أقلام فكرية

محمد يونس محمد: الفكرة في العقل

لنبدأ من سؤال مهم، ونسأل ما هي مقتضيات العقل في مبدأ التفكير؟، واشدد هنا على كلمة – مبدأ – فهناك اصول تعقبها مستحدثات، واصول التفكير الثوابت التي يستند اليها العقل، وينطلق منها لكسب مناطق جديدة، ولن ننكر هناك دوران زمني للتفكير، وهذا الدوران الزمني فيه سبل لإيقافه عند فكرة ملحة، وفي سبل اخرى يتاح للمعرفة بدء النشاط الاستكشافي، ومن ثم يكون دور المعرفة كنشاط تواصل واكتساب، فهي سيرورة الاكتشاف لا تتمحور في مفهوم حتى اذا تبلور بشكل تام، والجدل الذي يقف عنده التفكير يأتي ما بعد ذلك، والعقل في مدار الفكرة ليس هو ذات العقل في مدار الحرية، والمبدأ العقلي اما في الخيار الإنساني، وهنا نؤمن بهذا العقل وافق المثالية، واما يكون في اما في الخيار الفكري، وهذا مهم ايضا حتى في افقه الجدلي، لكن الفلسفة لا تنحدر الى ركن الايديولوجيا والبعد الشخصي، فالفلسفة في افقها الاساس هي اخلاق عليا وترتفع بأفق الإنسان الوجودي، (واكثر الفلسفات تعبيرا عن الطابع الوجودي هي اكثرها حيوية، فقد اتجه الفلاسفة في اغلب الاحيان الى تجاهل حقيقة وجودهم الخاص باعتباره شيئا مستقلا عن قواهم الذهنية)1، وطبيعي هناك فارق ما بين العقل والوعي والذات الشخصية، فالشخصية هي الذات البشرية او الكائن الاجتماعي، والوعي هو النشاط التفكيري، واما العقل فهو السلطة التي تحكم مناحي التفكير المتعددة .

التفكير هو إحدى نعم العقل البشري التي تخفف فينا عناء ذلك التواصل المباشر البياني ومنع أن يكون الإنسان آلة، أو يكون في متاهة تؤدي بزمنه الميلان إلى العدم، فيفقد العقل البشري طاقته التعريفية والتفكيرية ، وصراحة في إطار الفلسفة الموضوعية ترجح لنا عقل أسميناه الكامن وقبالته عقل آخر أسميناه النشيط، والعقل الكامن هو عقل أرسطي فيما العقل النشيط هو عقل أفلاطوني، والعقل الكامن هو غير منتج بل مستهلك، وتلك سمة تاريخية في نمط ونوع هذا العقل، وقد نقف بشكل محايد أكثر حين ننصف أحد أبعاد هذا العقل الكامن، حين تكون هناك مسببات خارجية تمنع نمو هذا العقل وتطور الوعي فيه، وهذا عادة ما يكون في فضاء بدائي غير فعال وغير محفز أيضا، لكن لا نقر بأن ذلك العقل جمعيا على الرغم من  الظروف البدائية التي تحيط به، وكسل ذلك النوع من التفكير واسع تاريخيا، لكن ينعدم مستوى التحديد إلى أقصى الحدود، ولكن ذلك التفكير الكسول نؤمن بوجود ثمة بيئة حاضنة له، والبيئة المغلقة حسب شتراوس منتجة لعقل بدائي1، وهي على عكس البيئة المدنية التي ينمو ويكون فاعل فيها التفكير، وبتعدد نشاط من جهة يحتمل أفق المنطق الصوري في الإدراك، ومن جهة اخرى يكون جدليا في ابعاد نفسية خصوصا، والافق المدني هو بيئة العقل الفاعل والنشيط والمنتج، وهنا اهمية هذا العقل، وجانب الانتاج من جهة اولية يعني تطوير ابعاد الحياة، ومن جهة ثانية يكون بصفة ابداع وتجريب، ومن جهة ثالثة يكون طابع انساني مهما.

من الطبيعي العقل العلمي يفصل بين التفكير المقيد والتفكير النشيط، فالتفكير المفتوح هو علمي ومعرفي وفلسفي، وينتج قيما فكرية حتى المضادة، وكما يرى ابن سينا تثمر قوة الفكر قادرة على إحداث المرض والشفاء منه، وهذا يحيلنا إلى أن العقل النشيط يتمثل بسمة الجدل، والخطاب والواقع هما صفة تأكيد لسمة الجدل، وهي ليست سلبية إلا في التفكير الدائري المتعصب والعدائي، وفكر التجريب هو نتاج العقل النشيط، فيما انعدام التجريب يؤكد لنا بأن هناك عقلا خاملا قانعا بظروفه العامة والخاصة ولا يهتم لتطويرها، والعقل الخامل ممكن وجوده في أفق حضاري، ولا يمكن تحديد وجوده بالأفق المعزول، فأديسون يرى التفكير في العزلة أفضل من الوجود المشترك، وفي تفسير فضاء التفكير يكون الرأي مقبولا، فالضوضاء تشتت التفكير وتمنع تطوره، والتفكير الإدراكي يتصل بالوجود المشترك على عكس التفكير الحر النشاط، والذي يبحث عن نتيجة.

هناك فكرة يطرحها برنارد شو يرى المحاولة عن التوقف عن التفكير لعدة دقائق تنقلب ويكون الفرد محاصرا بالأفكار من جميع الجهات، وهذا ما ينقض صفة فالتفكير المقيد، لكن لا يمتلك منطق عام ضدها، ومن ثم هناك جانب بنيوي، والذي هو فيه مشتركات بين التفكير الخامل والتفكير النشيط، حيث الذاكرة والتاريخ تهدفان إلى تحقيق ذات النتيجة الحتمية، والعقل البشري لديه مؤشرات بلوغ النتيجة في إطار تقييد التفكير فقط، وأما التفكير المفتوح فالفكرة مقبولة نسبيا، فالتفكير النشيط يكون بلا حدود سيوسولوجيا الخيال، وقد تصاعد من الأنا الأدنى إلى الأعلى في حالة اغتراب التفكير وامتناع تقييده وذلك يسهل التفسيرات الرمزية العصيبة، وكذلك نظرية القراءة أيضا هي تمتلك دعما نوعيا لتطوير التفكير في نشاط التعرف أولا، ومن ثم في التجريب، وهذا قد تحقق في الكتابة الأدبية خصوصا ببعد التأثر والتأثير، فجيمس جويس يعترف بأن ما بلغه من إبداع مثير للجدل، بعد التأثر الخالص بطريقة الكتابة من خلال تجريب رودريكن في القرن التاسع عشر، وذلك استثمار لقول جون لوك حيث يرى بأن  العقل تمده القراءة بالتخصيص بلوازم المعرفة، فيما التفكير فيجعلنا نمتلك الافكار التي نقرأ لها،  وبالرغم من نسق  هذا الرأي فلسفيا لكن الفكرة مهمة وجديرة.

لا يمكن قبل التجربة تحديد مهمة العقل، فالعقل مركز جوهري لا يستند على قاعدة ثابتة، وهناك افكار طرحت ازاء تلك الفكرة، لكن كل منها ينطلق من زاوية، وليس هناك اتفاق على إن مركزية العقل تحسب ايديولوجيا بحد ذاتها، والعقل الحرة من يضع الفكرة في ركن نسبي وغير ثابت تماما، فالأفكار ليست تلك الحقائق الملموسة التي نتفق عليها جميعا، فمن المعقول والمنطقي من يعرف نيتشه لا يمكن ان يقول ذلك الفيلسوف شوبنهاور، لكن اذا قرأ افكار نيتشه دون اشارة مباشرة او وحدة دالة عليها، أن يفكر بأنها افكار شوبنهاور، والفارق كبير ما بين المسميات وبين التفكير فيها، وهناك فطنة وجدارة محتملة من خلال الاستمرارية والتجربة، بأن تحيل خطاب غير معنون الى عنوانه، لكن ذلك ليس بقاعدة تجريب واستمرار، بل هو نشاط فطنة ودراية، يمتلك الدقة في تحديد الخطاب، وفي اطار حركية العقل ومركزية الفكرة، فالعقل في استمرارية الحركة ليس يزعزع مركزية الفكرة، واذا كانت تلك المركزية كخطاب دال ومدلول، فالعقل بكل طاقته الحركية  لا يمكن له من اخراج الفكرة من ذلك السكون، فالمعادلة الاقليدية الثابتة في سيرورة التاريخ تبقى في الثبات خلافا لحركية العقل ووظيفته الاعتبارية في المعنى وليس في الثوابت والمسميات واليقين .

في تفسير او تحديد افق اليقين العقلي، فذلك في المجالات التي دخلت في افق التاريخ، وتحولت الى مسميات، فمن المعقول أن نفرق ما بين هيدغر كشخص وبين طروحاته في الاطار العام، لكن عندما نقرأ احد الكتب نكون في وضع بيني، فنحن نحمل اليقين لشخص هيدغر ولا نملك لما نقرأ اليقين المناسب، لكن علينا هنا ايضا تجنب سوء الفهم، الذي يقود الى متاهة، او تعدد افكار من زاوية وجهة نظر واحدة’ ونظم التفكير المتعددة تختلف عن الثوابت الفكرية المحددة، وكما اختلاف الرياضيات عن الأدب او الفنون، والفلسفة هي بحد ذاتها ذلك الفضاء الواسع المترامي، والذي يمكن تحديده الا من خلال ما حدد نفسه، ومن الطبيعي هناك نسب احتمال، ففكرة أن درب التبانة تضم الملايين من النجوم، وهذا اطار الفكرة، والنجوم التي تتجاذب فيما بينها يكون ذلك عبر الاف السنوات الضوئية، ولكن علم الفلك يرى هناك تماسك وانشداد من الجزيئيات، (سيخبرك عالم الفلك ايضا أن الكون، على عكس هدوء سماء الليل ومظهرها شبه الثابت، يموج بنشاط عنيف، فأي نجم عادي يحول ملايين الأطنان من الكتلة الى طاقة في كل ثانية)2، ويكون كل غرام مطلق يعادل الطاقة المنبعثة من قنبلة نووية، وهنا دخلنا في فكرة معقدة ما بين ما نشاهد من الاحتمالات  وما يكون من حقيقة عضوية خارج حدود المستوى البصري ومدار الزمن العضوي .

مثلما هناك احتمالات للفكرة متعددة الوجوه، فالعقل ايضا هناك احتمالات له لكنها تأتي متسلسلة، وليس كما في طبيعة الفكرة واحتمالاتها، فالعقل اولا ينطلق مركز التفكير، والذي هو في اتجاهات فكرية وادبية ومن الجهة الاخرى علمية ومنهجية، والمركز ثابت في ذاته ومتحرك في الافكار، والتفسير العضوي لا يرتبط بالعقل موضوعيا بل في اطار المنطق الصوري، وزاوية وجهة النظر تخلف تلك القاعدة، فهي في الاصول البيانية، الوعاء يختلف عما فيه، فزاوية وجهة النظر هي بحد ذاتها وعاء فارغ، لكن الاستخدام العقلي يجعلها تبدو بصيغة اخرى، وفارق كبير ما بين وعاء فارغ واخر هو مملوء، ولسنا هنا ازاء المقارنة ونضع الفارغ على جهة والمملوء في الجهة الاخ، بل نهدف الى تحقيق ثنائية متناقضة كما ذهب ذلك ديكارت وبرهن على تشكل ثنائي ما بين المظهر والجوهر، وهنا وظيفة العقل تختلف، فلابد من سبل اقناع للبرهان عند ديكارت، ونحن ايضا في تلك نحتاج الى بصيرة عليا في خلق فكرة مقبولة ازاء ثنائية الفارغ والمملوء، فالمملوء نتفق جميعا على أنه كينونة، وهيدغر يرى الفراغ ذلك ليس بعدم، والمنطق العلمي يحيل الى طرد الهواء من ذلك الاناء الفارغ، في حالة وضع اي شيء فيه، والفراغ لا يعني هنا حالة لا نهاية، بل فراغ نسبي يمكن تغييره بيسر، ومن هنا نستبعد الدلالة الفيزيائية، ونضع للدلالة العقلية اهمية اوسع .

***

 محمد يونس محمد

.................

1- العزلة والمجتمع – نيقولاي برديائف – ترجمة فؤاد كامل – دار الشؤون الثقافية – ص 59.

1- بداية اللانهاية – ديفيد دويتش- ترجمة دينا احمد مصطفى – مؤسسة هنداوي - ص12

في المثقف اليوم