أقلام فكرية

المعرفة العلمية عند ستيفن تولمن (1)

محمود محمد عليبعد أن فرغ تولمن من معالجة قضية الابستمولوجيا والخرائط الجغرافية من منظور أداتي، أدرك بعد ذلك أنه من العقلانية أن ينقد العالم نظرياته ويغير دائماً فيها في ضوء رؤية إبداعية قائمة علي خيال العالم وبصيرته النفاذة وتداعيات أفكاره وقدراته الخلاقة وحدسه وأحلامه وإلهامه، وذلك كتابه "الفهم الإنساني" عام 1972، ثم في مقالة نشرها عن "العقلانية والكشف العلمي" عام 1973، وأيضاً في مقالة نشرها في نفس العام بعنوان " العقلانية والأهداف المتغيرة للبحث "، وأخيراً في كتابه " مكانة العقل في الأخلاق " عام 1986.

لكن ما المقصود بالعقلانية هنا؟ وكيف يغير وينقد العالم نظرياته؟

العقلانية كما قلنا موقف فلسفي، إلا أنها أخذت معاني كثيرة، فقد نجدها أبستمولوجياً، العقل في مقابل التجربة، ومنطقياً في قوانين الفكر، وعلمياً، التفكير العلمي ضد السحر والخرافة، وميتافيزيقياً في الأفكار الفطرية اليقينية عند " ديكارت" أو إنسانياً في المعرفة المقابلة للحدس الصوفي والمقابلة للقهر اللاهوتي.

فهل استجاب" تولمن " إلي نداء العقلانية بهذه المعاني السابقة ؛ وخصوصاً التي تعد العقل، هو المصدر الوحيد للمعرفة ؟ هل يعني تولمن بالعقلانية الثورة علي السلطة الدينية في العصور الوسطي ؟ هل يعني بها عقلانية ديكارت التي تمكننا من قراءة الطبيعة من خلال العقل؟ .

والإجابة ستكون بالنفي، فقد أنكر تولمن العقلانية الديكارتية التي تؤكد علي قدرة العقل القبلي علي فهم الحقائق الجوهرية عن العالم واعتبار العلم الطبيعي بمثابة مشروع قبلي في الأساس . ومن هنا تصور " ديكارت " أن العقل ملكة فطرية ونور طبيعي، وأن أحكامه مطلقة وضرورية وكلية ؛ كما حاولت الفلسفة الديكارتية بتأثير من التحول العلمي الجديد الذي تم علي يد "جاليليو" أن تقيم تصوراً عقلياً للكون يري أن هذا الأخير محكوم بواسطة القوانين الطبيعية الميكانيكية، وأنه نظام رياضي متوازن ينبغي تبنيه وراء الظواهر، ولذا كان المسار الذي اتخذته فلسفته مساراً عقلانيناً، لا يعير للعنصر التجريبي إلا قسطاً قليلاً من الاهتمام، ويعتبر الإدراك الحسي عاجزاً عن أن يكون طريقاً مأموناً للعلم، لأنه لا يرينا إلا كيفيات الأشياء وطبائعها، وأنه لأجل إقامة معرفة علمية يقينية لا بد من البحث عن أساسها في يقينيات العقل نفسه ؛ أي في تلك الأفكار التي بلغت حداً من الوضوح والبداهة، نعجز معها عن الشك في قيمتها وصحتها، وهذا يأتي بفحص العقل نفسه والبحث عما يحتويه من بديهيات، وعما يستطيع معرفته بالحدس وليس بالخبرة والاحساس، نستطيع اكتشاف البديهيات والحقائق البسيطة الواضحة . لهذا كان لديكارت أعظم الأثر في تأسيس الأتجاه العقلي في الفلسفة في النصف الأول من القرن السابع عشر حينما أعطي للعقل الدور الأساسي في كل معرفة.

وعلي الرغم من أن العقلانية الديكارتية، هي التي مكنت للعلم الحديث، وهي التي جعلت الإنسان قادراً علي نفض غبار الرقابة علي الفكر، علي الرغم من كل هذا، إلا أن العقلانية بالمفهوم الديكارتي لم تجد قبولاً من تولمن لأنها كما يقول "نموذج لفكرة خاطئة لا يعتد بها".

كما يري تولمن أنه لم تعد هناك فائدة لتلك الحقيقة التي تبدو جلية واضحة كما يعتقد "ديكارت"؛ الذي جعل من الوضوح والتمييز معياراً لصحة الأفكار، وكانت أرفع الحقائق في نظره، هي تلك التي تفرض نفسها علي الذهن، وتصدر عن الحدس علي نحو لا تملك معه إلا قبولها، في حين رأي " تولمن " أن العقلانية تكمن في تغيير المفاهيم العلمية ونموها ومن ثم نمو العلم .

لذلك رفض "تولمن" عقلانية "ديكارت" القائمة علي قواعد الوضوح وتجنب الغموض والأنسجام والأتساق، لكونها تشبه إلي حد كبير الشكل الذي نري فيه أن السلطة العقلية تنشأ فحسب في حدود نسق مثالي للمفاهيم التي تنبع من مشكاة فلسفة " أفلاطون".

كما ينتقد تولمن العقلانية التجريبية عند "جون لوك " John Locke (1632-1754)، وهذه العقلانية تزعم أن كل ما في العقل إنما يتولد من الحس والتجربة، وبالتالي يكون مصدر المعرفة هو التجربة الحسية وحدها . إلا أن العقلانية التجريبية لم تنكر "العقل" وأهميته في العملية المعرفية، وإنما أنكرت وجود أفكار فطرية وقبلية يولد الإنسان وهو مزود بها، فيؤكد " لوك " علي أن العقل يولد صفحة بيضاء والتجربة الحسية هي التي تخط سطورها علي هذه الصفحة البيضاء . ويؤكد علي عدم معرفة العقل بالأفكار الفطرية عن طريق أن الإنسان يمكنه العيش دون أن يدرك حقائق كثيرة رغم امتلاكه العقل القادر علي ذلك الإدراك . ومن هنا فإن الحقائق الواضحة في العلم هي التي يتم ادراكها عن طريق الحواس والخبرة الحسية .

وتولمن هنا يعلن انه سيقف موقفا وسطاً بين التجريبيين والعقليين، شانه شأن الكثير من فلاسفة الأداتية، عندما يعتبر المسلمات بصفة عامة متواضعات أو اتفاقات عرفنا بالتجربة أنها ملائمة، تفيد فى وضع الفروض التى تؤدى إلى التعميم والتنبؤ . فاعتقادنا بوحدة الطبيعة وبساطتها وانتظامها واطرادها يجعلنا نصحح نتائج التجارب التى تمثلها نقط مشتتة، فنحن نصل بينها بخط متصل لنعبر عن القانون العلمي الذى يسمح لنا بالتنبؤ، فإذا لم تكن الطبيعة واحدة وبسيطة ومنتظمة ومطردة، علينا أن نتصرف كما لو كانت كذلك، والذى لا يقوم بهذا التصحيح يصل حتماً إلى قوانين شديدة الغرابة .

وثمة نقطة أخري جديرة بالإشارة، وهي رفض " تولمن " للنسق المثالي للتصورات الرياضية، والذي بناه المنطقي والرياضي "جوتلوب فريجه" Gottlob Frege (1848-1925)، والذي تبناه في كتابه " تدوين الأفكار: لغة صورية تحاكي لغة علم الحساب " الصادر في 1879، والذي يؤكد فيه " فريجه "،علي فكرة رد الرياضيات بما فيها علم الحساب إلي المنطق، وذلك من خلال بناء نظام منطقي شبيه بالأنظمة المعروفة في الرياضيات مستخدماً الرموز والعلامات، ليكون هذا النظام من جديد أساساً للعلوم الرياضية في العمليات البرهانية والاستدلالية ؛ مع ضرورة استحداث أفكار منطقية جديدة من خلال وضع مصطلح رمزي للمنطق يقترب به نحو مزيد من الصورية واليقين .

وقد كان " فريجه " قد استخدم التحليل كمدخل لصياغة نظريته المنطقية وتم له ذلك علي مراحل : تحليل اللغة العادية والتمييز بينها وبين لغة رمزية – نصوغ بها أسس الرياضيات – هي اللغة العلمية الدقيقة التي لا ترتبط بعواطف أو مشاعر، ثم يضع في مرحلة ثانية تعريفات للأفكار الأساسية لنسقه المنطقي في ضوء مجموعة من القواعد التي تحكم عمليات التعريف ذاتها، ثم يقترح مجموعة القوانين الأساسية أو البديهيات . بالإضافة إلي تحليله لكيفية التوصل للقوانين في ضوء العلاقات المنطقية الأساسية . وكان النسق المنطقي كما رآه صورة مثلي ومعيارية للحكم علي بقية الموضوعات المعرفية.

وهنا يري "تولمن" أن فريجه أول من صاغ الاتجاه الشكلاني وتفوق علي أصحاب الاتجاه النفساني في سوء فهم الرياضيات والمنطق، وأن الرموز التي استخدمها "فريجه" ما هي إلا أشكالاً جوفاء لا تشير إلي مضمون، وأن ما ينشأ بينها من علاقات لا يزيد عن كونه عمليات ألية ليست لها دلالة بعينها أو واقعاً محدداً .

كما يؤكد "تولمن" أن هذا الفهم الرمزي لفريجه يجعل منهجه ضئيل القيمة، والسبب في ذلك يرجع إلي أنه لم يكتف بتجاهل عمليات التغيير المفاهيمي، بل وأيضاً تجاهل التطبيق الخارجي للأنساق المفاهيمية أو الاستخدام العملي لها .

ومن جهة أخري، ينتقد "تولمن" النزعة الموضوعية التي حاول فريجه أن يثبتها من خلال نظريته في العدد، والتي يؤكد فيها أن " الأعداد ليست ملموسة ولا مرئية، كما أنها ليست واقعية ؛ بمعني أن تترك أثراً محسوساً، إنها لا تخضع للتغير، لأن مبرهنات علم الحساب بمثابة حقائق أبدية . يمكن القول إذن أن الأعداد تقع خارج نطاق الزمن، وينتج عن ذلك أنها ليست مدركات ذاتية أو أفكاراً، لأن هذه وتلك تتغير باستمرار بما يتسق مع القوانين السيكولوجية . إن قوانين علم الحساب لا تشكل جانباً من علم النفس . إنها لا تجيز أن يكون لكل فرد منا عدد خاص به – وليكن الواحد – يشكل جانباً من وعيه . الحقيقة أنه يوجد عدد وحيد بهذه التسمية، إنه واحد بالنسبة لكل الناس، وموضوعي بالنسبة لهم جميعاً " .

ويري " تولمن " أن " فريجه "، حين دافع عن فكرة الطابع الموضوعي للرياضيات، وجد نفسه مضطراً إلي التحدث بلغة الواقعية الأفلاطونية . وتفسير ذلك لدي فريجه أن الاعتقادات في وجود الماهيات الرياضية المفارفة الثابتة يعني خلافاً لدعوي المذهب الأسمى – أن الحقائق الرياضية ليست تعسفية، وأنه لا تعتمد علي مزاجنا الخاص، كما أنه يعني أنه ليست مجرد لعبة خطية، وأن الحقيقة الرياضية خلافاً لدعوي المذهب الحدسي مستقلة عن معرفتنا بالوقائع العرضية التي أحاطت باكتشافها، وأن القضية الرياضية وليست الرياضة نفسها من نتاج عقولنا . وأن النزعة الأفلاطونية التي تبناها فريجه كانت بدايتها عبارة عن رفض للمذهب الأسمي . وينتهي تولمن من استنتاجه من تفسير فلسفة فريجه الرياضية أن استقلال المعرفة الرياضية وموضوعيتها يرتبط بواقعيتها كمعرفة عقلية خالصة لا تستند إلي المعرفة الحسية .

كما ينتقد " تولمن " فكرة العوالم الثلاثة عند فريجه القائمة علي النزعة الأفلاطونية، والعوالم الثلاثة عند فريجه "، هي:

- عالم الموضوعات الفيزيائية بكافة مظاهرها .

- عالم الحالات النفسية والشعورية والذهنية.

- عالم الأفكار الخالصة وما ليس فيزيائياً أو ذهنياً. وأفكار هذا العالم بما فيها الأعداد لا نخلقها ولا نحدثها، فهي كيانات ثابتة لا زمن لها ولا تؤثر فيها الحادثات.

ويري" تولمن " أن القول بعالم مفارق للأفكار يتعالى علي الواقع المتغير مأخوذة من " أفلاطون " الذي يعد أول من قال بعالم مفارق للأفكار – نظرية المثل – له طابع إلهي تقطنه تصورات وماهيات كاملة وصادقة وثابتة وتتسم وقائع هذا العالم بأنها حقائق مجاوزة للإدراك والفهم الإنساني بوسائله العادية، وأنها مستقلة بذاتها سواء اكتشفنا وجودها أو لم نكتشفه .

ولذلك يرفض " تولمن " النزعة الأفلاطونية التي يتبناها فريجه لأنها تثمر عقلانية تجريدية تتصف بالصورية الخالصة أي الصحة الاستنباطية للحجة، ومن هنا كانت البراهين المنطقية كلية وضرورية ويمكن تحديدها وفق قواعد صورية، وبالتالي لم تبلغ الاعتبارات العملية. لذا بقيت العقلانية لديه جامدة لا تنشد أي تغيير في الطبيعة أو أي تقدم علمي .

ومن جهة أخري يري " تولمن " أن فريجه كان هو المسؤول عن انتشار النزعة الصورية لدي " التجريبية المنطقية "، التي غالت في تضخيم هذه النزعة التي اثمرت التجريد بأسمى معانيه، والتجريد في العلم يعتبره تولمن من أشد الأفكار معاداة للعلم نفسه وأخطرها، باعتبار أن التوصل للحقيقة لا يتم عن طريق التأمل، وإنما عن طريق البناء والخلق والإبداع . إن العقل يكتشف، بل ويصنع الحقيقة عن طريق التعديلات المستمرة والنقد المستمر والجدل الدائم .

ويرفض " تولمن" ما ذهبت إليه التجريبية المنطقية، حين عمدت إلي التحليل المنطقي لكافة المشكلات الفلسفية التقليدية لتدلل علي أنها ليست مشكلات بقدر ما هي إلا نتيجة استخدامات غير سليمة لألفاظ اللغة .

كما أنكر " تولمن " معيار التحقق مؤكداً علي المهمة الأدائية التي تؤديها القضايا في عملية البحث، ومثلها كمثل العدد والآلات لا توصف بكونها صادقة أو كاذبة، بل توصف بأنها صالحة أو غير صالحة . وعلي ذلك فالقضية عند تولمن حجة توصف بأنها مؤدية أو غير مؤدية .

ولم يكتف " تولمن " بذلك، بل نجده يرفض التبريرية والتراث التبريري، حيث يقول :" إذا لاحظت المشاكل الموجودة في كتب المنطق ... مثل الاستقراء، أو العلية، أو الاحتمال، أو إطراد الطبيعة، أو تراكم الحالات المؤيدة، ومناهج " جون ستيوارت مل " John Stuart Mill (1806-1873) في الاحتمال، وكنت ذا ألفة بالعلم الطبيعي ستكتشف عدم واقعية تلك المشاكل " .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم