أقلام فكرية

كيف نميز البعد الجمالي للنظريات العلمية؟

محمود محمد علييقال أن الجمال لا يقل أهمية عن البساطة في اختيار النظريات، والسبب هو أن العالم لا يدرس الطبيعة لفائدتها فقط، بل يدرسها لأنها تمده بمتعه، وهذه المتعة منبعها أن الطبيعة جميلة، فإن لم تكن كذلك فإنها لا تستحق أن تعرف وأن يعاش فيها. وبالطبع لو أن الفيزيائيين أخذوا في اعتبارهم جمال النظريات أو الأفكار سيكون من السهولة جعل الكيفية الجمالية مرشداً فعالاً لصياغة نظريات رياضية صحيحة للطبيعة.

بيد أن الجمال في تصور الكثير من العلماء والمفكرين لم يكن مرشدا للصياغات النظرية العلمية ؛ فقد شهد النصف الأول من القرن العشرين بعض الدعوات التي تنكر البعد الجمالي للنظريات العلمية، وأن المعيار الجمالي في الحكم علي النظريات هو معيار غير عقلاني، فنجد مثلا " هيلج كراج ":" يقول إن مبدأ الجمال الرياضي شأنه شأن المبادئ الجمالية يمثل إشكالية.المشكلة الأساسية هي أن الجمال هو موضوع جوهري ومن ثم لا يمكن أن يمثل أداة معرفة علي نحو عام بحيث يرشد أو يقيم العلم. إنه كما يقال علي الأقل من الصعب تبرير الحكم الجمالي بواسطة الأحكام العقلية {....} وعلي أية فإننا نري بألا نهرب للنتيجة القائلة بأن الحكم الجمالي في العلم يكون متأصلا في عوامل ذاتية واجتماعية. إن معني المعايير الجمالية هو جزء من نظام اجتماعي أكتسبه العلماء، إلا أن العلماء مثل الجماعات العلمية يمكن أن تكون لديها أفكار مختلفة بشكل واسع لمعرفة الكيفية التي يتم بها الحكم علي القيمة الجمالية لنظرية معينة. ولا نتعجب بأن الفيزيائيين الذين بلغوا القمة في التخصص لم يتفقوا علي أن تلك النظريات قد تكون جميلة وقد تكون قبيحة.

ولم يكتف هؤلاء بذلك، بل وجدنا بعض الفلاسفة استنكر دور البعد الجمالي في العلم، حيث يعولون علي مبدأ أن الجمال يمثل شعور لدي الإنسان ولا يوجد في الشئ الذي نصفه ، ففي فلسفة ديكارت واسبينوزا المتحدثتان بلسان فيزياء نيوتن، حيث يقول ديكارت " لا يدل الجميل ولا البهيج علي أكثر من موقفنا في الحكم علي الشئ المتكلم عنه "، ويقوا اسبينوزا " الجمال ليس صفة للشئ الذي ندرسه وإنما هو الأثر الذي ينشأ في الإنسان الذي يدرس ذاك الشئ ".

وهكذا أحدث هذان الفيلسوفان تيارا قويا تحول إلي ما يشبه العقيدة بالنسبة لكل الأجيال التالية بأن الجمال شعور لدي الإنسان، ولا يوجد في الشئ الذي نصفه، ثم جاء دارون فأكد هذا المعني في نظريته عن التطور فقال من الواضح أن الإحساس بالجمال يتوقف علي العقل بصرف النظر عن أي صفة حقيقية في الشئ محل الإعجاب. وصار فرويد علي نهجه معلنا اعتذاره عن اضطراره لحصر الجمال في دائرة الغريزة. فيقول " من دواعي الأسف أن التحليل النفسي ليس لديه ما يقوله عن الجمال، سوي أنه مستمد من مجال الشعور الجنسي وتترتب علي ذلك نتيجتان: الأولي أن الجمال يمثل متعة شخصية وليس موضوعا للمناقشة العلمية. والثانية: أن الجمال لا يمثل حقيقة واقعية ولا يربطه بالعلم شئ، فعالم الحشرات لا شأن له بجمال الفراشة والإنسان المتذوق لجمال الفراشة لا يهمه أن يعرف شيئا عن جهازها الهضمي.

ومن جهة أخري فقد قدمت الوضعية المنطقية في منتصف القرن العشرين أطروحة تبين أن العلماء يعملون بنجاح في النظرية العلمية بإدخال " سياقين ". الأول هو " سياق الكشف "، وفي هذا السياق ينشئ العلماء النظرية من خلال وسائل الحدوث والتخمينات. وتلك الأفعال قد لا تكون مرشدة من خلال وصايا المنطق والعقلانية، ولذلك لا يمكن تحليلها بدون إطار عقلاني: إذ لا يوجد هناك منطق للكشف العلمي ولكن توجد سيكولوجيا هذا الكشف.

وفيما بعد أدخل العلماء " سياق التبرير "، وفي هذا السياق يقوم العالم وغيره بوضع اختبارات للنظرية تبين أن حدوثها يتمثل في سياق الكشف. وهذا الاختبار يحدث في معيار منطقي – تجريبي يؤكد عقلانية تعاقب النظريات. والوضعيون المنطقيون قد اعترفوا بأن العوامل الجمالية يمكن أن تؤثر علي سلوك العلماء في سياق الكشف، حيث أنهم يعتقدون بأن العالم يمكن أن يستلهم صياغة الفرض من خلال استيعاب أي نوع. بيد أن الوضعيون المناطقة قد رفضوا الاقتراح القائل بأن العوامل الجمالية تلعب أي جزء في سياق التبرير، وذلك لأنهم أدركوا أنه من المفترض أنه لا توجد طريقة للمعيار الجمالي بحيث يكون بإمكانها استيعاب المعيار المنطقي والتجريبي.

وحول هذا الاتجاه نحو العوامل الجمالية في العلم قد عبر عنه " هيربرت فايجل قائلاً ":... بضعة كلمات على بَعْض سوءِ الفهم الناجم عن القلقِ السائدِ من خلال التاريخ ولا سيما سيكولوجيا المعرفة العلمية . فمما هو جدير بالثناءِ ( وإن كان من المحتمل أن يكون يوتوبي) أن ما يمكن أن يتم الوصول إليه وهو أن نقدم معا أقرب ثقافتين (أَو لتَجسير " الشقّ " في ثقافتِنا ) والمفكرون تميل أكثر أذهانهم إلي التشديد علي معرفة كيف أن العلوم والفنون لها سمات مشتركة. إنّ الجسورَ {....} سالكة فقط فيما يتعلق بالسماتِ النفسيةِ للمعرفة العلمية، الإبداع {....} بالتأكيد هناك ملامح جمالية في العلم {.... } لكن {.... } الشئ الأساسي في تقييمِ إ المعرفةِ العلميةِ هو القول (في أحسن الأحوال) بأنه ثانوي في تقييمِ أعمال الفن - والعكس بالعكس.

وهنا حاول الوضعيون المناطقة وضع معيار تجريبي للمفاضلة بين النظريات العلمية، وهذا المعيار قائم علي فكرة أن الهدف الاسمي للعلم، هو أنه تقديم وصف كامل وملائم للعالم. والنظريات تقترب من الوصول إلي درجة، هذه الدرجة تجعل النظرية تمتلك خاصية " الكفاية التجريبية". والقضية هي أن النظرية لها كفاية تجريبية للوسائل الممكنة ذات درجة الأعلى، وهذا هو مطلبها وهو الصدق في كل الظواهر القابلة للملاحظة، بما فيها الظواهر المتضمنة في الماضي والظواهر التي من الصعب أن نصل إليها من جهة أخري. القضية هي أن النظرية لها كفاية تجريبية للوسائل ذات الدرجة الأقل، وهذا هو مطلبها وهو الصدق في النسبة المعروفة للظواهر القابلة للملاحظة. وأصحاب الواقعية العلمية قد قالوا أن الهدف الأسمي للعلم هو أن تكون النسبة التي نصف بها العالم هي أن تكون صادقة، ومع هذا فإنه يمكن أن تقترب من هذا التحليل ، حيث يرون أن درجة الكفاية التجريبية للنظرية هي أن نتيجة وجودها متوقف علي أن تطابق الدرجة يكون من خلال الاقتراب من الصدق.

وبداية فإنه علي ما يبدو أن المعيار الوحيد لتقييم النظرية هو أن النموذج المنطقي – التجريبي يحتاج في أن يعول علي كفاية المعيار التجريبي ذاته: وأفضل النظرية التي لها درجة أعلي من الكفاية التجريبية عن النظرية التي لها درجة أقل من تلك الكفاية. ومع ذلك فإن معني الكفاية التجريبية هو أنه من المستحيل استخدام هذا المعيار في الاختيارات التطبيقية بين النظريات. والطريقة الوحيدة التي يمكن أن نشيد بها النظرية، هي تلك النظرية التي لها كفاية تجريبية ذات درجة أعلي بحيث يمكن البرهنة عليها من خلال تطابقها مع كل المعطيات التجريبية التي يمكن أن تكون قد تجمعت من خلال كل المصادر في زمن غير محدد، وبالمثل فإنه يمكننا أن نقيم فقط نظرية لها درجة أقل من الكفاية التجريبية من خلال تطابقها مع النسبة المناظرة لتلك المعطيات. وللحصول علي القراءة المباشرة لدرجة الكفاية التجريبية للنظرية، فإنه كثيراً ما يكون مفهوم العدد لديه القدرة علي أن يصف ويميز التنبؤات المؤيدة وغير المؤيدة للنظرية التي تم الوصول إليها بدقة، مثل المهمة التي لا يمكن أن تكتمل في وقت محدد عن طريق تعميمات المجال الأوسع من تحصيلات الحاصل والمتناقضات الأخري. ولذا فإن معيار الكفاية التجريبية ذاته لا يقدم أساس تجريبي للمفاضلة بين النظريات المتنافسة.

والعديد ممن تابعوا الاعتقاد بأن حيثية تقييم النظريات علي أساس أن المعيار التجريبي يتصل بالعلم ولا يظهر من خلال الاعتبارات الجمالية. وهذا الاعتقاد هو غالبا ما يعبر عنه في فكرة أن العلماء يلجأؤن إلي المعيار الجمالي علي أنه فقط معيار مدمر وعندما يفاضل العلم بين النظريات، فإن هذه المفاضلة لا تتم إلا من خلال قيمة وأهمية المعيار التجريبي. وهذا المطلب هو ما تطلع إليه " فريتزر وهليتش" يوجد {....} الجمال الأعظم في النظرية الفيزيائية {....}، حيث أن هذا الجمال قد يؤثر علي مصداقية نظريةِ واحدة على آخرِ في غيابِ المعاييرِ الأكثرِ صرامة. فمثلا نظرية النسبية العامة كانت جميلة جدا بحيث تم تفضيلها عن النظريات المنافسةِ طالما تلك النظرياتِ المنافسةِ لا تَستطيعُ وصف الوقائع التجريبية. وهذه الرسالة تتضمن أن الاعتبارات الجمالية قد تتوقف عن حمل وزنا إذا ما اكتشفت أن نظرية النسبية تبرر وصف الوقائع التجريبية سواء كانت وقائع جيدة أو رديئة ممن تنافسها من النظريات الأخري. وهذه النظرة قد تصل إلي حد إنكار أهمية المعيار الجمالي: فهو يَسْمحُ لهم فقط في النظر في الحالات التي يثبت فيها العلماء المعيار التجريبي والتي سوف لا تكون له نتيجة.

إن النموذج المنطقي التجريبي لتقييم النظرية تكون مهمته هي وصف المبادئ العقلانية لما يقوم به العلماء للمفاضلة بين النظريات. وللانتهاء من هذه المهمة: إن الاختيارات العديدة جدا بين النظريات تتمثل في أن يقوم العلماء بما يمكن تفسيره من خلال افتراض أن النظريات تتمسك بهذا المعيار كما في القوائم الستة السابقة.

ولذلك، فإنه بالنسبة للوضعية المنطقية فإنه لا توجد مثل هذه الظاهرة التي تتعلق بتقييم العلماء لنظرياتهم تقييما جمالياً. وكذلك لا توجد مثل هذه الظاهرة لكونها تمثل مشكلة لفلاسفة العلم.من الممكن أن العلماء قد يتأثروا بالعوامل الجمالية في الكشف. لكن الرسم يمكن أن تصور أن تلك الظاهرة يجب أن تكون مهمة لكتاب السير وعلماء النفس أكثر من فلاسفة العلم. إن الوضعية المنطقية عموما قد أعتبرت كل ذلك ملغي في داخل فلسفة العلم، ولكن لا تزال المناقشة تلقي بظلالها علي دور العوامل الجمالية في العلم. وتستمر وجهة النظر التي تعول علي أن العوامل الجمالية يمكن أن تكون مهمة في إبداع النظرية، وأن المعيار التجريبي فقط يمكن أن يلعب دور في قبوله، فمثلا " دين ك. سيمونتن كتب قائلاً: " لا يوجد عالم من العلماء بما فيهم ديراك تتوفر لدية الجرأة في أن يبرر النظرية علي أساس غير عقلاني اللهم إلا علم الجمال".

لذلك وجدنا معظم الوضعيين المناطقة لم يفرقوا في حديثهم عن القيم بين الأخلاق وعلم الجمال، أو قل بين الخير والجمال فهما معا يعتمدان علي الذات المدركة، لا علي صفة في الشئ المدرك والمصطلحات الجمالية تستخدم تماما كمصطلحات الأخلاق للتعبير عن مشاعر معينة , ومن ثم فلا معني لأن ننسب صحة موضوعية للأحكام الجمالية ولاإمكانية للجدال حول الأمور المتعلقة بالقيم الجمالية، وإنما يمكن النقاش فقط حول مسائل الواقع المتعلقة بالجمال، وهذه جميعاً مسائل علمية، فالبحث العلمي وحده هو ما يبحث في أسباب الشعور الجمالي، ولماذا تنتج بعض الجماعات أعمالا فنية وما أثر اعجابها بها، ولماذا يختلف الذوق من فرد لآخر داخل مجتمع واحد. فهذه كلها أمور يمكن بحثها بحثا اجتماعياً أو نفسياً.

ويعلق "جيمس ماكليستر" علي ذلك فيقول:" لاشك أن الوضعية المنطقية كانت علي حق حين رأت أن الاعتبارات الجمالية تحدث من خلال سياق الكشف : فكثيرا ما يحدث أن العلماء يَلتقطونَ النظرياتَ التي فيها هو وهي سيقومان بتوضيح الجزء الذي تتمثل فيه قوة الخصائص الجمالية. ولكن تم إنكار أن الاعتبارات الجمالية تلعب جزء في تقييم العلماء للنظريات ، وهنا الوضعية المنطقية أهملت حقيقتين:

الأولي:- أنه من الممكن النظر إلي الإبداعات العقلية لأنواع عديدة تتراوح من البراهين الرياضية إلي لعبة الشطرنج كأعمال للفن. وحين نضع في الاعتبار الإبداعات العقلية في هذه الحالة نلجأ إلي القول بأن لها خصائص جمالية وهذا الاقتراح الجمالي يؤثر علي نظرتنا العامة تجاههم. ومن المعتاد أنه إذا ما لم يتمكن العلماء في أغلب الأحيان علي أن يعتبروا النظريات العلمية بوصفها أعمال للفن وأن تسمح نظرتهم العامة بها لتكون متأثرة بالأحكام الجمالية. وبالطبع العلماء، كثيرا ما يستسلموا بتلك الإغراءات، وأرنست راذرفور، كتب يقول في سنة 1932 حيث عرض مثال في هذا الصدد قائلاً: أعتقد أن المطلب القوي يتمثل في أن عملية الكشف العلمي ربما ينظر إليها على أنها صورة من صور الفن. وهذا أفضل رأي في الملامح التنظيرية للعلم الفيزيائي. إن المنظر الرياضيي كثيرا ما يبني صروحا رهيبة من الافتراضات المحددة وطبقا للفهم الجيد للقواعد المنطقية التي ينتقل من خلالها خطوة بعد خطوة , بينما قوته التخيلية تظهر بوضوح من خلال العلاقات الكامنة بين أجزائها. والنظرية المشيدة جيدا هي التي بلا شك يكون لها بعض ملامح النسبة الجمالية. والمثال الذي يمكن أن يجسد هذا بالتحديد هو النظرية الحركية لماكسويل {....} ونظرية النسبية لأينشتين، حيث نجد أن ما يفترق تماما عن أي شئ هو صدقهما الذي لا يمكن إلا أن يكون يمثل قطعة فنية رائعة.

ثانياً: إن الوضعيين المناطقة قد اعترفوا أنهم قد حذفوا فكرة أن العلماء في عملهم الخاص لا يميزون علي نحو قاطع بين سياق الكشف وسياق التبرير. في معظم الحالات فإن العوامل التي تقود العالم لصياغة النظرية التي لها خصائص محددة أيضا بحيث تلعب دورا في تشكيل رأي الجماعة بشان أهمية النظرية. وبالأخص فإنه يبدو أن العلماء يلجئون إلي العوامل الجمالية في كل من جهودهم لإحداث الفروض وفي تقييمهم للنظريات التي من المفترض أن تكون متمثلة في جماعتهم. ومن خلال استبعاد العلماء للتقييمات الجمالية لنظرياتهم بوصفها غير مهمة، فإن الوضعيين المناطقة فشلوا في أن ينصفوا هذا الجانب من الممارسة العلمية.

وهاتان النتيجتان انقلبتا تماما في نظرية الكوانتم بعد انقلاب المقدمة الأولي التي بنيت عليها ؛ بمعني أن المادة لم تعد هي المعبرة عن حقيقة الوجود. بل ضروب من الطاقة غير المنظورة، تؤثر فينا ولا نراها، وبالتالي أصبح الجمال صفة للشئ أو الظاهرة وجزء منها وليس مجرد شعور عند المتلقي، بل وأصبح أحد المقاييس الموضوعية للحقيقة العلمية جنبا إلي جنب مع البساطة والمقاييس المنطقية والتجريبية باقتناع العالم بصحة النظرية يتوقف علي إحساسه بجمالها. وهي ليس إحساسا فرديا، بل له صفة الموضوعية.

ولذلك نجد الجمال في النظرة الجديدة وسيلة من وسائل اكتشاف الحقيقة العلمية. ومن ذلك مثلا أن جيمس واتسن في كتابه " اللولب المزدوج " يذكر كيف ان الجمال هدي إلي اكتشاف التركيب الجزيئي لـ DNA فيقول ": كنا نتاول طعام الغذاء ويقول كل منا للآخر إنه لا بد من وجود تركيب علي هذا الجانب من الجمال. " وأقر جميع الحاضرين تقريبا بأن تركيبا في مثل هذا الجمال لا بد من أن يكون موجودا ؛ ويقول العالم الفيزيائي "جورج طومسون George Thomson: (إن المرء يستطيع دائما أن يقدم نظرية، أو عددا كبيرا من النظريات لتفسير حقائق معروفة، بل للتنبؤ بحقائق جديدة أحيانا. والجمال هو الفيصل. فالنظريات بعضها صعب المأخذ ومحدود النطاق وتعسفي. وقلما تدوم هذه طويلا ".

بل إن الجمال يتحدى "الحقائق ". ومن الأمثلة التوضيحية على ذلك واللافتة للنظر ما نجده في بحث علمي قدمه الفيزيائيان "ريتشارد فينمان ومري جيل -مانMurry Gell-Mann عام 1958وعرضا فيه نظرية جديدة لتفسير التفاعلات الضعيفة. وكانت النظرية تناقض بشكل صارخ عددا من التجارب. أما الجانب الرئيس الجذاب فيها فكان الجمال. وقال العالمان فينمان وجيل -مان "إنها نظرية عالمية ومتناسقة وهي أبسط الإمكانات، مما يدل على أن تلك التجارب غير صحيحة ". ويعلق جيل -مان على ذلك بقوله: " غالبا ما يطرح العالم النظري مقدارا كبيرا من البيانات على أساس أنها اٍذا كانت لا تنسجم مع خطة أنيقة فهي غير صحيحة. وقد حدث هذا معي مرات عديدة، كما في نظرية التفاعلات الضعيفة:لقد كانت هناك تسع تجارب تناقض النظرية وكلها بلا استثناء غير صحيحة. فإذا كانت لديك نظرية بسيطة تتفق مع سائر قوانين الفيزياء، ويبدو أنها تفسر فعلا ما يحدث، فلا عليك إن وجدت كمية قليلة من البيانات التجريبية التي لا تؤيدها. فمن المؤكد تقريبا أن تكون هذه البيانات غير صحيحة.

ولذلك نجد جون بوكنجهورن يذهب John Polkinghorne في كتابه Beyond Science فيقول "إن الفيزياء قد علمتنا أن أنجح النظريات هي التي يعبر عنها بأجمل النظريات ". أرأيت كيف أن الجمال قد أصبح معيارا لتمحيص صحة النظريات العلمية؟ هل كان متصورا في العلم بمفهومه الكلاسيكي أن يكون لمثل هذه المعنويات دور في البحث العلمي المجرد؟.. ولكنه العلم في ثوبه الجديد. وإذا كان اللجوء لمعني الجمال في تمحيص النظريات العلمية أمرا مستغربا، فما بالك أن يكون أساسا لوضع نظرية من النظريات أصلا وأيه نظرية، النسبية العامة التي قد لا يغالي في القول بأن وضعها كان من أعظم الإنجازات العلمية علي مر التاريخ الإنساني؟ وفي هذا المعني يقول الكتاب المذكور: " لقد تعلمنا درساً بليغاً من بحث بول ديراك الدءوب عن المعادلات الجميلة، ومن قبله ألبرت أينشتين في نظريته النسبية العامة. ولو أتيح للقاري الكريم الاطلاع علي قصة حياة أينشتين كما كتبها مساعده ريتشارد هوفمان لوجد كيف ركز المؤلف أي أن وضع هذه النظرية كان مبنيا ليس علي أي شئ آخر علي إحساس أينشتين بالجمال. لقد نزع العلم عن نفسه ثوبا أقرب لقميص الأكمام ليستبدل به ثوباً فضفاضاً يتسع لمعان مستقاة من روافد أخري للمعرفة الإنسانية معان تتسع للخير والجمال.

ويعلن الفيزيائي بول ديراك Paul Dirak": (إن وجود الجمال في معادلات العلم أهم من جعل هذه المعادلات تنطبق على التجربة) ونستطيع أن نفهم ذلك إذا تصورنا العالم النظري أمام كمية ضخمة من البيانات التجريبية المذهلة. فأي النتائج هو الأهم؟ وكيف ينبغي أن تفسر جميعها؟ ما هو النمط الملاحظ؟ والجمال في هذا المقام يدل علي أنه جدير بالثقة ؛ وفي انعكاساته العديدة علي دور العوامل الجمالية في عمله الخاص، وفي الممارسة العلمية عموماً، شدد ديراك علي تأثيرها وذلك بوصف كونها تمثل موجه للكشف وبوصف كونها أيضا تمثل الأساس لتقييم النظرية. أولاً، فكما اعترف ديراك باستخدام المعيار الجمالي بأن قرر أولويته في بحوثه الخاصة. فقد اعتقد ديراك أن كثير من زملائه يعملون بنفس الطريقة فمثلاً: حين كان أينشتين يعمل علي إقامة نظريته في الجاذبية فإنه لم يحاول أن يصف بعض نتائج الملاحظات. بعيدا عنها. فقد كان إجرائه العام هو أن يبحث عن جمال النظرية {....} وبطريقة ما فقد حصل علي فكرة أن الجاذبية تتعلق بانحناء الفضاء. وقد تمكن من أن يطور الخطة الرياضية التي تجسد هذه الفكرة. لقد توصل فقط من خلال اعتبار الجمال لتلك المعادلات{....} ونتيجة هذا الإجراء هي نظرية البساطة العظمي والتألق في أفكاره الأساسية.

ولذلك اعتمد " ديراك " علي أن المعيار الجمالي أيضا يتمثل في تخمين النظريات. " سياق الكشف"، " سياق التبرير " حيث يوجد بينهما ارتباط ضروري لا يمكن التخلص منه، وهذا الارتباط يتمثل في هذه القضايا علي النحو التالي:" إن ما هو أكثر أهمية، هو أن يكون الجمال متمثل في معادلات الأول أفضل من أن يكون متمثل من خلال تجربة ملائمة {....} إن ما يبدو هو أنه إذا كان الأول يعمل من وجهة نظر للحصول علي الجمال في معادلات الأول، وإذا كان الأول لديه بالفعل بصيص من الإلهام فإنه بالتأكيد يمثل خط التقدم " كما دعا ريتشارد هـ. دالتز في موسكو في سنة 1950 عندما سئل أن يكتب فلسفته في الفيزياء، وكتب علي السبورة القوانين الفيزيائية التي يجب أن يكون لها جمال رياضي " إنه كان علي الأقل متمثل في جزء من هذا المعيار الذي افترضه بتوسع ديراك لنظرية النسبية العامة: " إنني اعتقد أن أسس النظرية تكون أقوي من النظرية التي تحصل ببساطة علي افتراض البينة التجريبية. والأساس الحقيقي يأتي من الجمال الأعظم للنظرية {....} إن الجمال ضروري للنظرية التي تجعلني أشعر بالسبب الحقيقي للإيمان بها.

ثم يفسر لنا ديراك كيف أصبح الجمال في تصور فلاسفة الطاقة أشد واقعية من وجود الأشجار والأنهار والأحجار، فيقول ": إن جمال النظرية العلمية أحيانا ما يقدم علي صدقها التجريبي، وكثيرا ما يكون هذا الجمال هو المصحح لبعض البيانات التجريبية الخاطئة. فالعالم النظري يجد بين يديه كما هائلا من البيانات التجريبية تحار العقول في تفسيرها. وحينئذ يكون التفسير هو الفيصل الذي يكشف عن خطأ المعطيات التجريبية المخالفة.

ويذهب يذهب" هيزنبرج " إن نظرية أينشتين المذهلة إلي الجاذبية لا يتأتي اكتشافها إلا لعبقري رزق إحساسا عميقا بجمال الأفكار " ؛ وفي فقرة أخري يعلن هايزنبرج إن " الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون علي السواء هو أهم مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح " ؛ يتعلق بميكانيكا الكم وهو المجال الذي قام فيه هيزنبرج ببحوث رائدة أنه ثبت في الحال أن " النظرية مقنعة بفضل كمالها وجمالها التجريدي. ولذلك نجده يصف نظرية نيلز بور بأنها نظرية فاتنة للغاية فيقول:" انني أعتبر فيزياء " نيلز بور "، فاتنة للغاية بالرغم من أن كل هذه المشاكل. أن بور يعرف بالقطع أنه قد اعتبر فرضا متناقضا في حد ذاته، وبالتالي فلا يمكن أن يكون هذا الفرض صحيحا. ولكن بوهر لديه غريزة صادقة لكيفية بناء نظرية كاملة علي هذا الفرض تعتبر مطابقة للأحداث الذرية. إن استخدام بوهر للميكانيكا الكلاسيكية ونظرية الكم هنا يشبه تماما استخدام الرسام للفرشاة أو الألوان. وبالطبع فإن أي صورة لا تتحدد من الألوان والفرشاة ولكنهما لازمتان في إخراج ما يدور في مخيلة الفنان بطريقة غير مكتملة. إن بوهر يعرف تماما تصرف الذرات أثناء الظواهر الضوئية وأثناء التفاعلات الكيميائية وقد اكسبته هذه المعرفة عن طريق الحدس تصورا لتركيب الذرات المختلفة. وهو يريد أن ينقل هذه الصورة إلي الفيزيائيين الآخرين باستخدام العوامل المساعدة الغير مكتملة، أي " المسارات "و"شروط الكم ".

وفي حوار دار بين هيزنبرج وأينشتين، حيث سأل أينشتين هيزنبرج فقال " لماذا تؤمن بنظريتك بهذه الدرجة بالرغم من أن هناك أسئلة مركزية لم تصبح واضحة بعد؟" وأجاب هيزنبرج فقال " إنني أعتقد مثلك أن بساطة القوانين الطبيعية لها صفة موضوعية وأن الأمر لا يتطلب فقط الاقتصاد الفكري عندما تقودنا الطبيعة إلي أشكال رياضية ذات بساطة كبري وجمال فائق – وأعني بكلمة إشكال هنا: نظما مغلقة من الفروض الأساسية، والبديهيات وخلافه –أي إلي أشكال لم يفكر فيها أحد من قبل ؛ عندئذ سيتبين لنا دون قيد أوشرط أنها فعلية أو بمعني آخر أنها تمثل نفثة حقيقية من الطبيعية ولعل هذه الأشكال تتناول علاقتنا بالطبيعة وتحتوي علي عنصر من الاقتصاد الفكري. ولكن بما أننا لم نستطع حتي الآن من التفكير بأنفسنا في هذه الأشكال التي يجب أن تقدم لنا أولا من قبل الطبيعة فلا بد أنها تنتمي إلي الواقع نفسه، وليس فقط لأفكارنا عن الواقع. لعلك تتهمني هنا بأنني أستخدم مقياسا جميلاً للواقع بحديثي عن البساطة والجمال. ولكنني أعترف أن ثمة قوة إقناع كبري تنبثق بالنسبة لي من البساطة والجمال للنسق الرياضي الذي ألهمته الطبيعة لنا. وبالتأكيد أنك قد عايشت هذا أيضا وأن الإنسان لا يكاد ينتابه الفزع من بساطة وحبكة العلاقات التي تظهرها الطبيعة له مرة واحدة. إن الشعور بأننا ننبهر بمثل هذا المنظر يختلف تماماً حتي عن السعادة التي نشعر بها عندما ننجز بأنفسنا عملاً يدويا فيزيائياً أو غير فيزيائي علي وجه حسن. ومن هنا فإنني أتمني بالطبع أن تحل كل القضايا التي تحدثنا عنها اليوم بطريقة ما. إن بساطة النسق الرياضي تؤكد حتماً إلي إمكانية التفكير في تجارب متعددة يمكن التنبؤ الحسابي بنتائجها بكل دقة وفقا للنظرية وعندما تجري هذه التجارب بالفعل وتؤدي إلي النتائج المتنبئ بها فإنه لن يتطرق الشك إلينا بعد ذلك في أن النظرية تمثل الطبيعة في هذا الميدان بطريقة صحيحة.

 

د.محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم