أقلام فكرية

المعرقة العلمية عند ستيفن تولمن (3)

محمود محمد عليإن النقد الذي وجهه " تولمن " لتوماس كون بسبب تمسكه ببعض التشبيهات والمبالغات التي صورت سيطرة النموذج المقياسي علي العلماء بأنها أشبه بسيطرة العقيدة الدينية dogma علي رجال الدين، وذلك من خلال الدراسة التي كتبها " كون " عن " وظيفة العقيدة في البحث العلمي The Function of Dogma in Scientific Research"، وفيها اكد أن التعليم العلمي أشبه بالتعليم اللاهوتي، وكان من قبل قد أستنتج واتيكنز Watkins دلالة هذا التشبيه عندما قال " إنني أقترح إذن أن " كون " ينظر للمجتمع العلمي في إطار التناظر مع المجتمع الديني، وينظر إلي العلم علي أنه دين العلماء .

وتبدو هذه النتيجة صحيحة لولا أن " كون " يري أن العلماء ينتقدون نماذجهم المقياسية أثناء فترة الأزمة، وغالباً ما تفضي هذه الانتقادات إلي تغيير الأنموذج المقياسي . ولذلك نستطيع – بصورة أو بأخري – القول بأن السلطة التي يمارسها الأنموذج المقياسي علي أذهان العلماء تختلف عن السلطة التي تمارسها العقيدة علي رجال الدين . لكن أين يكمن ذلك الاختلاف وكيف نرسمه علي وجه الدقة ؟

ويبدو أنه من المستحيل أو من العسير جدا علي الأقل أن نجيب عن هذا التساؤل داخل إطار فلسفة " كون " . وقد حاول  "ستيفن تولمن" في مقالة له بعنوان في مقالة له بعنوان " هل التفرقة بين العلم السوي والعلم الثوري تحتمل النقد " وكذلك في كتابه " الفهم الإنساني " بصورة بارعة وعميقة، أن يوضح الغموض الذي يحيط بهذه المسألة . فهو يري أن التناظر الذي يرسمه كون بين النماذج المقياسية والمعتقدات يخلط بين التساؤلات والقضايا الفلسفية، والتساؤلات والقضايا السوسيولوجية .

ومن هنا يتساءل تولمن : " هل يشير استخدام كون لمصطلح الأنموذج المقياسي  إلي النمط العقلاني لصورة معينة من التفسير النظري، والذي يستمد سلطته الفكرية intellectual authority من مزاياه التفسيرية المثبتة ؟ أم أنه يشير بالأحرى إلي عرض مقياسي معين لتلك النظرية، في كتاب كلاسيكي أو دراسة علمية، يستمد سلطته من السلطة الشخصية للإنسان الذي قام بتأليفه ؟،  فلا بد في رأي تولمن كما يري بعض الباحثين، أن نميز بين السلطة الشخصية الملازمة لنظرية وطيدة وبين السلطة الوقورة التي يمارسها معلم فرد علي طلابه . وعنما نقوم بهذا التمييز، ستفقد المقارنة بين النماذج المقياسية وبين المعتقدات سحرها .

وعلي هذا يري تولمن أن توماس كون عندما وصف دور أفكار " نيوتن "  في القرن الثامن عشر، لم يميز بين نوعين من التأثير : النوع الأول هو " مبادئ " نيوتن التي مثلت الوثيقة الوطيدة للميكانيكا الكلاسيكية، والنوع الثاني هو " بصريات " نيوتن التي كان لها تأثير مهيمن علي التفكير الفيزيائي في القرن الثامن عشر .

بيد أننا نستطيع في رأي تولمن، استخدام المبادئ لكي نوضح نقطة فلسفية هي أن إحدي مهام قالب ما من المفاهيم تحديد أنماط النظريات المسموح بها والتساؤلات المشروعة ..الخ، بالنسبة لعالم فيزياء يعمل داخل التقليد النيوتوني للميكانيكا . وطالما أن نظرية نيوتن تحتفظ بسلطة فكرية فإن مبادئها تقوم بدور محكمة الاستئناف في الأمور الخلافية، ولهذا فهي أنموذجية . لكن تلك النقطة فلسفية ولا تؤيد الادعاء القائل بأن العقيدة تلعب أي دور في العلم . وأية هذا أن علماء الفيزياء – بين عامي 1700 وعام 1800 – تصرفوا بصورة غير دجماطيقية واعتبروا نظرية نيوتن مؤقته، ولكن من الجائز أن يتحدوا السلطة الفكرية لمفاهيم  نيوتن.

وفي حالة ما إذ إخذنا بصريات نيوتن، فإنها تبين لنا نقطة سوسيولوجية، وهي أن أتباع نيوتن في القرن الثامن عشر أخذو بنوع من التفكير يتسم بضيق الأفق، وسلموا بأن التساؤلات المشروعة والأنماط المقبولة من التفكير هي فقط التي تعتبر صحيحة من خلال الأمثلة التي يضربها أستاذهم الذي يدرسون علي يديه أو داخل مدرسته . وربما يكون تفكير هؤلاء الأتباع مفيدا مادام يمكن عالما بارزا مثل نيوتن من أن يمارس سلطته الوقورة علي العلماء الأقل منه . لكن تلك النقطة في رأي تولمن – سيوسيولوجية خالصة، وذلك لأن كتاب البصريات لنيوتن لم يكن له تأثير كبير قبل نهاية القرن الثامن عشر، وبحلول عام 1800 لم تمثل السلطة المستمرة لكتاب البصريات سوي هيمنه وقورة لأحد العقول العبقرية علي أذهان من هم أدني منه، وكانت الطريقة التي خضع بها العلماء لهذه السلطة بداية الوقوع في الدجماطيقية .

إن تولمن يعتقد أن فكرة بناء نظريات علمية علي نماذج قياسية لا تحتوي في ذاتها علي شئ دجماطيقي . فلا بد أن ندرك أن كتابي المبادئ والبصريات قاما كأنموذجين مقياسيين بمعنيين مختلفين، وبالتالي لا بد من أن نميز بين السلطة الحقيقية المرتبطة بقالب من المفاهيم وبين سلطة الأستاذ التي يمارسها أراد أو تمارسها مدرسة علمية . وهو يقول في هذا الصدد " إذا فعلنا ذلك فسنري أن أقتراح " كون " إذا أخذناه بمعناه الفلسفي باعتباره تحديدا للدور الفكري للأنموذج المقياسي في التصور العقلاني للنظرية العلمية – الذي يقول بأن العلماء يلتزمون بالضرورة بنماذجهم المقياسية بروح دجماطيقية لم سوي مبالغة بلاغية في أحسن الأحوال .

إن انتقادات تولمن تثبت أن هناك سلطة فكرية يمارسها الأنموذج المقياسي، ولكنها ليست دجماطيقية إذا أخذناها من منظور فلسفي بحت . ونري مع بعض الباحثين، أن " كون " قد يوافق علي هذا الرأي، هذا إذا أقمنا فصلاً تاماً بين الفلسفة والسوسيولوجيا، وليس من الواضح كيف يستطيع تولمن إقامة هذا الفصل إذا أخذنا في الاعتبار أن " كون " ينظر إلي المعرفة العلمية كنتاج للمجتمع العلمي لا للعالم الفرد . ويقتضي وجود هذا المجتمع واستمراره آليات للسيطرة الاجتماعية التي تتسم بالدجماطيقية إلي حد ما .

لكن انتقاد تولمن ما زال رغم ذلك صحيحاً، لأنه يمثل كما يري بعض الباحثين يمثل أحد مظاهر الشذوذ في نظرة كون للعلم النمطي، فهو ينظر إليه علي أنه نشاط غير نقدي علي خلاف بوبر – لكنه يرادف أو يطابق عدم النقد مع الدجماطيقية . ويتمثل خطأ هذا الرأي في أنه يغفل إمكان تباين مفهوم عدم النقد عند الأفراد الذين يؤلفون المجتمع العلمي . ونعتقد أن هذا التباين لا ينبغي تفسيره علي أنه من سمات الشخصية الفردية، بل ينبغي أن يشمل العلم النمطي ذاته علي بعض الخصائص التي تسمح بهذا التباين، طالما أن الاعتقاد في صحة الأنموذج المقياسي هو كل المطلوب من أجل عدم نقده .

وينتهي تولمن من نقده للعقلانيات السابقة عليه إلي إنكار كل ما يتعلق بالنزعة الصورية للعلم، لأن تلك الصورية لا تهدف إلي التغيير والتجديد، لذلك رأينا تولمن يؤكد أنه من الضرورية رفض رؤية هؤلاء الذين يستندون في النمو العلمي إلي البحث في الأنساق العلمية من منظور العلاقات المنطقية – هؤلاء الذين يحصرون الجديد في معاني الحدود المستخدمة داخل النظرية أو القانون . وتولمن هنا يقصد التجريبية المنطقية هؤلاء الذين حاولوا حل مشكلات فلسفة العلم بعيدا عن التغيير المفاهيمي بل وحذفت من الفلسفة كل شئ يتعلق بالمشكلات والتساؤلات المثارة حول معرفة وطبيعة هذا التغيير .

ومن هنا ينطلق تولمن يعلن تولمن أن العقلانية التي يدعوا إليها ترفض أية وصاية منهجية علي العقل نتيجة التغيرات الجذرية التي تجسدت بفعل ثورة العلم المعاصرة، تلك الثورة التي جعلت العقل يعيد النظر في أطره وأسسه ومبادئه، ولم يعد الأمر متعلق بتشييد أداة أنساق ومناهج ثابتة ومطلقة وكلية ، بل أصبح أداة نقد وتقويض لهذه الأسس نفسها التي يسعي فلاسفة القرن السابع عشر، وبالذات ديكارت وجون لوك دائما لتبريرها دائما لتبريرها، فأصبح العقل أكثر مرونة حين تخلي عن أكبر قدر ممكن من مبادئه الثابتة، وبدأ يتنازل عن الأفكار الجامدة والمناهج العلمية الثابتة . لذلك نجده في كتابه " البصيرة والفهم " يقول :" لا توجد هناك وصفة متفق عليها لكل علم ولكل العلماء، تماما بالنسبة لأكثر للكعكات وكل الطباخين . وهناك الكثير في العلم الذي لا يمكن أن يكون متمثلا طبقا لمجموع القواعد والمناهج الثابتة علي الإطلاق . و(كما سنري) حتي الطبيعة العامة للعلم ذاته هي شئ متمثل في حالة من التطور ؛ وفي فقرة أخري يقول تولمن :" يقول تولمن " إن أفكار العلم تعبر عن ماهية أجيال من العلماء، فهي تمر من جيل إلي جيل . يبدو أنها تتعدل وتتغير باستمرار إذا ما عاد الأمر إلي هذا التحول وهذا التعديل ... ولا شك في أنه في كل جيل من هذه الأجيال يمكننا ملاحظة أن تغيرات فكرية بدت في الأفق وتصبح مندمجة في هذا الخضم وهذا ما يمثل في رأي مؤرخ العلم التقدم في العلم، وعلي غرار ذلك يسير الفيلسوف العلم مؤكدا أن النظريات الجديدة بالنسبة له هي التي تستحق البقاء وعلي حساب تلك البادئة ؛ أي أن التقدم في العلم يكمن في تطبيقه رجال العلم لأفكارهم، لكن بصورة نقدية ".

ونلاحظ في هذا النص أن تولمن يري كما رأي " جاستون باشلار "، أن نمو العلم نمو متعرج لا يسير في خط مستقيم بل يحدث النمو من خلال صراع مستمر مع الخطأ . والحقيقة العلمية خطأ تم تصحيحه وليس ثمة قيمة كبيرة لتلك الحقيقة التي تظهر منذ البداية واضحة وساطعة ومتميزة عن كل ما عداها.

ومن هذا المنطلق راح تولمن يؤكد في كتابه " الفهم الإنساني " علي أن " عقلانية المرء لا تكون بالتزامه بأفكار ثابتة وإتباعه لإجراءات نمطية أو مفاهيم   لا تقبل التغيير، وإنما تكون بقدرته علي تغيير تلك الأفكار والإجراءات والمفاهيم

ولذلك يحذر تولمن من أن العالم الذي يفشل في نقد وتغيير مفاهيمه وأنساقه العلمية حيثما تتطلب غايات مشروعه العلمي، فإنه في واقع الأمر ينتهك أو يقف ضد واجبات موقفه العلمي . ومن ثم لا تتسق أنساقه بشئ من العقلانية، فالعقلاني لا يعي أنني اعتقد في أن للعقل البشري قوة كلية القدرة . إن العقلاني ليس أبداً من يحاول معارضوه من اللاعقلانيين أن يصوره شخصاً يسعي جاهداً كي يكون كائناً عقلانيا صرفا، ويود أن يحول غيره إلي كائنات عقلانية صرفه .

وبناء علي ذلك، فإن العقلانية التي يبغيها تولمن هي نفس عقلانية بوبر التي تؤكد بأننا علي الدوام في حاجة إلي أفكار جديدة . وهذا معناه أن العالم كما يراه تولمن من حيث المبدأ مادة للتغيير علي طول الزمن قادر علي أن يخلق فروضاً ومشكلات ومعايير جديدة أو علي الأقل التعديل فيها ؛ هذا من ناحية، ومن ناحية أخري فإن عقلانية تولمن تركز علي صيغة القضايا العامة والقوانين ومحاولة نقدها والتغيير فيها بدلاً من التركيز علي أفكار أخري، بحيث إذا قلت أن العلم متغير كنت بذلك تعبر بالفعل عن سمة أساسية من سمات العلم، وإذا اعتبرت هذا التغيير علامة نقص فإنك تخطئ بذلك خطأ فاحشاً : إذ نفترض عندئذ أن العلم كامل لا بد أن يكون ثابتاً، مع أن ثبات العلم في أي لحظة واعتقاده أنه وصل إلي حد الاكتمال لا يعني إلا نهايته، ومن ثم فإن الثبات في هذا المجال هو الذي ينبغي أن يعد علامة نقص . إن العلم حركة دائبة واستمرار حيويته، إنما هو مظهر من مظاهر حيوية الإنسان الذي أبدعه . ولن يتوقف هذا العلم إلا إذا توقفت حياة مبدعه . والتغيير الذي يأخذ شكل التقدم والتحسن المستمر هو دليل علي القوة لا الضعف، ومن المؤكد أن هذا هو طابع التغيير العلمي، بدليل أن النظرية الجديدة في كثير من الحالات تستوعب القديمة في داخلها وتتجاوزها وتفسر الظواهر علي نطاق أوسع منها ؛ أي أن النمو في العلم يتطلب من المشتغلين به الأخذ بمضامين فكرية جديدة والعمل بها . وبالطبع فإن الخوض في أرض جديدة يتحتم علينا أحيانا ليس فقط الأخذ بمضامين جديدة ولكن أيضاً تغيير التركيب الفكري ذاته – إذا أردنا فهم ما هو جديد.

لذلك فإن العقلانية عند تولمن لا تختلف كما يري بعض الباحثين في جوهرها عن رؤية عقلانية كارل بوبر التي تعول علي أننا باستمرار في حاجة إلي أفكار جديدة، هذا من جهة ومن جهة أخري أن نمو الأفكار تكمن في ضوء انتقادات موجهة إليها، انتقادات يستخدمها العلماء بغية التقدم .

الأمر الذي جعل تولمن يهتم بتاريخ العلم ويجعله أساس التقدم في هذه الأفكار أو تلك ؛ حيث يري أنه ينبغي علي الفيزيائيين أن تكون لديهم ثقافة علمية تدعوهم إلي التفكير في نظرياتهم بطريقة تجعلهم لا يتجاهلون أن هذه النظريات ذات نجاحات تنبؤية في ضوء تاريخ العلم أو داخل إطار محاولات ثقافية تاريخية في المجتمع . والسبب في ذلك أن العلم كائن تاريخي ونشاط اجتماعي . إن تاريخ العلم يبدو في غاية الأهمية بالنسبة لنظريات العلم،  فهو أولاً يركز علي نمو الأفكار العلمية داخل العلم، كما يهتم بالتداخل بين العلم ككل والمجتمع الذي يقتني هذا العلم ويندرج تحت كل ذلك القوة الاقتصادية والاجتماعية وأثرهما الفعال في نمو وتطور العلم . ثانيا، أن تاريخ العلم يساعد علي فهم وتشكيل العلم وطبقا لذلك فإن تولمن يعتقد تاريخ العلم لم يكن فقط محتوي لتغيرات العلم في فترة، بل وفي أهدافه ومناهجه التي تتغير أيضاً. وهنا ينصح تولمن فيقول في كتابه البصيرة والفهم  " أن يكون العالم علي وعي شديد بمسالة تاريخ العلم وأنه من الأشياء الضرورية بالنسبة لعمله أو بالنسبة لما يقوم به من دراسة".

ويرفض تولمن في قراءته لتاريخ العلم كافة الرؤي التي لا تهتم إلا بالعلم من الداخل أو منطق العلم فقط وتهمل العلم من الخارج أو سوسيولوجيا العلم، مؤكداً نفس الأتحاة الذي أكده "هنري بوانكارية" حين رأي أن التكامل بين الاتصالية والانفصالية يؤدي إلي فائدة قصوي للعلم، فالنمو إنما يتم علي شكل تغييرات بطيئة تحولات تدريجية تمهد للطفرة أو القفزة أو الثورة ولا إمكان لهذه بدون تلك . بل إن الأخيرة تصبح مستحيلة بدون الأولي . ولكن تلك التحولات التدريجية ستصبح مجرد تراكمات، وبالتالي عديمة الفائدة، إن لم يتم الارتقاء بها من كيفية إلي كيفية أخري . فالاتصالية من هذه الزاوية هي التحولات التدريجية الممهدة، وأن الانفصالية هي رؤية الطفرة والجديد ... من هذا المنظور نستطيع أن درك ما أضافه كل جيل ونحن مطمئنون إلي أنهم يأتوا بذلك من العدم، وأنهم غير قادرين علي أن يقدموا بعمل سابقهم أو يستغنوا عنه كيفما كانت قدرلتهم ... كما نستطيع أن نري إلي أي حد تمكنوا من ألا يكون مجرد عاله علي أولئك السابقين ومدي الإضافة ونوعها.

وقد انتقد  الدكتور " أ.ك.جارفي  I.C.Jarvie "، وهو باحث أمريكي متخصص في فلسفة العلم،  في مقالة له بعنوان " تولمن وعقلانية العلم Toulmin and The Rationality of Science"، ستيفن تولمن في تحامله الشديد علي النزعة الصورية واتهمه، بأن عقلانيته ضد المنطق بكافة أنواعه، مما جعله يسقط في النسبوية والأناوية، وكل الجوانب التي يسميها باللاعقلانية،  حتي أنه قال عنه تلك المقولة " وأخشي أن تولمن بتنحيته للمنطق جانباً، قد يؤدي إلي تقويض عقلانية العلم وعدم إمكانية تمييز العقلانية بشكل عام، مما قد يجعل للمنجمين والسحرة أن يدعوا إلي عقلانية مساوية للعلم" .

ومن ناحية أخري يصف جارفي إن المجلد الأول من كتاب  الفهم الإنساني ، هو نقد العقل الجمعي وجزء من إعادة التقييم الشاملة لأفكارنا العامة حول العقلانية، التي أصبحت ضرورية بسبب تركيز الفلسفة غير المتوازن علي الشكل المنطقي لا الوظيفة العقلانية أو التكيف الفكري . وليس واضحاً ما إذا كان تولمن يريد قطع علاقة الحب بين الفلسفة وبين الهندسة والفيزياء لكن المؤكد : في العلم والفلسفة علي حد سواء أن الاستغراق الاستثنائي في النسقية المنطقية كان مدمراً لكل من الفهم التاريخي والنقد العقلاني . فالإنسان يستعرض عقلانيته ليس بترتيب مفاهيمه ومعتقداته في بناء صوري منظم، لكن بالاستعداد للاستجابة لمواقف جديدة بعقول منفتحة – الاعتراف بمواطن القصور في المناهج السابقة والتحرك لما وراءها . والمفاهيم الأساسية هنا " التكيف" و " الطلب " وليس " الشكل " أو " الصحة " معلناً هدفه بوضوح أنه أكثر تاريخية وتجريبية وبرجماتية من أفلاطون، فتولمن يضيف خمسمائة صفحة نتعلم من خلالها عن البيئة الفكرية للإنسان . والعلم عند تولمن هو بناء من المفاهيم جماعية النشأة والثبات وهي توسع من نطاق تساؤلنا حول ماهية العالم وكيف يمكن أن نسيطر عليه .

ويري جارفي أن المناقشة تبدأ بطرح المشكلة الناتجة عن تنوع المعرفة البشرية وخطر النسبية الداهم . وتولمن ليس علي استعداد لرؤية العلم كمزاعم معرفية عند دول أوربية قليلة وورثتها، بغض النظر عن نظريات للسحر وتسطح الأرض والتناسخ في الثقافات الأخري . والعلم ليس هو المشروع الفكري العقلانية الوحيد في مجتمعنا فحسب، بل هو أيضاً الأبرز عبر الثقافات . لكن كيف يمكن الدفاع عن هذا الموقف ضد الهجوم التشكيكي ؟ إنه ينظر (يقصد تولمن) لحجج كولنجوود حول الافتراضات المطلقة وحجج توماس كون حول النماذج الإرشادية ويجد أنها ضعيفة أمام النسبية . فأي منهما لا تستطيع أن تقدم تصوراً مقنعاً للتغيرات الأساسية في مشروع العلم العقلاني . ويري تولمن أننا يجب أن تظهر عقلانيتنا في التغيير ومن ثم فنظرية العقلانية في العلم يجب أن تصبح نظرية التغير العلمي.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم