أقلام فكرية

مصائر التعددية الثقافية

علي رسول الربيعيباريخ: من الأنطولوجيا الثقافية إلى التكييف الديني

لماذا يرتبط الاختلاف الثقافي بالفلسفة السياسية؟ ما هي طبيعة وأشكال وحدود الاعتراف بالخصوصيات الثقافية في الديمقراطية الدستورية؟ تطورت التعددية الثقافية بناءً على الإجابات عن هذه الأسئلة، إلى صيغ "قوية" وأخرى"ضعيفة".[1] يمثل وجود صيغة  قوية من التعددية الثقافية مشكلة لأنه يصور المجتمع بوصفه جماعة ثقافية متجانسة، ويقلل من تأثير ومشاكل الهيمنة داخل الجماعات،[2] فضلاً عن  التقليل من أهمية التكامل التشاركي في المجتمع الديمقراطي. لكن التعددية الثقافية بعيدة عن كونها عقيدة واحدة؛ إنها عائلة ذات آراء وسياسات مختلفة تعطي دورًا مناسبًا للاعتراف العام بالهوية الدينية الثقافية وتوافقها. لذلك المطلوب أن يأخذ تقييم التعددية الثقافية ونقدها في الاعتبار الاختلافات والمناقشات الهامة داخل المعسكر متعدد الثقافات نفسه.

نتعرض هنا بأختصار  الى المساهمة التي قدمتها التعددية الثقافية في مسألة الدين.[3] نبدأ من خلال مناقشة أحد أشكال صوغها وهي مايعرف بالتعددية الثقافية القوية لبيكو باريخ[4]  والمشاكل التي تثيرها نتيجة: افتراضاتها الثقافية-الأنطولوجية التي تبالغ في تجانس الهويات الثقافية والدينية وتؤدي إلى استيعاب  الممارسات الضارة

تأخذ الصيغة القوية من التعددية الثقافية المجتمعات الإثنية القومية والدينية بمثابة اللبنات الأساسية للمجتمع وتوجه المضامين السياسية والقانونية الجوهرية التي تتحدى النموذج الليبرالي وتتجاوزه أو تذهب الى بعده. يعتبر باريخأفضل معبر عن التعددية الثقافية القوية وأسسها الثقافية-الأنطولوجية في كتابه "إعادة التفكير في التعددية الثقافية"؛ يبني فيه باريخ فلسفته السياسية في إطار "الرؤية الكبرى" للطبيعة البشرية والحياة والمجتمع.

يبدأ باريخ ،على أساس هذا النهج الشامل للفلسفة السياسية، من تصور البشر ككائنات ثقافية تعتمد على النصوص الاجتماعية اللغوية والرمزية. يخلق الناس ثقافاتهم المتميزة  ويغذونها ويحددون أنفسهم من خلالها: تتوسط الثقافات الطبيعة البشرية وتعيد تكوينها بطرقها المختلفة".[5] إن التصرفات والنزعات المشكلة ثقافياً قوية للغاية بحيث يمكنها التغلب حتى على الغرائز الطبيعية (مثل الحفاظ على الذات)، وتشكل شخصية الأفراد، وإعطاء المضمون والهوية لشخصيتهم.[6] يفصح البشر ويفكرون في بحثهم عن الازدهار والرفاهية من خلال الثقافة؛ ليس الثقافة وسيلة لهدف وغاية نهائية؛ ولكن لها قيمة جوهرية كطريقة للتعبير عن الرفاهية وازدهار الإنسان. تختلف المثل العليا الثقافية ونماذج ازدهار الفرد / الجماعة لأن لايمكن دمج الرغبات والقدرات والفضائل البشرية دون خسارة: يتعارض بعضها مع بعض؛ ويتنافس البعض الآخر على الموارد نفسها أو يعتمد على بنية اجتماعية محددة.[7]

تعد التعددية الثقافية في المجتمعات التعددية المعاصرة، بالنسبة لباريك، النهج الوحيد القادر على تنظيم التعاون الاجتماعي والسماح للبشر بأن يعيشوا حياتهم دون انتهاك الروابط الحيوية للثقافة. لكن التنوع الداخلي للمجتمعات التعددية يولد صراعات حادة لا يمكن تسويتها من خلال التماس مجموعة من القيم المشتركة. لذلك، من الضروري إنشاء هيكل مشترك للوحدة السياسية يجمع المجتمع مع مكوناته المختلفة حتى"تعتاد على بعضها البعض وتبني المصالح المشتركة والثقة المتبادلة".[8] تكتسب السلطة السياسية الشرعية في أعين المواطنين وتمكن من إجراء حوار عام بشروط عادلة من خلال الدفاع عن سلامة الجماعات الثقافية كمفتاح للرفاهية والازدهار. انها تتشكل بمرورالوقت وبالتفاعل بين الجماعات ثقافة مشتركة على نطاق واسع حيث يقبل الجميع فيها مبادى عامة مثل تجنب الأذى، لكن تبقى تفسيرات ازدهار الإنسان ورفاهيته مختلفة. تنعكس صورة الوحدة هذه في التنوع على المستوى المؤسسي. يمكن للدولة الاعتراف بمراكز السلطة المتعددة التي تمارس الاختصاصات القضائية والتوصل إلى القرارات من خلال المفاوضات والحلول الوسط؛ ولا ينبغي أن يكون نظام القوانين متجانسًا، لأن المجتمعات المختلفة قد لا توافق عليها و"تطالب بشكل شرعي بالحق في تكييفها مع ظروفها واحتياجاتها".[9] تمثل الحقوق الجماعية أداة مهمة ومشروعة لجمع المجتمعات تحت مظلة سلطة الدولة، مع الاعتراف بضرورة حماية ثقافتهم. يدافع باريخ عن نوعين من الحقوق الجماعية: الثانوية والابتدائية. تنبع الحقوق الجماعية الثانوية عندما يقرر الأفراد تجميع حقوقهم معًا والدفاع عنها، ومثال ذلك النقابات. بينما الأولية بمقتضى أنتمائهم الى جماعة وهو حق لهم كونهم ما هم  عليه من صفات وليس ناتج عن انتماء ثانوي.[10] يقع حق الجماعة في طقوسهم المقدسة (مثل ذبح الحيوانات في الطقوس؛ واستخدام طقوس السلع؛ ومراسم الجنازة الخاصة، وما إلى ذلك) ضمن هذه الفئة. في كلتا الحالتين، ليس الحقوق الجماعية بلا حدود، لأنها تجد مبرراتها من مساهمتها في رفاهية الإنسان وازدهاره.

تعد التعددية الثقافية عند باريخ الدين عنصرا أساسيا في الثقافة والرفاهية وازدهار الإنسان. ويلعب الدين دورًا حيويًا في إضفاء الشرعية على السلطة الداخلية للجماعة أيضًا. إن الافتقار الليبرالي للأعتراف بالهويات الثقافية - الدينية يميل إلى توليد التطرف في الدين، الذي تصبح رموزه ومعتقداته حافزًا للإحساس الجماعي بالإهمال. يعترف باريخ بأن الدين غير عقلاني وقمعي وقاسي أحيانًا، لكن هذه الصفات ليست حصرية عليه: الهوية العرقية والأيديولوجية السياسية يمكن أن تأتي بسمات مماثلة أيضًا. بالنسبة له، يجب أن نجد طرقًا للاستفادة من مساهمة الدين في الخطاب العام والتعاون الاجتماعي مع تقليل مخاطره إلى الحد الأدنى. يتقدم باريخ بالتالي إلى أن "العلمانية الشاملة والحساسة دينياً توفر أفضل أساس للمشاركة الإبداعية والمتبادلة المنفعة بين الدين والحياة السياسية".[11] يتضمن هذا الموقف الشامل السياق الثقافي لمعنى القواعد القانونية وبالتالي قبول أهمية الدفاع الثقافي.

لا توجد ممارسة فوق التدقيق الأخلاقي للدولة بناءً على قيم عامة معينة للمجتمع السياسي والقيم العالمية التي تجسدها حقوق الإنسان الأساسية. يمكن أن تكون القيم العامة موضع تساؤل من قبل ثقافات الأقليات، وتحتاج الحقوق العالمية دائما الى التفسير والسياق الثقافي.[12] علاوة على ذلك، فإن الأحكام الأخلاقية ليست المعيار الوحيد في منح التكييف: فالممارسات الدينية والثقافية قد تستحق الحماية بسبب إسهامها في تماسك المجموعة الثقافية. يجادل باريخ، في هذه المقدمات، بأنه على الرغم من أننا قد نعثر على ممارسة أخلاقية أو حتى غير مرغوب فيها، فقد نقرر السماح بها بسبب طبيعتها الملزمة ودورها في دعم المجتمع. تتطلب  أن تكون الأبعاد الثقافية والمعنوية للممارسة متوازنة ، وهذا يعتمد على مدى أهمية الممارسة بالنسبة لطريقة الحياة ذات الصلة أودرجة عدم مقبوليتها الأخلاقية.[13]

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...........................

[1] Kymlicka, W. (1989) Liberalism, Community and Culture. Oxford: Clarendon Press.

Parekh, B. (2000) Rethinking Multiculturalism. Cu1ltural Diversity and Political Theo ry. London Macmillan.

تم تعريف الثقافة على نطاق واسع في معاهدات القانون الدولي (معاهدات حقوق الإنسان ، اتفاقيات اليونسكو) ، لتشمل الدين واللغة والسياسة والملكية الفكرية والزواج والحرب وممارسات تربية الأطفال والرياضة والفولكلور (أو" الثقافة التقليدية ")"

 Renteln , A.D. (2011) "Cultural Defenses in International  Criminal  Tribunals", Southwestern Jo11rnal of International !Aw 18: 267-285.270.

انظر، على سبيل المثال ، المادة 27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية: لا يجوز في الدول التي توجد فيها أقليات عرقية أو دينية أو لغوية، حرمان الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الأقليات في المجتمع من التمتع بثقافتهم الخاصة مع الأعضاء الآخرين من جماعتهم ، ، وفي اعتناق ديانتهم وممارستها، أو لاستعمال لغتهم الخاصة.

[2] ومثال ذلك هيمنة قوى سياسية على مصائرالطائفة الشيعية في العراق لأن حصلت  تلك القوى على دعم ديني- سياسي من أعلى مرجعية فقهية للطائفة

[3] ظهر التركيز على الدين في وقت متأخر نسبيًا في مجال مخصص في البداية لمشاكل أنواع الأقليات وأبعادها الثقافة. جاءت مناقشة تايلور المؤثرة حول التعددية الثقافية في كتابه( سياسة الاعتراف ،1994) من النظر في الادعاءات المقدمة من المجتمع الناطق بالفرنسية والسكان الأصليين في كندا. وبالمثل، عالج كاميلكا في كتابة ( مواطنة التعددية الثقافية، 1995) مشكلة الأقليات اللغوية والعرقية في جميع أنحاء العالم.  كان يعود هذا "التهميش" لموضوع الدين  الى سببين: أولاً، كان الوضع السياسي في أواخر الثمانينيات والتسعينيات أكثر تميزًا بالصراعات القومية ؛ ثانياً ، اعتادت " التعددية الثقافية" على التقليل من أهمية المشكلات التي يطرحها الدين؛ وقد شارك تايلور وكاميلكا  في الاعتقاد بأنه إذا كانت الدولة يمكن أن تكون محايدة دينياً ، فلن تكون محايدة ثقافياً

Taylor, C. (1999a) "A Catholic Modernity?", in Heft, J.L. (ed.) A Catholic Modernity? Charles Taylor's Marianist Award Lecture. Oxford: Oxford University Press: 13-38. Kymlicka, W. (2001a) Politics in the Vernacular: Nationalism, Multicult11ralism, and Citizenship. Oxford: Oxford University Press.

والحجة هي أنه في حين يجب على الدولة  أن تعتمد بعض التدابير الثقافية (مثل اللغات الرسمية أو مجموعة من اللغات ، وبعض السياسات التعليمية ، وما إلى ذلك)، فإنها لا تحتاج إلى الاعتراف بكنيسة رسمية.أرآ أن هذا صحيح ، لكن من العدل القول أن التعددية الثقافية في أواخر الثمانينيات والتسعينيات قللت من أهمية صعوبات ردع ما يعنيه بالضبط "حياد الدولة" بالنسبة للدين في سياقات مختلفة.

[4] باريخ عضو حزب العمال في مجلس اللوردات في المملكة المتحدة، وشغل منصب رئيس لجنة مستقبل بريطانيا متعددة الأعراق، إلى جانب نشاطه كأكاديمي.

[5] Parekh, B. (2000) Rethinking Multiculturalism. Cultural Diversity and Political Theory. London Macmillan. 47

[6] Parekh 2000: Parekh, B. (2000) Rethinking Multiculturalism. Cultural Diversity and Political Theory. 122; 156.

[7] Parekh 2000: Parekh, B. (2000) Rethinking Multiculturalism. Cultural Diversity and Political Theory. 48.

[8] Parekh 2000: Parekh, B. (2000) Rethinking Multiculturalism. Cultural Diversity and Political Theory.  207.

[9] Parekh 2000: Parekh, B. (2000) Rethinking Multiculturalism. Cultural Diversity and Political Theory. 194-195.

[10] Parekh 2000: Parekh, B. (2000) Rethinking Multiculturalism. Cultural Diversity and Political Theory.  213.

[11]Parekh 2000: Parekh, B. (2000) Rethinking Multiculturalism. Cultural Diversity and Political Theory. 335.

[12] Parekh, B. (1996) " Minority Practices and Principles of Toleration", International Migration Review 30(1): 251- 284.

[13] Parekh, B. (2000) Rethinking Multiculturalism. Cultural Diversity and Political Theory.293.

يعتمد دفاع باريخ عن التسامح القوي على حجة ثقافية. ولكن هناك حجج مختلفة لصالح التوفيقية القوية: يدعي المحافظون وبعض الجمهوريين إلى أن هناك وجود رابطة قوية بين دين معين والدولة (يمكن لهذا الادعاء أن يعطي الدين دورًا جوهريًا أو دور فعال للحفاظ على المجتمع). وهناك مواقف مفكرين آخرين لا تؤيد المعتقدات الدينية. فمثلا، لا يركز تايلور كثيرًا على الثقافة ولكن على التقييمات القوية المرتبطة "بتوجهه نحو الصالح". في المقابل ، تجادل نوسباوم بأهمية الدين بوصفه يقدم  إجابات للأسئلة النهائية.

 

 

في المثقف اليوم