أقلام فكرية

العصبية ونشوء الدولة والسلطان في فلسفة ابن خلدون

ميثم الجنابيقراءة فلسفية جديدة لفلسفة ابن خلدون (9)

إن مفهوم العصبية عند ابن خلدون هو المفتاح المنهجي لفهم أسباب وآلية ومقدمات ظهور الدولة والتطور الحضاري، أي مفتاح فهم التاريخ الفعلي. فمن حيث أصله اللغوي وثيق الارتباط بالعصب والأعصاب. ومنه العصبة والعصابة. إننا نعثر فيه على الجذر الطبيعي الفاعل في الحركة والإرادة. كما انه مصدر الألم والفرح، ومفتاح الحياة العملية والذهنية. وبدونه يجف وييبس كل ما في الإنسان، جسده وروحه وعقله. الأمر الذي يشير إلى الدفة العميقة بل المذهلة التي بحث فيها ومن خلالها ابن خلدون عن الصعب الذي تتحرك له كافة جوارح الإنسان والجماعة (القبيلة والإثنية الأولى) وعقلة وروحه من أجل بلوغ المرام. وبالتالي يمكننا رؤية العلاقة الخفية والمرنة لوحدة الوجود الطبيعي والماوراطبيعي في مفهوم العصبية وقيمته المنهجية العميقة بهذا الصدد.

فالعصبية هي التعبير النفسي والعملي عن الوجود الطبيعي (البيولوجي) للإنسان والجماعة، وحالما تبلغ مرامها في السلطة والدولة، فإنها تضمحل وتتلاشى في بنية وأنساق الإبداع الثقافي والحضارة، أي أنها تتحول إلى ميدان الماوراطبيعي. وبهذا المعنى، فإن العصبية هي القاعدة المادية والاجتماعية الأساسية لقوة الروح الجماعي والأخلاقي والمعنوي للأتباع. من هنا توكيد ابن خلدون على أن الذين يفقدون عصبيتهم عادة ما يكونوا سريع الانقياد والخضوع[1]. بمعنى إنها طبيعية ومكتسبة. إنها ليست شيئا ما أو حالة معطاة منذ البداية. وبالتالي فهي صيرورة. كما يمكن صنعها من جديد. وقدم ابن خلدون مثالا تأويليا بهذا الصدد استند فيه إلى القصة القرآنية للتيه اليهودي بقيادة موسى. إذ نشأ فيه جيل لا يعرف القهر والمذلة، فنشأت لهم بذلك عصبية أخرى[2]. بينما تتحول العصبية في مجرى صيرورة الدولة إلى مؤسسة قائمة بذاتها يربطها ابن خلدون بالجيش والعسكر. من هنا قوله، بأن "الشوكة والعصبية هي الجند"[3]. وبالتالي، فإن العصبية صيرورة وكينونة وليست كيانا معطى منذ البدء ومرة واحدة وإلى الأبد.

ويربط ابن خلدون أصل العصبية وظهورها بأسلوب العيش البدوي. انها تظهر بوصفها المناعة الداخلية ضد العدوان الخارجي. وبالتالي تستلزم الخضوع الطوعي أو ما يعادل الطاعة القبلية. كما أنها بالضد من الفردية وذلك بسبب كونها مبنية على النسب الواحد[4]. وكتب في معرض حديثه حول ارتباط العصبية بالنسب والأرحام بأن "العصبية إنما تكون من الالتحام بالنسب أو ما في معناه".

إن النسب بالنسبة لابن خلدون، لا يعني مجرد الاسم الخارجي. إذ "النسب أمر وهمي لا حقيقة له، إنما نفعه هو في الوصلة والالتحام"[5]. وبالتالي، فإن العصبية التي هي ثمرة الانساب كما يقول ابن خلدون، إنما وجودها مرتبط بالوجود القبلي، الذي يحدده مستوى التطور الاجتماعي الاقتصادي. وهو الطور الأدنى في التطور. فالقبيلة، وبالأخص في بدويتها تحافظ على "الصريح من النسب". غير أن هذا الصريح من النسب وهمي في مرحلة تهشم الأسس القبلية، إي في مرحلة بلوغ المدنية حالة الحضارة. فالحضارة التي تظهر بأثر التطور القبلي تؤدي بالضرورة إلى اندثار القبلية والعصبية[6].

ذلك يعني، إن القاعدة المادية للعصبية مرتبطة بنمط بالبداوة بوصفها حالة اجتماعية وثقافية تاريخية محددة.. وهو ما اكد عليه ابن خلدون عندما تكلم عن استحالة تصور العصبية دون أنساب، وأن كثرة الانساب بالنسبة لها ضرورية[7]. غير أن فائدة النسب تكون أوضح حالما تكون العصبية مرهوبة ومخشية[8]. أما امتدادها التاريخي فيعثر عليه ابن خلدون في ما اسماه بالحسب والشرف، بوصفهما مكونات أصيلة في أهل العصبية. وذلك لأن وجود ثمرة النسب وتفاوت البيوت في هذا الشرف مرتبط بتفاوت العصبية لأنه سرّها[9]. وبالتالي، فإن سرّ العصبية هو ثمرة النسب وتعدد الآباء[10]. وبالتالي، فإن نسبة الولاء التي يكمن فيها سرّ العصبية هي القائمة على البيت والشرف[11]. ذلك يعني، إن الشرف بالأصالة والحقيقة إنما هو لأهل العصبية[12]. ولا يفصل ابن خلدون العصبية عن النسب، لكنه يتتبع عملية فصلها التي تجري موضوعيا بمرور الزمن. ففي معرض حديثه عن زوال العصبية مجرى أربعة آباء، فإنه يتكلم عن الرابع، الذي يتوهم بأن النسب هو الذي يرفعه فيربأ بنفسه عن أهل العصبية[13]. والخلاصة هنا تقوم في إننا نقف أمام دورة تاريخية ومعنوية في صيرورة العصبية تبلغ أوجها في البنية الاجتماعية النفسية التي تجعلها قادرة على خلفية البداوة، بوصفها نمطا حياتيا في الإنتاج والعيش والقيم، إلى الخروج منه إلى ميدان الحرب وعبره إلى السياسية والاستحواذ على الملك ومن ثم بناء الدولة.

إن ارتباط العصبية بالبداوة بالنسبة لابن خلدون هو ارتباط عضوي. فعندما يقارن بين أحياء العرب، فإنه يرى في القبائل التي لم تصل إلى الملك (السلطة) كيف امسكت حال البداوة عليهم قوة عصبيهم[14]. من هنا مقارنته بين عصبية الملك والعصبية البدائية قائلا، بأن الجمهور داخل المدينة مقهور بسلطان الحاكم، بينما تقيه الأسوار الخارجية من العدوان الاجنبي. في حين يكون دفاع البدو عن مشايخهم بما وقر في نفوس الكافة لهم من الوقار والإجلال[15].

تستمد العصبية، حسب اراء ابن خلدون، طاقتها الذاتية من النعرة. وهذه بدورها ليست معزولة عن النسب. حيث يؤكد أيضا على أن النسب والنعرة ليست امورا معطاة مرة واحدة وإلى الأبد، وأنهما عرضة للتغير والتبدل. انهما متحركان ومتغيران. إذ ليس النسب أو صلة الرحم سوى الجانب الذاتي في صيرورة العصبية. فالعصبية من وجهة نظر ابن خلدون مرتبطة في أولى مراحل تطورها بالنسب والنعرة. وان الرياسة الملازمة لها تستلزم في البداية نسبا صريحا يستمد اصالته من القبيلة. ذلك يعني وجود علاقة جوهرية بين الرياسة والقبيلة والعصبية، أي السلطة والبنية الاجتماعية والعصبية. لكنه يعتبر هذا الترابط جزء من صيرورة السلطة والدولة والحضارة. ومن ثم هي عملية مستمرة. وبالتالي قابلة للتغير في مختلف جوانبها، بما في ذلك من حيث أصولها وقاعدتها المادية الاجتماعية والمعنوية. لهذا نراه يورد بعض الأمثلة التي تؤكد على أهمية الانتماء القبلي الأصيل ودور القبيلة في إعلاء شأن الرياسة والخضوع لها بمعايير الفكرة المعنوية للنسب من جهة، لكنه من جهة أخرى يشير إلى ظاهرة الانتقال الفردي الجماعي من قبيلة إلى أخرى. وفيها تنعكس حالة التفتت النسبي للقبيلة والفكرة القبلية. وعوضا عنها تبرز وتزداد تأثيرا وفعالية مفاهيم وقيم الكرم، والمروءة، والدخيل، والحماية، إلى جانبها أو عوضا عن مفاهيم وقيم القرابة والدم.

مما سبق يمكن رؤية مساعي ابن خلدون لتحديد نماذج المنحى "الطبيعي" أو "البيولوجي" في الكشف عن سرّ العصبية. لكنه يربطها اساسا بمستوى محدد من العلاقات الاجتماعية والتنظيم الاجتماعي. لكن التعقيد الأكبر والمتعلق بفهم المضمون الفعلي للعصبية عند ابن خلدون يقوم في كونه لا يكشف عن كيفية التأثير المتبادل بين العصبية والرياسة، وأسباب نشوء الأخيرة. إذ لا نعثر في ما كتبه عن منهج واضح بهذا الصدد، لكننا نعثر عنده على اشارات متفرقة مثل أن "الرياسة قد تأتي بأثر الشجاعة، أو الكرم (الثروة) أو السيف، أو العلم والدين[16]. وهي محددات معقولة ومستمدة من تأمل صيرورة الخلافة الكبرى ودولها الصغيرة اللاحقة. غير أن الفكرة العامة المنهجية بهذا الصدد تبقى ثابتة ألا وهي تقرير فكرة تلقائية الرياسة من القبيلة وارتباطها بالعصبية.

غير أن هذه العصبية حالما تستفحل وتنتصر فإنها تصبح القوة القادرة على الإمساك بالملك ومن ثم تتوفر لها إمكانية بناء الدولة. من هنا قوله، بأنه إذا حصل التغلب بفعل عصبية ما معينة، فإن ذلك يستلزم بالضرورة، انطلاقا من طبيعة العصبية نفسها، السير نحو السيطرة والغلبة على عصبيات القبائل والأماكن الأخرى. ذلك يعني، إن العصبية بطبيعتها قوة تسعى للسيطرة. إنها عامل محرّك للنزاع. وهي في الوقت نفسه قوة موِّحدة. وبالتالي، فإن العصبية قوة موِّحدة-مفرِّقة. بمعنى أنها تمتلك طاقتها الذاتية. ومن ثم، فإن غلبة الجانب الموِّحد أو المفرِّق، هو مجرد لحظة في التطور التاريخي للعصبية. فانتصار جانبها الموِّحد يعني ويعادل معنى التهام العصبيات الصغيرة الأخرى أو الأضعف. وهنا يكمن معنى التفرقة ولكن على أسس أخرى جديدة تعادل معنى القهر بوصفه القوة الضرورية والملازمة لظهور واستتباب الملك. وتؤدي هذه العملية بالضرورة إلى ظهور قوة الدولة. الأمر الذي يجعل من العصبية القوة المحركة لصيرورة الدولة.

مما سبق يتضح، بأن العصبية بالنسبة لابن خلدون ليست فقط عرضة للتغير والتبدل، وبل وللزوال أيضا، شأنها بذلك شأن القبيلة، أي شأن كل ما هو موجود. غير انه يشدد في الوقت نفسه على أن هذا الانحلال والزوال لا يجري دون أثر وبقايا ومعنى. فالتاريخ بالنسبة لابن خلدون ليس عشوائيا، كما انه ليس عقليا وعقلانيا بذاته. ولا يحتوي أيضا على عقل ذاتي خاص به (قارن بهيغل). إننا نعثر فيه على "قانون" أو "سنّة" تتحول أو تصبح فيها حالات الانحلال والاندثار عملية وظاهرة طبيعية. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "العالم العنصري بما فيه كائن فاسد. وكذلك ما يعرض من الأحوال وخصوصا الإنسانية. فالعلوم تنشأ ثم تدرس، وكذا الصنائع وأمثالها. والحسب من العوارض التي تعرض للآدميين. فهو كائن فاسد لا محالة"[17].

ووضع هذه المقدمة العميقة عن العصبية في أساس تحديده لأثرها التاريخي في نشوء الدولة وقوتها ثم ضعفها وانحلالها وموتها. كما وضعها في أساس تحديده للمراحل "التاريخية" لاضمحلال العصبية من خلال دمجها فيما أسماه بمراحل الآباء الأربعة، أو فكرة الأجيال الأربعة، التي لا تتطابق بالنسبة لابن خلدون مع معناها الوجودي، بل مع المعنى الذي يتماشى أو يوازي ظاهرة صعود العصبية في مجرى صيرورة الملك والدولة واضمحلالها. وينطبق هذا في الوقت نفسه على الحضارة. فالحضارة بالنسبة له وثيقة الارتباط أو ترتبط بصورة عضوية بالدولة. ووضع هذا التسلسل للمراحل الاربع كما يلي:

المؤسس: ويعرف معاناة البناء؛

الابن: مقّصر كالسامع بالشيء عن المعاين؛

الثالث: تقصير المقلد عن المجتهد؛

الرابع: مقّصر عن الجميع... مهّدم. وسبب ذلك يكمن في انه "يتوهم بأن صلته بالنسب هي الأعمق، وليست العصبية".

إننا نقف هنا أمام صيغة تتوازى فيها حياة الإنسان ونمط الدولة القائم والسائد آنذاك. لكن الجوهري فيه ليس واقعيته بل مضمونه المنطقي والفلسفي التاريخي. وقد شدد ابن خلدون نفسه في استنتاجه وتعميمه للفكرة العامة عن مسار العصبية والملك والدولة بالشكل التالي: "اشتراط الأربعة في الأحساب إنما هو في الغالب. وإلا فقد يدثر البيت من دون الأربعة ويتلاشى ويهدم. وقد يتصل أمرها إلى الخامس والسادس. إلا انه في انحطاط وذهاب"[18]. ذلك يعني، إن الشيء الثابت والجوهري في هذا الحكم يقوم في اندثار العصبية والملك. وما عدا ذلك مجرد زمن قابل للتمدد أو التقلص، لكن تاريخ الظاهرة يقوم في كونها عرضة للزوال المحتوم. وبالتالي، فإن الدولة والحضارة هي كيان حي وكينونة تاريخية قابلة للانحلال والاضمحلال شأن كل ما هو موجود وحي.

وعندما يتكلم ابن خلدون عن حتمية زوال العصبية في وقت لاحق لهيمنتها وسيادتها وقوتها في تأسيس الملك، فإن الإشكالية النظرية المترتبة على ذلك تقوم في كيفية حله لها. فالعصبية ضرورية. أنها مقدمة التطور السياسي والاجتماعي، لكنها عرضة للزوال. وزوالها هو نفيها، ومن ثم هو البديل المتكرر، كما هو الحال بالنسبة للدولة والحضارة. فالدولة هي ذروة تجسيد العصبية ومن ثم فهي نفي لها. بمعنى إن العصبية تذوب في الدولة بوصفها رحيق الصيرورة التاريخية السياسية وجذرها الاجتماعي النفسي الأول. لهذا يتوصل في موقفه من الغاية التي تجري إليها العصبية إلى أن "العصبية بها تكون الحماية والمدافعة والمطالبة وكل أمر مجمع عليه"[19]. لكنه يجد في تلقائية تحولها إلى وسيلة نفي لها بفعل تحولها إلى ملك.

إن زوال العصبية واندثارها بهذا المعنى يعادل نفي المكونات الضرورية والتأسيسية لما اسماه ابن خلدون بالمجرى الطبيعي للانتقال من العمران البدوي إلى العمران الحضري. فهي المقدمة المادية والطبيعية والتاريخية لصيرورة المجتمع والسلطة والدولة والحضارة. من هنا أهمية ما يدعوه ابن خلدون بالوازع والحاكم، اللذان يستمدان وجودهما من الطبيعة الإنسانية للآدميين حال اجتماعهم. لكن هذه الصورة أو الصيغة التي يضعها ابن خلدون هي التعبير التاريخي عن الحالة الفعلية لهذه الصيرورة والطبيعة. فالطبيعة الإنسانية التي يتكلم عنها ابن خلدون لها خصوصيتها الجوهرية في منظومته الفكرية وتحليله النظري. فهو يؤكد على حتمية السيطرة التي يفرضها صعود احدى القبليات التي تؤدي بدورها إلى الملك[20]. ولا تحدث هذه العملية دفعة واحدة، بل هي نتاج سلسلة من تطور واضح وجلي في مراحله وهي الرياسة(السؤدد) والملك(السلطة). فالعصبية غايتها الملك. لكن ذلك لا يؤدي بالضرورة إلى نشوء الدولة. ووضع ابن خلدون هذا الاستنتاج كما يلي:"الملك غاية العصبية. وإنها إذا بلغت إلى غايتها حصل للقبيلة الملك أما بالاستبداد أو بالمظاهرة"، أي بالمعاونة والمناصرة[21]. ذلك يعني، إن العصبية ضرورية للملك لكنه ليس كل عصبية تؤدي إليه بالضرورة. فهناك جملة من العوائق التي تحول دون ذلك من بين أهمها، حسب ابن خلدون، عائقان هما كل من ترك منازعة الملك والتوجه صوب الحصول على الشرف والانغماس في النعيم، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف العصبية وانقراضها لاحقا. والثاني هو ما يتفرع عن ذلك من الاستعداد للذلة والانقياد للأمر. غير أن العصبية تبقى مع ذلك القوة الداخلية المحركة للتجمعات البشرية (القبائل). بمعنى إنها تساعد على بلورة قوى متمايزة داخل القبيلة، كما تفترض استمرار وتوسع التمايز المؤدي إلى صراع مع القوى(العصبيات) الأخرى. ومن ثم تكمن فيها ما يدعوه ابن خلدون بالقوة الجاذبة تجاه الغلبة والملك.

فالعصبية تنجذب نحو الملك انجذاب نشارة الحديد للمغناطيس. إنها تحيط به لتستكمل ابهتها وكامل "روحها" الجديد. والمقصود بذلك هيكلها السياسي الجديد ونمط حياتها، الذي يشكل نفيا لكل من البداوة والعصبية. فالاستقرار السياسي بأثر نشوء الدولة يؤدي بالضرورة إلى إزالة العصبية. وعوضا عنها تصبح السياسة القوة الحاكمة والتي يصبح فيها "الانقياد والتسليم للملوك الشيئ الراسخ في العقائد". بينما يصبح استمرار الدولة اختزالا ونفيا للعصبية ولكن بقوى خارجية. ويرتبط هذا الاستنتاج في فكر ابن خلدون بتحليله للحالة الفعلية والواقعية للدولة والعصبية و"القوى الخارجية" بالنسبة لصيرورة الدولة العربية(الخلافة). من هنا اشارته إلى دور "الموالي" من العجم والترك والديلم والسلاجقة وغيرهم. لكن الجوهري بالنسبة له يبقى مع ذلك هو أن انتفاء أو اضمحلال العصبية يؤدي بالضرورة إلى ظهور حالة المرتزقة[22].

وعندما حلل ابن خلدون هذا التغير في ميدان السياسة، والعقائد، ونمط الحياة، فإنه توصل إلى استنتاج محدد وهو إن نشوء الدولة واضمحلالها هي عملية طبيعية. وإن هذا الطابع الطبيعي، الذي يقارنه احيانا بظواهر الطبيعة والإنسان، لا يغير من محتواها وأشكال تمظهرها سواء كانت بيئة دولة دينية أو غير دينية. وحتى حالما نعثر على عبارة مثل "جمع القلوب وإلفتها إنما يكون بمعونة من الله في إقامة دولة دينية"[23]، فإنه يؤكد مسبقا على أن الملك إنما يحصل بالتغلب، والتغلب يحصل بالعصبية. فالدولة الدينية أو دور الدين فيها هو مجرد عامل إضافي مساعد. لكنه قد يكون حاسما في حالات أخرى. وحتى في حكمه هذا ينطلق من الواقع للحكم به عليه. فالدين حالما يكون حاسما هو مجرد فكرة وعقيدة متسامية "للعصبية". بمعنى انه عامل أيديولوجي روحي. وإنها القوة الروحية التي تحول "بطش" و"عفوية" هياج العصبية واندفاعها إلى نشاط هادف بفعل ما يدعوه ابن خلدون "بالاستبصار المتأتي على اساس الوجهة إلى الحق"، أو ما وضعه بعبارة "لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم"[24]. وقدم الكثير من المعطيات التي تؤيد هذه الفكرة واستنتاجها انطلاقا واستنادا إلى مختلف الأحداث الكبرى في تاريخ الخلافة، بدأ من صعود الإسلام وانتهاء بدولة الموحدين التي عاصرها.

وعلى هذا الأساس والموقف المنهجي حلل مختلف الحركات والشخصيات وحدود تأثيرها ونجاحها وفشلها. وقد افرد الكثير من الصفحات للكشف عن موقفه ورؤيته هذه على مثال ظهور ونشاط "الحركات المهدية"(الشيعية). فعلى الرغم من أن فكرة المهدي جذابة بالنسبة للغوغاء والسفهاء، كما يقول ابن خلدون، إلا أنها غير كافية لإحراز النصر. وعندما يحلل ابن خلدون جملة من الامثلة الواقعية بهذا الصدد يتوصل إلى ثلاثة استنتاجات. الأول منها هو انه عادة ما يقف وراء الادعاء بالمهدي "أما موسوسين مجانين أو ساعين إلى الرياسة والملك"؛ والثاني، إن دعوة الفاطمي المنتظر تثير مخاوف الطبقات السائدة، مما يؤدي بهم في حالات عديدة على قتل من يدعي بها؛ والثالث، والمتعلق بسبب فشل هذه المحاولات، هو كونها تتميز "بالغفلة عن اعتبار العصبية"[25].

أما إلى أية درجة تلعب العصبية والنسب في قيام الملك، فقد سعى ابن خلدون للكشف عنه والبرهنة عليه في الفصل المتعلق بان "الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم"، والذي خلص فيه إلى حصيلة مكثفة تقول، بأنه حتى الأنبياء لا تفوز ما لم بكونوا في منعة من قومهم. وبالتالي، فإذا "كان هذا في الأنبياء وهم أولى الناس بخرق العوائد، فما ظنك بغيرهم". وكشف ذلك على مثال ابن قسي (ت-546 للهجرة) شيخ الصوفية وصاحب كتاب (خلع النعلين)، الذي ثار بالأندلس داعيا إلى الحق وسمي أصحابه بالمرابطين قبيل دعوة المهدي فاستتب له الأمر قليلا، لكنه لم يستطع الصمود طويلا بدون عصائب وقبائل يدافعون عنه أمام موجة الموحدين. فلم يلبث حين استولى الموحدون على المغرب أن أذعن لهم ودخل في دعوتهم وتابعهم من معقله بحصن أركش وأمكنهم من ثغره وكان أول داعية لهم بالأندلس وكانت ثورته تسمى ثورة المرابطين. وضمن هذا السياق اورد ابن خلدون الكثير من الأمثلة الملموسة بهذا الصدد ليتوصل إلى استنتاج مفاده، انه لا يمكن الفوز بالملك وبناء الدولة دون سند اجتماعي ومعنوي كبير. وإلا لأدى ذلك إلى هزيمة بالضرورة وخسارة لا معنى لها بمعايير الفكرة السياسية وحتى الحق. بمعنى انه كان إلى جانب فكرة التغيير بالقوة، ولكن في حال توفرها لكي لا تكون مجرد نزوة أو مغامرة.

إن ازاحة الملك أو الدولة والاستعاضة عنهما بأخرى يفترض وجود قوة اجتماعية وسياسية ومعنوية قادرة على التفوق وإحلال نفسها بالقوة. وما عدا ذلك مجرد مغامرات تنتهي بالفشل الذريع. من هنا موقفه السياسي والفكري المعارض لفكرة المهدي المنتظر والفاطمي "المنتظر" وما شابه ذلك، أي تلك الصيغة الشائعة الانتشار، والتي وجد فيها نماذج لهذا النوع من المغامرة. إذ وجد فيها مجرد صيغة أيديولوجية مفتعلة لا علاقة لها بمجريات الواقع ونشوء الدول. وكشف عن ذلك في الفصل المتعلق بقضية الفاطمي، والذي استعرض فيه تاريخ القضية وآراء مختلف الاتجاهات والتيارات بهذا الصدد. وكشف عن أن الشيعة يتباينون في مواقفهم الجزئية، لكنهم موحدون بصدد من هو المهدي. أما أهل السنّة فيفسرونها بطريقة أخرى. بينما لم يهتم أوائل المتصوفة بهذه القضية لكنها دخلت ضمن تصوراتهم وأحكامهم السياسية والروحية والأخلاقية كما هو الحال عند ابن عربي وابن سبعين وابن قسي. أما الحصيلة الفكرية والتاريخية لموقفه من ظاهرة المهدي والفاطمي فتقوم في ما وضعه من استنتاج دقيق يقول، بأن "أحوال الملوك والدول راسخة قوية لا يزحزحها وهدم بناؤها الا المطالبة القوية التي من وراءها عصبية القبائل والعشائر"[26].

 

ا. د. ميثم الجنابي

..........................

[1] ابن خلدون: المقدمة، ص 112.

[2] ابن خلدون: المقدمة، ص 112.

[3] ابن خلدون: المقدمة، ص233.

[4] ابن خلدون: المقدمة، ص101.

[5] ابن خلدون: المقدمة، ص 102.

[6] ابن خلدون: المقدمة، ص 103.

[7] ابن خلدون: المقدمة، ص 106.

[8] ابن خلدون: المقدمة، ص 106.

[9] ابن خلدون: المقدمة، ص 106.

[10] ابن خلدون: المقدمة، ص 106.

[11] ابن خلدون: المقدمة، ص 108.

[12] ابن خلدون: المقدمة، ص107.

[13] ابن خلدون: المقدمة، ص 109.

[14] ابن خلدون: المقدمة، ص 110.

[15] ابن خلدون: المقدمة، ص 101.

[16] ابن خلدون: المقدمة، ص 105-106.

[17] ابن خلدون: المقدمة، ص 108.

[18] ابن خلدون: المقدمة، ص 109.

[19] ابن خلدون: المقدمة، ص 110.

[20] ابن خلدون: المقدمة، ص 110.

[21] ابن خلدون: المقدمة، ص111.

[22] ابن خلدون: المقدمة، ص122-123.

[23] ابن خلدون: المقدمة، ص 121.

[24] ابن خلدون: المقدمة، ص 125.

[25] ابن خلدون: المقدمة، ص127.

[26] ابن خلدون: المقدمة، ص126.

 

 

في المثقف اليوم