أقلام فكرية

الانتقال من البداوة إلى الحضارة

ميثم الجنابيقراءة فلسفية جديدة لفلسفة ابن خلدون (10)

إن الفكرة الجوهرية الكبرى والعميقة التي أسس لها ابن خلدون بصدد الحضارة هو النظر إليها باعتبارها مرحلة في التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي من جهة، وارتباطها بصيرورة الدولة وتطورها من جهة أخرى. وظهور الدولة بدورها هو انتقال من البداوة إلى الحضر، أي من حالة اجتماعية واقتصادية وثقافية معينة إلى أخرى أكثر رقيا، أي الانتقال من البداوة إلى المدنية. من هنا تحديده لماهية وحقيقة البدو، باعتبارهم أولئك الذين "يعيشون في الجبال والقفار وأطراف الرمال". أما الحضر فهم "أولئك الذين يعيشون بالأمصار والمدن"

[1]. من هنا يتضح بأن البداوة بالنسبة لابن خلدون هي حالة اجتماعية اقتصادية متعلقة بالإنتاج وأسلوبه. فكل ما هو قبل العمران المدني (الحضاري) هو حالة همجية. ذلك يعني انه ليس حكما قيمييا أو أخلاقيا. لهذا نراه يشدد على وجود الكثير من الصفات الأخلاقية عند البدو (الهمج) أكثر رقيا من حالة المدنية مثل قيم المروءة والكرم والسؤدد والفروسية، وأنهم "أقرب إلى الخير من الحضر، وكذلك في فضائل أخرى مثل الشجاعة"[2]. وضمن هذا السياق يمكن إزالة سوء الفهم المترتب على بعض أحكامه التي تدخل فيها كلمة "العرب". فهو يتناولها بالمعنى الاصطلاحي وبالمعنى القومي الثقافي. وكلاهما ضمن سياق منهجه التاريخي الفلسفي بوصفهما مصطلحات اجتماعية تاريخية ثقافية، ومفاهيم منهجية لا علاقة لها بالمعنى القومي أو الإثني.

فبالمعنى الثقافي كان المقصود بكلمة "العرب" عند ابن خلدون يعادل معنى البدو والبداوة. من هنا قوله على سبيل المثال "العرب هم أهل البدو المنتحلون للمعاش الطبيعي"،  و"العرب هم أشد الناس توحشا، وينزلون من أهل الحواضر منزلة التوحش"، وفي معرض حديثه عن التمسك بالأنساب يقول، بأن الصريح من النسب إنما يوجد للمتوحشين في القفر من العرب ومن في معناهم"، وأن "جيل العرب طبيعي لابد منه في العمران"[3]، أي أن جيل البداوة هو المقدمة الأولية التي يظهر على أساسها العمران، بوصفه نفيا لها. وهي اشارات مفهومية دقيقة عن أن كلمة "العرب" هي مصطلح اجتماعي اقتصادي ثقافي ضمن منظومته الفكرية التاريخية. بمعنى انه لا علاقة لهذه الكلمة بالقومية والإثنية، بل بالحالة الحضارية. ومن ثم تعامل مع هذا المصطلح بمعايير الرؤية العلمية وليس القيميية. اما بالمعنى القومي المباشر فنعثر عليه في مواقف معينة مثل حديثه عن الإنسان، كما في قوله بأن العرب فقط من يحافظ على أنسابه، بينما عرب حمير وكهلان (مثل لخم وجذام وغسان وطي وقضاعة) فقد اختلطت أنسابهم. وهي عبارة تختلط فيها الأبعاد المنهجية للمصطلح والتقريرية للواقع. وضمن هذا السياق يمكن فهم ما كتبه عن إن العرب "أبعد الناس عن الصنائع" على خلاف العجم وأهل الصين والترك والروم. بينما نراه يتكلم عما اسماه بصنائع العرب القدماء في اليمن وعمان والبحرين)[4]. اما في حال تفسيرها بمعايير الفكرة القومية فإنها تتنافى مع الواقع، وذلك لأن اغلب إن لم يكن جميع الانجازات الحضارية المكبرى في صور ومراحل الخلافة كانت أما عربية او مطبوعة بالعربية. فقد كان العرب هم مادة الحضارة الإسلامية وحملة لوائها، ولكن ليس بالمعنى القومي بل الثقافي. وضمن هذا السياق لا يستقيم حكمه القائل، بأن أغلب علماء الإسلام من الأعاجم. والعرب فيهم قليل، وذلك بسبب كون الدولة ورئاستها بأبديهم[5]. وهو تفسير سياسي لا واقعية فيه. بمعنى انه حكم ليس دقيقا. والقضية هنا ليست فقط في ضعف معارف ابن خلدون بثقافة المشرق كما هو جلي في الأمثلة التي يوردها عن مختلف العلوم، التي يشكل أهل المغرب والأندلس مادتها الأساسية، بل وفي كون العرب هم من وضع أسس الحضارة الإسلامية. من هنا دورهم الجوهري. وأغلب إن لم يكن جميع علماء الأعاجم أو من أصول أعجمية هم عرب بالثقافة والتربية. وهذا يتطابق مع مفهوم العربية بوصفها كينونة ثقافية وليست اثنية. كما إن الحضارة الاندلسية التي ينتمي إليها ابن خلدون نفسه كانت عربية شبه خالصة. وفي ما لو جرى إهمال أو طرح هذه الأحكام عند ابن خلدون، باعتبارها أمثلة عرضية بالنسبة لفلسفته عن التاريخ والحضارة، فإن ما هو جوهري في فلسفته يقوم في رسم ملامح وآلية ظهور الدولة والحضارة في مجرى الانتقال من البداوة إلى الحضر.

انطلق ابن خلدون من أن الشيء الطبيعي في صيرورة الدولة هي الغلبة بالعصبية. فالدولة تشكل بداية نفي البداوة ووضع أسس الحضارة. من هنا قوله، بأن "طور الدولة من أولها بداوة. ثم إذا حصل الملك تبعه الرفه واتساع الأحوال. والحضارة إنما هي تفنن في الترف وإحكام الصنائع المستعملة في وجوهه ومذاهبه من المطابخ والملابس والمباني والفرش والابنية وسائر عوائد المنزل واحواله"[6]. وبالتالي، فإن "طور الحضارة في الملك يتبع طور البداوة ضرورة لضرورة تبعية الرفه للملك. وأهل الدول أبدا يقلدون في طور الحضارة وأحوالها للدولة السابقة"[7].

إن جوهرية الدولة ودورها التأسيسي بالنسبة للحضارة عند ابن خلدون يكمن في كونها القوة الضرورية لتنظيم حياة البشر وإيقاف النزعة الحيولنية (البهيمية) عند حدودها والاستعاضة عنها بقوة القانون. من هنا اعتباره للمك "منصب طبيعي للإنسان". وذلك لأن البشر لا يستطيعون العيش إلا باجتماعهم وتعاونهم على سبل تحصيل قوتهم وضرورات الحياة. من هنا ظهور أساليب المعاملة أولا والسلطان ثانيا من أجل تنظيم الحياة لما في "الطبيعة الحيوانية من الظلم والجور"[8]. وذلك لأن وجود البشر فوضى وحرب ودمار بدون الحكم. والحاكم يزع بعضهم إلى بعض. فالحكم والحاكم هو الوازع الأكبر. والحاكم بمقتضى "الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم"[9]. وقد حددت ماهية الدولة ووظيفتها الأسس الأولية الضرورية لتنظيم الحياة بمختلف ميادينها ومستوياتها،مع ما يترتب عليه من توسيع الأسس المادية والمعنوية والقانونية للاستقرار والإرتقاء الثقافي والحضاري. ووضع لهذه الفكرة مقدمة نظرية فلسفية عامة تقول، بأن "الدولة والملك للعمران بمثابة الصورة للمادة. وهو الشكل الحافظ  لوجودها. وقد تقرر في علوم الحكمة (الفلسفة) انه لا يمكن إنفكاك أحدهما عن الآخر. فالدولة دون العمران لا تتصور، والعمران دون الدولة والملك متعذر لما في طباع البشر من العدوان الداعي إلى الوازع فتتعين السياسة لذلك أما الشرعية أو الملكية وهو معنى الدولة. وإذا كانا لا ينفكان فاختلال أحدهما يؤثر في اختلال الآخر، كما أن عدمه مؤثر في عدمه. والخلل العظيم إنما يكون من خلل الدولة الكلية مثل دولة الروم والفرس والعرب"[10].

ومن هذه المقدمات النظرية العامة والنقدية وضع فكرته الفلسفية عن العمران والحضارة أو الثقافة والحضارة. ومن هنا أيضا مقدمته النظرية العامة القائلة، بأنه "متى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل" بمعنى إن التنوع والتوسع الثقافي هو أساس الحضارة النوعية المتكاملة بذاتها. وإن هذا التكامل النوعي للحضارة واكتمالها مرتبط بصيرورة وتطور الدولة وتكاملها. تماما كما إن انهيار الحضارة مرتبط بانهيار الدولة. وهو استنتاج استمده من تأمل ودراسة وتحليل تاريخ الدول والحضارات والأمم جميعا. غير أن هذا الترابط أقرب ما يكون إلى ما يمكن دعوته بسريان الزمن وانهيار التاريخ. ووضع هذه الفكرة في عبارة دقيقة تقول، بأن "الحضارة إنما تكون عند انتهاء الدولة". وهي الفكرة التي سيقول بها شبنغلر أيضا في معرض تحليله لعلاقة الثقافة وأرواحها الحية بموت الحضارة. فالحضارة تبقى شامخة وقوية في مظاهرها حتى بعد موت أرواحها كما هو الحال بالنسبة للأشجار الكبيرة. غير أن الفرق الجوهري بينهما بهذا الصدد يقوم في أن الفكرة الجوهرية بالنسبة لابن خلدون لا تقوم في البحث عن خلل الفكرة الثقافية واستنفاذ طاقتها، كما يقول به شبنغلر، بل ربط هذه الحالة بالدولة. وهو فرق جوهري. وهذا بدوره مرتبط في فلسفة ابن خلدون الثقافية والحضارية بالعلاقة الجوهرية بين فكرة التاريخ الثقافي والعمران الحضاري وفكرة الدولة. فالحضارة بالنسبة لابن خلدون ترتبط بالدولة ورسوخها. وكتب بهذا الصدد يقول "إن الحضارة هي أحوال عادية زائدة على الضروري من أحوال العمران زيادة تتفاوت بتفاوت الرفه وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتا غير منحصر"[11]. ولهذه الحالة مقوماتها المادية التي يربطها ابن خلدون بالإنتاج والسوق. ووضع بهذا الصدد إحدى الأفكار العميقة القائلة بارتباط الدولة والحضارة. وكتب يهذا الصدد يقول: "إن السلطان والدولة سوق للعالم. فالبضائع كلها موجودة في السوق وما قرب منه. وإذا بعدت عن السوق افتقدت البضائع جملة. ثم انه إذا اتصلت تلك الدولة وتعاقب ملكوها في ذلك المصر واحدا بعد واحد، استحكمت الحضارة فيهم وزادت رسوخا"[12]. وحاول الكشف عن ذلك، أو انه قدّم أمثلة تؤيد هذه الرؤية على مثال الحضارات القديمة لكل من العراق ومصر واليونان والروم والفرس، وكيفية ومدى ديمومة الحضارة فيها. واعتبر حضارة الإسلام من بين أعظمها بسبب ارتباطها بمن قبلها في العراق والشام ومصر وفارس. وقد كانت الحضارة الإسلامية من حيث الجوهر الموضوع المباشر لتأمل الفكرة التاريخية والحضارية عند ابن خلدون. بمعنى انه كان يتناول إشكاليات الوجود التاريخي المباشر رغم تأملاته العميقة بتاريخ وتجارب الأمم الأخرى. وليس مصادفة ألا يترك ابن خلدون جانبا مهما من جوانب الحياة العلمية والأدبية والروحية والسياسية والثقافية والفنية للحضارة الإسلامية دون أن يتناولها في الشرح والتعليق وإبراز أهم المؤلفين وأثرهم والاعتناء بما كتبوا سواء من جانب المشرقيين والمغاربة (بشكل خاص) كالتفسير والحديث والفقه وغيرها من الجوانب. ونعثر في رؤية ابن خلدون هذه على بعدين ثقافي - تاريخي وسياسي. والأول يقوم في ما يمكن دعوته بتأسيس قيمة وجوهرية التمثل الثقافي واستمراره "العالمي التاريخي" بالنسبة لبقاء الحضارة (الكونية) وانهيار وتلاشي أشكالها الخاصة والجزئية منها كما سيقول به لاحقا ارنولد توينبي. أما الثاني (السياسي) فيقوم في تحديده الدقيق لما يمكن دعوته باستخلاص العبرة التاريخية، التي نجد تعبيرها الدقيق في استنتاجه القائل، بأنه "على نسبة حال الدولة يكون يسار الرعايا، وعلى نسبة يسار الرعايا وكثرتهم يكون مال الدولة. وأصله كله العمران وكثرته"[13]. وهو استنتاج فكري تاريخي سياسي وحضاري عميق يقوم في تأكيده على ربط يسار المجتمع بحال الدولة، أي أن حال الدولة مرتبط بكيفية حلها للمشاكل الاجتماعية. كما أن قوتها وديمومتها مرتبط بمدى قدرتها على توسيع الرفاهية الاجتماعية. فهي العلاقة التي تؤدي إلى توسيع الثروة (المال) ومن ثم إمكانية استعماله بما يتوافق مع الغاية التي صنع لأجله، أي توسيع الحضارة والرفاه الاجتماعي. وهذا كله مرتبط بالعمران، أي العمل الدائم من اجل تعمير الدولة ومكوناتها والمجتمع وقواه، والاقتصاد وسوقه.

ووضع هذه الفكرة المنهجية في أساس نقده للنظريات الفلسفية السابقة المتعلقة بفكرة التاريخ والحضارة، أو بفكرة المسار التاريخي للعمران. فقد وجد في الفكرة التي سعت لإرجاع وتفسير الانجازات الكبرى للماضي إلى ضخامة أجسام صانعيها وما شابه ذلك من تفسيرات، مجرد خرافات لا غير. واعتبر إن النظر إلى ما بقي من آثارهم يكشف عن زيف هذه التصورات، مثل النظر إلى أبواب بيوتهم وارتفاعها وما شابه ذلك لكي نرى أنهم لا يختلفون عنا بهذا الصدد. كما انتقد فكرة الضعف والانحطاط الإنساني مع مرور الزمن، أو فكرة التدهور المحتوم في المسار التاريخي (فكرة هزيود). والتي اطلق عليها ابن خلدون عبارة "أفكار تحكمية هي في أغلبها نتاج التصورات الخاصة لبعض الفلاسفة وليس فيها دليل واقعي ولا برهان". وكتب بهذا الصدد يقول، بأن هذه الأفكار والأحكام هي نتاج "استعظامهم آثار الأمم، ولم يفهموا حال الدول في الاجتماع والتعاون". من هنا انتقاده أيضا للفكرة القائلة، بأن الله خلق الإنسان في أفضل تقويم من حيث القوة والجسم لكنه مع مرور الزمن تذهب قواه، والشيئ نفسه طبقوه على الدول والحضارات. واعتبر هذه الأفكار منافية للمنطق والواقع والمسار الفعلي لنشوء الحضارة وموتها. لقد رفض ابن خلدون فكرة مطابقة الصيرورة التاريخية للحضارة وموتها مع ما هو مميز للإنسان. إذ اعتبر أن لكل منهما حالته الطبيعية وضرورته الخاصة[14]. وينطبق هذا على موقفه من تنوع واختلاف الحضارات. وإن ما يميز بعضها من انجازات كبرى أقرب إلى الخيال، لا ينبغي نفيها من دون تمحيص. وذلك لأن أحكام من هذا القبيل هي نتاج رؤية تطابق تصوراتها مع ما هو مألوف أو مع ما يدركونه من معالم العمران في حالاته الأولية أو الوسطى[15].

إن الحضارة بالنسبة لابن خلدون هي كائن حي أو كينونة تاريخية ثقافية سياسية. فهي كالإنسان كيان حي وطبيعي. ووضع ابن خلدون هذه الفكرة في مقطع دقيق يقول، بأن "العمران كله من بداوة وحضارة وملك وسوقة له عمر محسوس كما أن للشخص الواحد من أشخاص المكونات عمرا محسوسا. وتبين في المعقول والمنقول، أن الأربعين للانسان غاية في تزايد قواه ونموها. وأنه إذا بلغ سن الأربعين وقفت الطبيعة عن أثر النشوء والنمو برهة ثم تأخذ بعد ذلك في الانحطاط. فلتعلم إن الحضارة في العمران أيضا كذلك. لأنه غاية لا مزيد من وراءها. وذلك لأن الترف والنعمة إذا حصلا لأهل العمران دعاهم بطبعه إلى مذاهب الحضارة والتخلق بعوائدها". وإذا أخذنا بنظر الاعتبار إن "الحضارة هي التفنن في الترف وإستجادة أحواله، والكلف بالصنائع"[16]، من هنا يمكن توقع مآلها النهائي. ومن بين أكثر هذه النتائج وأعمها في تاريخ الدول والحضارات هو بداية انحطاط القيم والأخلاق. تماما بالقدر الذي بصبح انحطاط الأخلاق السبب الجوهري في انحطاط الحضارة. بمعنى إن باعث العمران وتقوية الدولة من خلال إرساء أسس الرفاهية الاجتماعية العدالة. وفي الوقت نفسه يعتبرها عملية طبيعية، تماما كما هو الحال بالنسبة للإنسان. فهو ينطلق بتفسيره هذا ليتوصل بأثره إلى أن التأنق المفرط بالحياة المنزلية (الاقتصاد والمصالح المادية) يؤدي إلى إتباع الشهوات والانقياد لها "فتتلون النفس من تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها. أما دينها فلإستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها. وأما دنياها فلكثرت الحاجات والمؤنات التي تطالب بها العوائد ويعجز الكسب عن الوفاء بها"[17]. انه يقصد بهذه الحالة على مستوى الفرد والجماعة والمجتمع والدولة. وهو حكم دقيق في ما يتعلق بموقفه الملموس من حضارات الماضي وما عايشه. لكنه حكم يتمتع براهنيته أيضا. فالإفراط في الحضارة ومستلزماتها يضع البشر أمام مهمة "عجز الكسب عن الوفاء بها". مع ما يترتب عليه من غزو وحروب ودمار قد يؤدي في نهاية المطاف ليس فقط إلى زوال الحضارة، بل وزوال الأرض ومن عليها. وضمن هذا السياق يمكن فهم فكرته عن أن الحضارة تعادل من حيث حتمية سقوطها تحلل الأخلاق وفسادها.

كل ذلك يكشف عن أن ابن خلدون يفسر الانحطاط الأخلاقي والمعنوي الذي يلازم التطور الحضاري مع ما هو ملازم وتلقائي للحضارة نفسها. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "غاية العمران هي الحضارة والترف. وانه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطبيعية للحيوانات. بل نقول إن الأخلاق الحاصلة من الحضارة والترف هي عين الفساد"[18]. لقد ربط ابن خلدون هذه الحالة والخاتمة بالأسس المادية التي تقوم عليها الحضارة. فهي تؤدي بالضرورة إلى تطوير مختلف الملكات الإنسانية وتزيد بها وتفرط في كل شيء. وبالتالي، فإن الحضارة بالنسبة له هي الصيغة الملازمة للإفراط والخروج على الاعتدال. ولا يمكن التحكم به بالعقل، لأنه يصبح جزء من حال طبيعية وثقافة عامة شاملة تمس كل أسس الوجود الاجتماعي والاقتصادي والنفسي والأخلاقي والروحي والسياسي. فالسعي المحموم للرفاهية واللذة المادية يدفع البشر إلى التنافس لبلوغ غاياتهم. من هنا تفننهم بالوسائل من أجل بلوغ الغاية. ويصبح الغش والكذب والخداع والرذيلة أساليب الوصول إلى الغاية. وهذا يشمل كل شيء، الفرد والعائلة والجماعة والمجتمع والسياسة والدولة، والعوام والخواص. بحيث يصبح البشر لاحقا أكثر تفننا في الفسق والجريمة والإدعاء والمجاهرة به حتى يصير "ذلك عادة وخُلقا لأكثرهم، إلا من عصمه الله". ويترتب على ذلك أن "يموج بحر المدينة بالسفلة من أهل الأخلاق الذميمة ويجاريهم فيها كثير من ناشئة الدولة وولدانهم... وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة أدى بالضرورة إلى هلاكها واندثارها"[19]. من هنا حكمه القائل، بأن الحضارة هي نهاية العمران. بمعنى تحديده لماهية وطبيعة المسار التاريخي الملازم للعمران، بوصفه مسارا ثقافيا مبدعا. ووضع استنتاجه هذا بعبارة دقيقة تقول "إن الحضارة هي نهاية العمران، وخروجه إلى الفساد، ونهاية الشر والبعد عن الخير"[20]. وسوف يقول بشي ما شبيه ويقترب من مضمون الفكرة الخلدونية بهذا الصدد كل من روسو وشبنغلر. إذ نعثر في هذه الفكرة على صيغة مكثفة لما سيطرحه كل من جان جاك روسو حول العلاقة بين التطور الثقافي الحضاري وانحطاط الأخلاق، وكذلك على فكرة اوسفالد شبنغلر عن إن الحضارة هي نهاية أو جفاف الثقافة وأرواحها. اما ابن خلدون فقد توصل قبل ذلك بقرون عديدة للقول، بأن "الحضارة غاية العمران ونهاية لعمره، وإنها مؤذنة بفساده"[21]، وأن "الحضارة هي سن الوقوف لعمر العالم في العمران والدولة"[22].

غير إن ابن خلدون يتناول ظاهرة الانحطاط المعنوي والأخلاقي في مجرى تطور الحضارة بمعايير فلسفته الخاصة عن وحدة الدولة والحضارة. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن الحضارة تفقد المرء الجرأة والشجاعة بفعل وجود السلطة والجيش والشرطة،أي بفعل وجود قوة القمع والقهر، التي تأخذ على عاتقها حمايته الخارجية بينما تسلبه في وقع الأمر قواه الداخلية"[23]. بعبارة أخرى، إن سبب الفساد والانحطاط التاريخي للحضارة من وجهة نظر ابن خلدون يكمن أساسا في خلخلة وانحطاط النظام السياسي مع ما يترتب عليه من انحطاط اجتماعي وأخلاقي. بمعنى انه وجد السرّ الأعمق لهذه الظاهرة التاريخية في إشكالية النظام والحرية أو صيغتها الملموسة آنذاك في علاقة السلطة بالاستبداد. وبالتالي، فإن موقفه الشخصي أيضا مبني على أساس رؤية التطور الموضوعي الطبيعي للحضارة. بمعنى انه يقف بين إدراك مسارها الطبيعي بما في ذلك انهيارها وموتها شأن كل كائن طبيعي وحي. وفي الوقت نفسه ينظر إليها، باعتبارها سبيل وطريق الوجود التاريخي الإنساني نفسه في تذليل الخشونة والهمجية والبداوة والسير نحو الصيغ الأكثر رقيا في الحياة. من هنا تعظيمه وتقديره الكبير والعميق للحضارة وإبداعها.

إن هذا التقييم بشقيه مبني أساسا على رؤية فلسفية للتاريخ تقوم في أن الحضارة هي النتاج الطبيعي لتطور الإنسان والجماعة. ويرتبط هذا التطور بتطور أدوات العمل والإنتاج ووفرة الثروة والفائض الاقتصادي، أي كل ما يدخل ضمن مفهوم وفكرة العمران، أي الإرتقاء الثقافي للإنسان والجماعة والأمة.

 

ا. د. ميثم الجنابي

........................

[1] ابن خلدون: المقدمة، دار الفكر، ص32.

[2] ابن خلدون: المقدمة، ص97-100.

[3] ابن خلدون: المقدمة، ص96-97.

[4] ابن خلدون: المقدمة، ص320-321.

[5] ابن خلدون: المقدمة، ص 451-.452

[6] ابن خلدون: المقدمة، ص136.

[7] ابن خلدون: المقدمة، ص 136.

[8] ابن خلدون: المقدمة، ص148.

[9] ابن خلدون: المقدمة، ص148.

[10] ابن خلدون: المقدمة، ص298-299.

[11] ابن خلدون: المقدمة، ص292-293.

[12] ابن خلدون: المقدمة، ص293.

[13] ابن خلدون: المقدمة، ص295.

[14] ابن خلدون: المقدمة، ص140-141.

[15] ابن خلدون: المقدمة، ص143

[16] ابن خلدون: المقدمة، ص295.

[17] ابن خلدون: المقدمة، ص295.

[18] ابن خلدون: المقدمة، ص297.

[19] ابن خلدون: المقدمة، ص296.

[20] ابن خلدون: المقدمة، ص98.

[21] ابن خلدون: المقدمة، ص295

[22] ابن خلدون: المقدمة، ص297.

[23] ابن خلدون: المقدمة، ص99.

 

 

في المثقف اليوم