور التاريخي الثقافي للعقل النقدي والعقلانية.

بينما نراه ينظر إلى التصوف بمعايير الرؤية الثقافية والأخلاقية. من هنا قوله، بأن التصوف هو من العلوم الحادثة في الإسلام، وأنه استمرار لطريقة السلف الكبار (طريق الحق والهداية)، وأصله العكوف عن الدنيا والانقطاع إلى الله. فقد اشتق المتصوفة لأنفسهم، كما يقول ابن خلدون، طريق الأحوال في المعرفة وليس طريق الشك والبرهان واليقين العقلي. وبالتالي، فإن طريقتهم محاسبة النفس، والذوق والوجد، ولهم آدابهم الخاصة واصطلاحاتهم. وفي مجرى استعراضه لمختلف نماذج التصوف، أشار ابن خلدون إلى تعقد رؤيتهم مع مرور الزمن. كما إن كثير منهم أخذ يقول بالحلول، كما هو جلي في كتب ابن عربي وابن سبعين وأتباعهم. والسبب، من وجهة نظر ابن خلدون، هو أن اسلافهم كانوا "مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضا بالحلول وإلهية الأئمة"[31]. وبالتالي، فإن أغلب ما قاله المتصوفة المتأخرين مأخوذ من الشيعة. وعموما إن كلام التصوف يدور أساسا حول أربعة مواضع وهي المجاهدات والمكاشفات، والحقيقة، والكرامات، والشطحات[32]. إننا نعثر في موقفه وأحكامه هذه على رؤية تتصف بالاعتدال والنزعة العقلية والقبول بالمعنى الجوهري للتصوف. مع إن تفسيره ليس دقيقا ومليء بالأخطاء سواء ما يتعلق منه بابن عربي وعلاقة التصوف بالتشيع، ومواضيع اهتمامه. ومع ذلك، فإن ما يقوله بهذا الصدد معقول ضمن سياق رؤيته التاريخية والثقافية للعلوم والمعارف.

وضمن هذا السياق أيضا يمكن رؤية تفسيره لظهور وقيمة وأهمية ما اسماه بالعلوم العقلية وأصنافها. فهي علوم ملازمة للوجود الإنساني والعمران كما يقول ابن خلدون. ومن ثم لا تختص بكائن أو شعب أو ملة دون غيرها. إنها موجودة في النوع الإنساني منذ كان عمران الخليقة. وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة[33]. لقد نظر إلى العلوم الفلسفية بوصفها الصيغة التي تتطابق مع ماهية العلوم العقلية. وبالتالي، إتصافها بالعموم للّكل الإنساني بغض النظر عن العقيدة والدين والقومية. إنها الصيغة الأولية والكبرى والأصلية للعلوم العقلية في النوع الإنساني. وهي فكرة لا تخلو من نقد غير مباشر لما هو شائع آنذاك عن تمايز الشعوب أو احتراف البعض وتخصصه بصفات مميزة بحيث جعلوا الفلسفة خاصة باليونان. بينما يزيح ابن خلدون هذه الرؤية، وذلك لأنه نظر إلى مختلف مظاهر الوجود الإنساني العقلي والمادي على أنها أمور طبيعية وجسمانية. ومن ثم تلازم الوجود الإنساني في عملية العمران أو التمدن الثقافي والحضاري. ووضع ابن خلدون في اصناف هذه العلوم العقلية (الفلسفية والحكمة) كل من المنطق والعلوم الطبيعية، والعلوم الإلهية وعلم المقادير. ومهمة علم المنطق تقوم في كونه يعصم ذهن الإنسان عن الخطأ. أما مهمة العلم الطبيعي فتقوم في دراسة كل ما له علاقة بالأجسام والطبيعة. أما العلم الإلهي فيقوم في النظر في قضايا ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقيا). أما علم المقادير فيدخل فيه كل من الهندسة والحساب والموسيقى وعلم الهيئة[34].

فمن الناحية التاريخية، كان الاهتمام بهذه العلوم عند الأمم الحضارية مثل الفرس والروم. أما الكلدان والسريان والقبط فقد كان اهتمامهم موجها صوب السحر والنجامة والطلاسم! بينما حرق العرب المسلمون كتب اهل فارس بأثر سياسة عمر بن الخطاب بعد ان استشاره سعد بن ابي وقاص، قائلا له "إن الله أهدانا بأفضل منها"[35]. وأيا كان مصداقية هذه الحكاية، إلا أن التطور اللاحق وبالأخص زمن الدولة العباسية وبأثر تطور العمران والسلطان، كما يقول ابن خلدون، قد أدى إلى بداية الاهتمام بهذه العلوم، كما نراه على مثال ابو جعفر المنصور ثم المأمون. ذلك يعني، إن تطور العمران يؤدي بالضرورة إلى إعارة الاهتمام بالعلوم العقلية مع مرور الزمن، بغض النظر عن الأرضية الأولية الدينية أو العقائدية ومواقفها الأولية بهذا الصدد. وبالتالي، فقد وقف العمران الإسلامي أو الثقافة الإسلامية أمام مهمة تأسيس العلوم العقلية بمختلف ميادين المعرفة النظرية والعملية. من هنا استعراض ابن خلدون لمختلف العلوم في الثقافة الإسلامية، بحيث لم يهمل أي منها على امتداد القرون العديدة للحضارة الإسلامية التي كان هو نفسه شاهد بلوغ ذروتها ومن ثم معالم انحطاطها وسقوطها[36]. بحيث نراه يتوصل في نهاية مباحثه بهذا الصدد، أي في مجرى تتبعه وتحليله ونقده الخاص لتاريخ العلوم الطبيعية، إلى حصيلة دقيقة تتعلق بالاسئلة الجوهرية للعلوم الطبيعية ألا وهي: هل تكون؟ ومن أيِّ تكون؟ ومن أيِّ كيف تكون؟[37]. وهذه بدورها ليست إلا الأسئلة الجوهرية للعلوم الطبيعية المتعلقة بالماهية والكيفية والسببية.

فنراه يتطرق إلى ما هو معرف ومشهور وما هو جزء من "طلاسم" الثقافة مثل علم السيمياء، أو علم الحروف وأهميتها عند مختلف المدارس وبالأخص عند المتصوفة. والشيئ نفسه يمكن قوله عن علم الكيمياء. فنراه يتأمل تطوره وخصوصيته وإشكالاته العصية بالنسبة لغيرهم، حيث يتتبع تاريخه وشخصياته ومقدماته العلمية كما وضعها ابو بكر بن بشرون في رسالته بهذا الصدد إلى أبي السمح. فقد اعتقد ابن خلدون، بأن "الكيمياء إن صحّ وجودها، كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها مثل جابر بن حيان ومسلمة المجريطي وأمثالهم، فليست من باب الصنائع الطبيعية، ولا تتم بأمر صناعي، وليس كلامهم فيها من منحى الطبيعيات، إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق"[38]. وعلى هذا الأساس استنتج وقدّم نصيحته القائلة:"من طلب الكيمياء طلبا صناعيا ضيع ماله وعمله". إذ أن "تدبيرها الصناعي تدبير عقيم"[39]. وليس هذا الحكم في الواقع سوى تعميم "لتجارب" البحث عن "الحجر السحري" على حقيقة العلم، بمعنى تغليب "ترهات" العلم على محتواه الحقيقي. لقد تتبع ابن خلدون ماهية علم الكيمياء لكنه لم يفهم حقيقته وقيمته العلمية والعملية. من هنا موقفه السلبي منها، شأن أغبياء الحنابلة وتنابلة "العقول" السلفية، رغم عقلانيته الكبيرة والعميقة في مجال التاريخ والعمران. وهو تناقض غريب يكرره في موقفه من الفلسفة أيضا، رغم انه اعتبرها العلم الأول العقلي للوجود الإنساني.

فقد اتسم موقفه من الفلسفة بتناقض كبير بين الشكل والمضمون، وبالأخص ما يتعلق منه بماهيتها وكيفيتها وسبب نشوها ووظيفتها العلمية والعملية. بحيث نراه يضع لما كتبه حول الفلسفة عنوانا يؤسس فيه لإبطالها وتبيان "فساد منتحليها". إذ اعتبرها من العلوم العارضة في العمران، الكثيرة في المدن. وهو "تدقيق" متاقض. لكنه محق في ما يخص كثرة "ضررها في الدين"[40]. فالفلسفة هي رؤية عقلية صرف بينما الدين إيمان. والخلاف بينهما جوهري، ولا يمكن التوفيق بينهما إلا حالما لا تكتمل الرؤية الفلسفية بمعايير العقل المنطقي والإيمان بمعايير التزمت التقليدي. واعتبر "من نواقص الفلسفة" والفلاسفة المسلمين بشكل خاص هو إتباعهم "الإغريق حذوا النعل بالنعل إلا في القليل". بمعنى أنه لا أصالة فيهم وعندهم. وهو حكم، كما هو الحال في الجانب الأخرى تجاه الفلسفة، يستعيد ما قاله الغزالي في (تهافت الفلاسفة). مع ان (تهافت الفلاسفة) كتاب جدلي أقرب إلى ما هو مميز لجدل علم الكلام، أي كل ما لا علاقة له بالمنطق والبحث عن الحقيقة كما قال الغزالي نفسه في وقت لاحق من تطوره الشخصي. أما "خطأهم الأساسي" فيقوم في تطبيق تصوراتهم وأحكامهم التي يستخرجونها من المنطق وأقيسته على الطبيعة والوجود. بينما هو أمر لا يستقيم مع الحقيقة، "لأنها أحكام عامة مجردة بينما الوجود الطبيعي متشخصة بموادها"[41]. وهذه ملاحظة دقيقة وعميقة في ما يخص الأبعاد التأملية في الفلسفة آنذاك. بمعنى إن للعلوم الطبييعة استقلالها الخاص. وإن الاكتشافات العلمية ينبغي أن تكون من خلال العلم التجريبي الخاص وليس بحدس التأملات العقلية المجردة والعامة. لكنه يضع هذه الفكرة السليمة والدقيقة في أساس الاستنتاج الخاطئ عن انه "ليس للطبيعيات علاقة بنا"، بمعنى لا علاقة لها بالدين والمعاش، وبالتالي لا وجوب بمعرفتها! وهو استنتاج خاطئ ومصيب في الوقت نفسه. خاطئ في ما يتعلق بأثره بالنسبة لمعاش. بل العكس هو الصحيح. أما كونه لا علاقة له بالدين فهو حق. ويكرر نفس الخطأ في موقفه مما اسماه بجهود الفلاسفة المعرفية. إذ توصل إلى استنتاج مفاده، انه إذا كانت جهود الفلاسفة في نهاية المطاف، بعد الجهد والجد والتعب، بلوغ الظن وليس اليقين، إذن يكفينا ما عندنا من الظن قبل ذلك! وسوء الفهم هذا مبني على عدم أو ضعف رؤيته للفرق بين ظنون التفكير اللاهوتي وذهنية العوام عن ظنون المعرفة الفلسفية وعقولها النظرية. فالظن الفلسفي هو نفي الإيمان التقليدي والجمود العقلي كما انه باب الانفتاح غير المتناهي أمام المعرفة والبحث عن الحقيقة وتأسيسها وتطويرها وتهذيبها وتدقيقها وتحقيقها المستمر.

إن هذه التناقضات في آراء ومواقف وأحكام ابن خلدون في ما يتعلق بالعلوم الطبيعية كالكيمياء وغيرها، والنظرية كالفلسفة هي الصيغة المحيرة التي يقف أمامها الفكر النقدي المعاصر ألا وهي كيف يمكن ذلك بالنسبة لمفكر أسس لفكرة العمران أو التطور الثقافي والحضاري باعتباره نتاجا للكينونة الإنسانية وملازم لمساره التاريخي. لكننا نستطيع فهم هذا التناقضات على أساس إدراكه للخطورة الكامنة في التفكير الفلسفي بوصفه أسلوبا مختلفا ومناقضا من حيث الجوهر للتفكير الديني. ووضع هذا الإدراك المبطن في مطالبته المرء عدم الخوض في الفلسفة لمن لا أساس له وعنده من العلوم الشرعية والفقه. لإنه سيصاب بعدواها، وانه "قلّ من يسلم" من أثرها. لكن ثمرتها الوحيدة الجيدة في الوقت نفسه، كما يقول ابن خلدون، هي "شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجاج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين"[42]. كما نعثر في استعراضه لعلومها ومناهجها على إدراك لقوتها وقيمتها العلمية، كما انه من المؤيدين الأشداء للمنطق (الفلسفي). بل نراه، كما جرى الحديث أعلاه، يطابق بين ما اسماه بالصنف الطبيعي في الملكات، أي كل ما هو جوهري ومبدع في العلوم، مع الفلسفة والعلوم الفلسفية.

وشكلت رؤيته أو فلسفته عن التعليم ذروة تصورته بصدد أهمية العلوم وتربيتها، باعتبارها إحدى الصفات الجوهرية للحضارة. وانطلق في موقفه هنا من مقدمة فكرية عامة تقول، بأن الإنسان قادر على بلوغ المعرفة بالطبيعة، لكنه يحتاج إلى تعلميه للمنطق، مع إن هناك الكثير من الأئمة الكبار لم يدرسوا المنطق في حال سلامة السليقة والإخلاص للحقيقة. كما عارض فكرة وأسلوب الشدة على المتعلم. فالشدة على الأطفال تفسد عقولهم وأخلاقهم. بل نراه يعتبر ما اسماه بانحراف أخلاق اليهود وكونهم أقرب إلى التخابث والكيد بفعل تعرضهم للشدة والاضطهاد[43].  كما طالب تشجيع الترحال من اجل طلب الحقيقة. أما مضمون وحقيقة التعليم بحد ذاته، فإنه اعتقد بضرورة الاكتفاء بما هو أساسي وجوهري في قواعد العلوم أو الكتب المدرسية. ولا معنى للاستفاضة فيها. ففي علم العربية يمكن الاكتفاء بكتب سيبويه ولا معنى لإضافة كافة كتبهم ومدارسهم وتواريخهم، كما إن الاختصار الشديد مخلّ بالتحصيل العلمي. إن أفضل طريق للتعليم هو التدرج في المعارف والفنون والعلوم، وتبيثت المعارف الأساسية على الأمثلة الحسية في البداية قبل الانتقال إلى مستوى أعلى (عقلي).

 

ا. د. ميثم الجنابي

..............................

[1] ابن خلدون: المقدمة، ص311.

[2][2] ابن خلدون: المقدمة، ص310.

[3] ابن خلدون: المقدمة، ص310.

[4] ابن خلدون: المقدمة، ص310.

[5] ابن خلدون: المقدمة، ص309.

[6] ابن خلدون: المقدمة، ص303.

[7] ابن خلدون: المقدمة، ص303.

[8] ابن خلدون: المقدمة، ص208.

[9] ابن خلدون: المقدمة، ص305.

[10] ابن خلدون: المقدمة، ص306.

[11] ابن خلدون: المقدمة، ص307.

[12] ابن خلدون: المقدمة، ص317.

[13] ابن خلدون: المقدمة، ص 316.

[14] ابن خلدون: المقدمة، ص317.

[15] ابن خلدون: المقدمة، ص318.

[16] ابن خلدون: المقدمة، ص322.

[17] ابن خلدون: المقدمة، ص322-340.

[18] ابن خلدون: المقدمة، ص328.

[19] ابن خلدون: المقدمة، ص331-332.

[20] ابن خلدون: المقدمة، ص336.

[21] ابن خلدون: المقدمة، ص337.

[22] ابن خلدون: المقدمة، ص339-340.

[23] ابن خلدون: المقدمة، ص340.

[24] ابن خلدون: المقدمة، ص341.

[25] ابن خلدون: المقدمة، ص354.

[26] ابن خلدون: المقدمة، ص356.

[27] ابن خلدون: المقدمة، ص363.

[28] ابن خلدون: المقدمة، ص364.

[29] ابن خلدون: المقدمة، ص368.

[30] ابن خلدون: المقدمة، ص370.

[31] ابن خلدون: المقدمة، ص375.

[32] ابن خلدون: المقدمة، ص375.

[33] ابن خلدون: المقدمة، ص379

[34] ابن خلدون: المقدمة، ص379.

[35] ابن خلدون: المقدمة، ص380.

[36] ابن خلدون: المقدمة، ص381-399.

[37] ابن خلدون: المقدمة، ص421.

[38] ابن خلدون: المقدمة، ص441.

[39] ابن خلدون: المقدمة، ص441.

[40] ابن خلدون: المقدمة، ص 428.

[41] ابن خلدون: المقدمة، ص430.

[42] ابن خلدون: المقدمة، ص433-434.

[43] ابن خلدون: المقدمة، ص499.

 

في المثقف اليوم