أقلام فكرية

جمال عبد الناصر وإشكاليات الفكرة القومية العربية

ميثم الجنابيتقديم: هناك شخصيات لا تتآكل تجاربها وقيمتها مع مرور الزمن. من ثم تبرز قيمتها زمن الاحباط والهزيمة، والتفاؤل والنصر. والحديث يجري هنا عن الشخصيات السياسية الفذة والعربية العامة. فهناك شخصيتان تمثلان الروح القومي العربي ويرتقيان الى مصاف المرجعية الفعلية بهذا الصدد، وهما وكل من جمال عبد الناصر في القرن العشرين، والشيخ حسن نصر الله في القرن الحادي والعشرين. ولكل منهما اثره وقيمته في ارساء اسس الرؤية العملية للفكرة العربية.

والمقال الحالي مخصص لجمال عبد الناصر بمناسبة مرور نصف قرن على وفاته (الثامن والعشرين من أيلول عام 1970). وقد ادى مقتله الى احداث فراغ، سرعان ما جرى ملئه، رغم تباين الإمكانيات، بشخصية الشيخ حسن نصر الله. فلو افترضنا انه يقود الآن دولة مصر أو سوريا أو حتى لبنان، لأدى ذلك إلى إحداث تغير نوعي في المسار القومي العربي، ولأستعاد فلسطين بطريقة تحي تحرير القدس من سطوة القوى الصليبية. وهي خاتمة لا ريب فيها.

لقد صنع عبد الناصر تاريخ القومية العربية الحديثة، بغض النظر عما تعرض له مشروعه من هزيمة عملية شنيعة، تماما كما تعرض للفشل مشرع محمد علي باشا قبله بأكثر من قرن من الزمن (توفي عام 1848). ووراء كل فشل اسبابه الخاصة ونتائجه، ليس محل مناقشتها في هذا المقال.

لا يتناول هذا المقال التاريخ السياسي الشخصي والوطني المصري والقومي العربي لجمال عبد الناصر. إذ يبقى جمال عبد الناصر، رغم كل هزائمه الفعلية، الشخصية الكبرى والأعظم في التاريخ السياسي العربي للقرن العشرين.

إن مهمة هذا المقال تقوم في التحليل والدراسة النقدية للفكرة الناصرية من اجل استخلاص تجربتها ونتائجها الفعلية. ومن ثم العمل على تأسيس الرؤية الفلسفية العلمية للمستقبل تجاه إشكاليات العالم العربي وفكرته القومية الحديثة.

***

التجربة الشخصية للفكرة القومية

إن الإشكالية المثيرة "للناصرية" وغرابتها في الوقت نفسه تقوم في اعتلائها عرش الفكرة القومية العربية الحديثة، مع أنها لم تكن فلسفة ولا أيديولوجية ولا حتى فكرة واضحة المعالم. وقد أشار جمال عبد الناصر (1918-1970) نفسه إلى هذا الجانب عندما كتب في (فلسفة الثورة) قائلا، بأن ما يضعه في كتابه هذا ليس "فلسفة" وليس "أيديولوجيا"[1]. ومع ذلك أعطى لمواقفه وتجاربه الشخصية السياسية أبعاد "فلسفة للثورة" المصرية، أي لانقلاب يوليو العسكري وما كان يختزن فيه من إمكانية ورؤية قادرة على التطور والتمام.

وبغض النظر عن كل ما قيل أعلاه، فإن الناصرية استطاعت مع ذلك التغلغل في مسام الوعي القومي كما لو أنها احدى بديهياته الكبرى. ولا يخلو هذا التغلغل من أبعاد حقيقية ودفق دافئ للوجدان العربي المعذب، والذي يمكن العثور عليه في أعمق أعماق الناصرية بوصفها موقفا شخصيا وتجربة سياسية. من هنا كمية ونوعية الإخلاص الهائل فيها وضعف عودها النظري (العقلي) الذي سرعان ما كشف عن نفسه في عودة مصر إلى حضيض الساداتية ثم المباركية! ولاحقا الإخوانية المتهرئة وأخيرا للعسكر من جديد! بمعنى شقها الطريق الوعر لمصر الجديدة والانتهاء بها إلى طريق مسدود.

إن هذه النتيجة الجلية والمخزية في الوقت نفسه ليست نتاجا ملازما للناصرية، على العكس! وفي هذا تكمن مفارقة الناصرية! الأمر الذي يدفع من جديد السؤال الجوهري نفسه الذي حاول جمال عبد الناصر الإجابة عليه، ألا وهو كيفية الخروج بمصر من مأزق وجودها التاريخي، والانتقال بها صوب ذاتها، أي كيفية تأسيس وتحقيق فكرة الهموم الوطنية والقومية الكبرى في مصر على مستوى النخبة والمجتمع والنظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي.

فقد كان هذا السؤل الأكثر إثارة بالنسبة لعبد الناصر يدور حول هواجسه الوطنية العميقة نفسها. إذ شاهد فشل الغاية التي سعى إليها عمر مكرم في تنصيبه لمحمد علي باشا. كما لم تنجح محاولات عرابي بالدستور. وفشلت ثورة 1919 بزعامة سعد زغلول. لقد شاهد ذلك وتوصل إلى أن هناك خلل ما زال مستمرا في حياة مصر يقوم في أن حكامها ليس منها، بمعنى غياب الهمّ الوطني عند نخبتها السياسية (نخب غير مصرية الأصل والهموم). بعبارة أخرى، إن الهاجس الأول والأعمق في تفكير جمال عبد الناصر كان الهاجس الوطني المصري. ولهذا الهاجس مقدماته في خصوصية المسار التاريخي لمصر وبلاد النوبة، بوصفها منطقة تاريخية ثقافية ضمن الكينونة العربية العامة، وفي تجربة عبد الناصر الشخصية نفسها.

فقد كانت التجارب السياسية والفكرية الحديثة والذوق الوجداني في مصر يعترك ضمن وطنية مصرية مستقلة نسبيا. ومن المكن العثور على ذلك في محاولات جمال عيد الناصر فهم وعيه الذاتي الشخصي والوطني في مواجهة ما اسماه بكيفية "العثور على العمل الايجابي". بحيث نراه يأخذ بتحليل تاريخ مصر أو استخلاص ما يمكن استخلاصه من رؤية مفاصله الكبرى وأثرها بالنسبة لبلورة تقاليد ومكونات ورؤية وطنية مصرية جديدة. ووضع ذلك في موقف منهجي سليم، يقول، بأن "الوسيلة لمواجهة أي مشكلة من المشاكل هو ردها إلى أصلها ومحاولة تتبع الينبوع الذي بدأت منه". ووجد "أصل وينبوع" الحالة المصرية القلقة في موقع مصر الجيوسياسي والتاريخي والثقافي. وكتب بهذا الصدد يقول، بأن "القدر شاء أن تكون مصر مفرق الطرق من الدنيا". و"كثيرا ما كنا معبرا لغزاة ومطمعا لمغامرين"، "كما لا يمكن إغفال تاريخ مصر الفرعوني، ثم تفاعل الروح اليوناني مع روحنا، ثم غزو الرومان، والفتح الإسلامي، وموجات الهجرة العربية التي أعقبته"[2]. واعتبر الحالة الأخيرة لمصر، أي انحدارها وانحطاطها شبه الشامل وخرابها الداخلي هو نتيجة لموجات الغزو الأجنبي، بدأ من الحروب الصليبية وانتهاء بالمماليك. فإذا كانت الحروب الصليبية هي "بداية فجر النهضة في أوربا"، فأنها "كانت بداية عهود الظلام" في مصر، كما يقول عبد الناصر. وذلك لأن مصر قد تحملت أكثر من غيرها "معظم أعباء الحروب الصليبية" بحيث خرجت مصر والمصريين بعدها فقراء معدمون ومنهوكين"[3]. ولم تنته حالة مصر بذلك، بل استمرت تعاني "الذل تحت سنابك خيول الطغاة القادمين من المغول والشركس. كانوا يجيئون إلى مصر عبيدا فيفتكون بأمرائهم ويصبحون هم الأمراء، وكانوا يسوقون إليها مماليك فلا تمضي عليهم فترة في البلد الطيب الوديع حتى يصبحوا ملوكا"[4]. وبأثر ذلك تحولت مصر "إلى غابة تحكمها وحوش ضارية. كان المماليك يعتبرونها غنيمة سائغة"، بحيث أصبحت "أرواح المصريين وثرواتهم وأراضيهم غنيمة"[5]. أما الحصيلة العامة لهذه الحالة فقد أدت إلى نتيجتين مترابطتين، الأولى وهي سيادة الطغيان والظلم والخراب، بحيث أصبح ذلك طابع الحكم في مصر، والذي عاشت في مجاهله قرونا طويلة[6]. أما الثانية المترتبة عليها فهي تصنيعها للخنوع والابتعاد عن السياسة والاشتراك الاجتماعي. فقد كانت تقاليد الممالك دموية وقاسية وبدائية، حيث كانوا يتصارعون ويتطاحنون في الشوارع وتسرع الناس إلى بيوتها يغلقونها عليهم بعيدين عن هذا الصراع الذي لا دخل لهم فيه"[7].

لقد كانت هذه الرؤية التاريخية السياسية جزء من التأمل الوجداني والعقلي لجمال عبد الناصر في مرحلة صيرورته الشخصية. وقد قدم مثالا نموذجيا بهذا الصدد عندما أشار إلى انه حاول في بداية عمره أن يفهم العبارة التي كثيرا ما كان يرددها الصغار وهو منهم وبينهم عندما كانوا يرون الطائرات في السماء. لقد كان يصيح، شأن أقرانه بعبارة:"يا ربنا يا عزيز... داهية تأخذ الانجليز". وسوف يكتشف في وقت لاحق، بأنها ليست أكثر من إعادة صياغة لعبارة كان يقولها السابقون من المصريين. فقد كان أجدادنا يقولون "يا رب يا متجلي... اهلك العثمانلي!"[8]. ولم تتغير الحالة بعد مجيء الفرنسيين. فقد أدت إلى صعود أسرة محمد علي باشا مع كل تراث المماليك، وأن حاولت وضع الملابس ما يناسب القرن التاسع عشر[9]. وبالتالي، فأن يقظة مصر الحديثة بدأت أساسا بعد "الاتصال بأوربا والعالم كله"[10].

أما حصيلة هذه الحال الدرامية فقد ظلت كامنة في أعمق أعماق مصر وشخصيتها الفردية والاجتماعية والوطنية. ووضع عبد الناصر هذه الحالة المفارقة والواعية في عبارة مقتضبة تقول، بأن أرواح المصريين كانت تعيش "في آثار القرن الثالث عشر، وإن سرت في نواحيها المختلفة مظاهر القرن التاسع عشر ثم القرن العشرين"[11].

إننا نقف هنا أمام حالة تتمثل تاريخ العقل والوجدان بوصفها تجربة فردية واجتماعية ووطنية بقدر واحد. من هنا يمكن فهم موقف جمال عبد الناصر اللاحق من كيفية ونوعية مخاطبة الجمهور بوصفها مخاطبة الضمير العقلي للمجتمع والدولة. فقد توصل بهذا الصدد إلى فكرة مفادها، بأن الغرائز عند الجميع واحدة، أما العقول، فأنها موضع الخلاف والتفاوت. وليس مصادفة أن يكون "ساسة مصر في الماضي من الذكاء بحيث أدركوا هذه الحقيقة فاتجهوا إلى الغريزة يخاطبونها، أما العقل فتركوه هائما على وجهه في الصحراء. وكنا نستطيع أن نفعل نفس الشيء"[12].

بعبارة أخرى، لقد أراد جمال عبد الناصر إحداث القطيعة المنهجية مع تراث لا علاقة له بحقيقة مصر ومستقبلها. وضمن هذا السياق يمكن النظر إلى همومه الشخصية على أنها هموم وجدانية عقلية، أي ذات رؤية مستقبلية وتجريبية. لكنها كانت أيضا ذات حدود مغروسة في أعماق الوعي الثقافي النفسي والعقلي. ومن الممكن رؤية ذلك في نوعية المعاناة الدفينة وآفاقها، التي كانت تعتمل في هموم جمال عبد الناصر وعقله منذ وقت مبكر. فهو يشير إلى أن مواقفه من مصر كانت على الدوام في أعمق أعماقه، كما لو أنها البوصلة الروحية التي كانت تحرك عقله ووجدانه. من هنا استذكاره لمشاركته في حرب فلسطين عام 1948، بوصفها طورا من أطوار بروز النزعة الوطنية، أو القوة الموجهة لمجرى صراعه ورؤيته المستقبلية، قائلا "كنا نحارب في فلسطين، ولكن أحلامنا كلها كانت في مصر"[13]، وكيف انه كان "يجد خواطره تقفز فجأة عبر ميادين القتال، وعبر الحدود، إلى مصر"[14]. وضمن هذا السياق يمكن فهم تفسيره للأسباب القائمة وراء مشاركته في انقلاب يوليو 1952، أي خروجه على مألوف التفسير المسطح والعابر الذي يجدوه في "هزيمة" أو ما يسمى بحادثة "الأسلحة الفاسدة"، أو رد فعل على ما يسمى بأزمة "نادي الضباط" لعام 1951[15].

لقد كانت كل هذه الأحداث مجرد أحداث ضمن الصيرورة الكبرى للشخصية الوطنية والقومية لجمال عبد الناصر. فقد كانت تجربته المصرية تجربة وطنية، وفي وطنيتها عربية (قومية)، أي أنها تتمثل الخط المعتدل والحد الوسط بين مغرب متغرب وبعيد نسيا عن هموم القومية الكبرى، ومشرق هو قومي وصانع الفكرة القومية العربية. ومن الممكن تبع ذلك ورؤيته فيما يمكن دعوته بوعي الذات الشخصي لجمال عبد الناصر نفسه كما وضعه في كتابه (فلسفة الثورة). فعندما يتتبع الأسباب الدفينة القائمة وراء مشاركته في انقلاب يوليو 1952، فإنه يجدها في صيرورته الشخصية بوصفها شخصية اجتماعية وطنية قومية. من هنا بحثه عن تاريخ "الفوران" والثورة في أعماقه الذي تركم مع مجرى الأحداث في مصر وطبيعة صراعها الداخلي الطويل والمرهق. انطلاقا من "أنه لا شيء يمكن أن يعيش في فراغ"، "حتى الحقيقة لا يمكنها أن تعيش في فراغ"[16]. وبالتالي لم تكن "ثورة يوليو" حادثا عابرا أو ناتجا عن لا شيء!

واستخلص جمال عبد الناصر كل هذا التعقيد في عبارة موجزة تقول، بأن مشاعره "في البدء اتخذت هيئة الأمل المبهم"، ثم "فكرة محددة" ثم "تدبير عملي"، ثم تجارب "وضعت موضع التنفيذ هذه المشاعر"[17]. إن الانتقال من الحس إلى العقل ومنه إلى العمل، أو من العلم إلى الحال إلى العمل، فيما لو استخدمنا العبارة الصوفية، فأن النتيجة كانت "ثورة" على النفس والواقع، قد لا تخلو من مغامرة، لكنها مغامرة الروح العامل بمعايير الوطنية الصادقة والإخلاص لها في كل شيء.

فقد آمن جمال عبد الناصر بالجندية طوال عمره، كما كتب عن نفسه. والجندية بالنسبة له "تجعل للجيش واجبا واحدا، هو أن يموت على حدود وطنه. فلماذا وجد جيشنا نفسه مضطرا للعمل في عاصمة الوطن، وليس على حدوده؟"[18]. إن مفارقة هذه الظاهرة تكمن في مفارقة الجندية المصرية وتاريخها السياسي. فقد كان الجيش، كما يقول عبد الناصر، "الشبح الذي يؤرق به الطاغية أحلام الشعب. وقد آن لهذا الشبح أن يتحول إلى الطاغية فيبدد أحلامه هو"[19]. وفي نفس الوقت كان هذا الشعور "يمتد إلى أعماق وجودنا بأن هذا الواجب واجبنا". إلا أن "الصورة الكاملة لم تتضح في خياله إلا بعد فترة طويلة من التجربة عقب 23 يوليو"[20]. من هنا نوعية وكمية الأزمات التي تعرض لها جمال عبد الناصر، والتي سببت له كما يقول "أزمة نفسية كئيبة"[21]. بحيث توصل أحيانا إلى أن "اتهم نفسه وباقي الجيش بالحماقة والجنون الذي صنعه في 23 يوليو"... وذلك لأنه كان "يتصور قبلها أن الأمة كلها متحفزة متأهبة وأنها لا تنتظر إلا طليعة تقتحم أمامها السور"...كما كان "يتصور دور الجيش على انه دور طليعة الفدائيين"[22]. لكن الواقع فاجأه، بحيث نظر إلى كل ما جرى بعد الانقلاب على انه شيء لا يتطابق مع الخيال الأول. من هنا صعود الإحساس بأن "مهمة الطليعة لم تنته في هذه الساعة. وإنما من هذه الساعة بدأت". من هنا نوعية الإصرار الجديد الذي حصل على تعبيره في موقف سياسي بدأت ملامحه تكتمل من خلال وضع حالة الأشياء موضعها كما هي، كما هو جلي في عباراته التالية:"كنا بحاجة إلى النظام، فلم نجد وراءنا إلا الفوضى. وكنا في حاجة إلى الاتحاد، فلم نجد وراءها إلا الخلاف، وكنا في حاجة إلى العمل، فلم نجد وراءنا إلا الخنوع والتكاسل"[23].

وحدد هذا الواقع الفهم الجديد لماهية الثورة وشعارها. لقد توصل جمال عبد الناصر إلى خلاصة تقول، بأن مصر" تعيش في ثورتين. ثورة سياسية للحصول على الحرية والتحرر (الوطني) وثورة اجتماعية من جل تحقيق العدالة لأبناء الوطن الواحد"[24]. الأمر الذي حدد بدوره دراما الجيش والثورة ومصر والمستقبل.

فقد مرت اغلب الشعوب التي سبقت مصر بهاتين الثورتين، كما يقول جمال عبد الناصر. إلا أن هذه الشعوب لم تعش هاتين الثورتين معا، و"إنما بين الواحدة والثانية مئات السنين. أما نحن فقد كتب علينا أن نعيش الثورتان معا في آن واحد"[25]. وإذا كانت الثورة السياسية تتطلب وحدة الأمة وترابطها، فأن الثانية تثير الصراع الداخلي، وتغيير القيم والمفاهيم والعقائد مع إثارتها لمختلف مظاهر التضاد[26]. من هنا مهمة البحث عن بديل أو نسبة جديدة وجدها جمال عبد الناصر فيما اسماه بالعمل الايجابي. غير أن هذه الإجابة، شأن غيرها من الإجابات كانت تجريبية بحت. بمعنى أنها لم تنظر إلى الأحداث بعيون التجارب النظرية، بل بعيون التجربة العملية. ووجد ذلك تعبيره فيما يمكن دعوته بضعف الرؤية النظرية عند جمال عبد الناصر وقوة الرؤية العملية.

وهنا كانت تكمن خطورة التجربة الناصرية. أنها كانت تحتوي في أعماقها على تبذير فض للتجارب النظرية. مما جعلها جزء من تقاليد النفي الراديكالي للإرث التاريخي في كافة الميادين. ولم يكن هذا بدوره معزولا عن خصوصية تطور مصر الحديثة. وهذا بدوره مرتبط بقضيتين، الأولى وتتعلق فيما إذا كانت مصر تفتقد لتجارب نظرية (ومن ثم حكمة عملية) بصدد المستقبل؟ أم أن دخول الجيش إلى ميدان الحياة السياسية المباشرة وتصنيع تام الحكم هو الذي جعل من التجارب النظرية السابقة مجرد ولع مثقفين وعلماء؟ أم أن ما جرى هو نتاج الاثنتين؟ لاسيما وأن التجارب العقلية والمنهجية الأكثر انتشارا وتأثيرا في مصر الحديثة كانت تدور بين تيارين أساسين وهما التيار الليبرالي، الذي كان أيضا تيارا تقليديا ومقلدا ومسطحا لحد ما، وتيار إسلامي كان يعاني من اندثار نسبي للفكرة الإصلاحية وصعود متزايد للراديكالية السلفية. من هنا تراوح جمال عبد الناصر بينهما، ومن ثم بحثه التجريبي عن طريق ثالث، مصري عربي إفريقي إسلامي.

إشكالية التأسيس النظري للفكرة القومية

كان عبد الناصر يعرف، كما يقول عن نفسه، الإجابة على السؤال "ما الذي نريد أن نصنعه". أما الإجابة على السؤال "ما هو الطريق إلى ما نريد صنعه"، فقد كان أكثر تعقيدا ودرامية. وشدد عبد الناصر نفسه على ما اسماه بالتغير الهائل والمتعدد في إجابته على هذا السؤال، بحيث لم يجر له ذلك مع أي سؤال آخر. وهذا بدوره لم يكن معزولا عن أن الإجابة عليه كانت موضوع الخلاف الأكبر عند الأجيال التي سبقته وعايشته[27]. فقد وجد الإجابة للمرة الأولى عن العمل الايجابي في الحماسة، ثم وجدها لاحقا في اجتماع الكلمة عند زعماء مصر، ثم وجدها في فكرة الاغتيال السياسي. وبينها كلها كانت تعتمل في نفسه "حيرة تمتزج بها عوامل متشابكة، عوامل من الوطنية ومن الدين، ومن الرحمة ومن القسوة، ومن الإيمان ومن الشك، ومن العلم ومن الجهل"[28].

إن إشكالية "ما العمل" و"كيفية العمل" هي الإشكالية الأكثر جوهرية بالنسبة لمراحل الانتقال الكبرى وبداية الصيرورة التاريخية للأمم. وفي حالة جمال عبد الناصر فأن حلوله لهذه الإشكالية ظلت بقيت إشكالية لسبب بسيط، وهو أنها ظلت تجريبية وفردية لحد ما. بمعنى أنها لم ترتق إلى مصاف الفكرة النظرية. فالأخيرة هي الوحيدة القادرة على التغلغل في مسام الإحساس والوعي الاجتماعي والوطني والقومي بهيئة بديهيات سياسية كبرى، أو قواعد عملية جلية، أو مبادئ عامة ملزمة، أو مرجعيات فكرية وروحية متسامية. وليس مصادفة أن يتوصل عبد الناصر بعد جهود ومعاناة وتجارب مريرة إلى أن الصيغة المثلى لهذا العمل الايجابي في مصر كانت تقوم في "وضع الدستور ثم مجلس الإنتاج". ووجد في هذا العمل الايجابي تنفيذ مهمة "إزالة الصخور والعقبات من الطريق"[29]، بوصفه الواجب الأكبر. وقد كان ذلك استنتاجا عمليا لا غير. وبالتالي لم يكن بإمكانه أن يكون ضمانة لاستقرار وتراكم الوعي السياسي والاجتماعي الضروري بالنسبة لكينونة الأمم الحديثة.

ولم تختلف الفكرة العربية الناصرية بدورها عن هذه التجريبية البحت. بمعنى أنها تهذبت في مجرى التجارب العملية السياسية. الأمر الذي جعل من الفكرة العربية الناصرية موقفا وليس نظرية لها أسسها ومستقبلها المتراكم في التجارب اللاحقة. إذ من الصعب الحديث عن فكرة عربية قومية بالمعنى الدقيق للكلمة عند جمال عبد الناصر. أنها مجرد موقف سياسي، رغم تغلغله اللاحق في شخصيته بحيث أخذت تتماهى مع كينونته الفردية الباطنية والظاهرية. فقد كانت فكرته بهذا الصدد تتمثل وعيه التاريخي لحقيقة مصر أو موقعها ومكانتها في ما اسماه بالدائرة العربية[30]. ذلك يعني، أن العالم العربي أو القومية العربية بالنسبة له لم تكن كينونة مصر الفعلية[31]. إنها مجرد جزء من دائرة الرؤية العملية المتراكمة في مجرى التأمل الوجداني لتاريخ مصر وموقعها الجغرافي[32]. وقد توصل عبد الناصر إلى هذه النتيجة من نفس المقدمة العامة عن تاريخ مصر عندما قال، بأن "القدر لا يهزل. وليس هناك احداث من صنع الصدفة". وبالتالي، فأن وجود مصر ضمن دائرة عربية هي نتاج التاريخ الذي لا يهزل. فهناك "دائرة عربية تحيط بنا. وأن هذه الدائرة منا ونحن منها. امتزج تاريخنا بتاريخها، وارتبطت مصالحها بمصالحنا"[33]. كما أن "هناك قارة افريقية"، إضافة إلى أن "هناك عالم إسلامي تجمعنا وإياه روابط لا تقر بها العقيدة الدينية فحسب، وإنما تشدها حقائق التاريخ"[34]. غير "أن الدائرة العربية هي أهم هذه الدوائر وأوثقها ارتباطا بنا. أنها امتزجت بنا بالتاريخ، وبالدين وبالجوار" (الجغرافيا)[35]. ووضع هذه المقدمة العامة والظاهرية في صلب استنتاجه العملي بصدد الفكرة القومية العربية، عندما شدد على "أن الفكرة القومية العربية ليست عاطفة". ووجد دليل ذلك في أن "كل حادث يقع في القاهرة يقع مثله في دمشق وبيروت وعمان وبغداد". الأمر الذي يوصلنا إلى "أنها منطقة واحدة" تعمل فيها نفس الظروف، ونفس العوامل، ونفس القوى المتألبة عليها جميعا"[36]. مما جعل من ماضي المنطقة وحالتها المعاصرة ومستقبلها كل واحد. من هنا توصله إلى قناعة "الكفاح الواحد وضرورته"[37]. وإذا كانت هناك عقبات أمامه ينبغي إزالتها، فأن أولى  هذه العقبات هي "الشك" بالنفس. وبالتالي، فأن الكفاح الواحد هو ضمانة الانتصار. وذلك "لأننا أقوياء، ولكن الكارثة الكبرى إننا لا ندرك مدى قوتنا"[38]. أما مصدر هذه القوة فيقوم في "العمل الايجابي"، بمعنى التصرف ايجابيا بكل ما تملك من مقوماتها. ومن بين أهم مصادر هذه القوة ومقوماتها هي ن العرب "مجموعة من الشعوب المتجاورة، المترابطة بكل رباط مادي ومعنوي يمكن أن يربط مجموعة من الشعوب"، وكذلك بأثر موقع "أرضهم نفسها ومكانها على خريطة العالم"، واحتواء العالم العربي على "البترول، الذي هو عصب الحضارة المادية"[39].

من كل ما سبق نستطيع التوصل إلى أن قيمة الاجتهادات النظرية والاستنتاجات العملية التي توصل إليها جمال عيد الناصر بصدد الفكرة القومية العربية كانت تكمن أساسها في طابعها التجريبي، أي أنها لم تخضع إلى معتقدات أولية، لكنها شأن كل تجريبية لا يمكنها أن تثمر أشياء كبيرة، وذلك لأنها أما تجهل التاريخ وتجاربه أو تتجاهله. وكلاهما لا يغفران! وفي هذا كانت تكمن مأساة الناصرية بوصفها تجريبية فردية سياسية أو تجربة وطنية أو "أيديولوجية" قومية. وذلك لأن كل ما وضعه جمال عبد الناصر هنا هو مجرد تعميم مترابط لتجاربه السياسية وتطورها في مواقف عملية أثمرت رؤية وطنية (مصرية) وقومية (عربية) وإسلامية وقارية (افريقية) وعالمية (عدم الانحياز)[40].

ومفارقة الناصرية بهذا الصدد، على الأقل من الناحية السياسية، تقوم في أن انجازها السياسي التقدمي كان يحمل في طياته تدميرا وتخريبا للفكرة المستقبلية نفسها. وذلك لأنها أعطت لكل مغامر إمكانية التنظير والتفلسف، ومن ثم رمي الحصيلة التاريخية للفكر النظري العقلي وجهاده المعنوي ومعاناته العميقة. أنها جعلت من كل عسكري قادر على تعليم وتهذيب أهل العلم والمعرفة وما شابه ذلك[41]. خصوصا إذا آخذنا بنظر الاعتبار الحقيقة القائلة، بأن التجربة الفردية تبقى فردية، أي جزئية وناقصة ومحدودة. كما أنها لا تستطيع رؤية ما يخرج عن حدود تأسيسها المعرفي. ومن الممكن الاكتفاء هنا بالعبارات "المتألمة" التي قالها جمال عبد الناصر نفسه عن موقفه من رجال العلم والمعرفة: لو أن أحدا سأله في تلك الأيام ما هي اعز أمانيه؟ لقال له على الفور: أن يسمع مصريا يقول كلمة إنصاف في حق مصري آخر، وأن يحس أن مصريا قد فتح قلبه للصفح والغفران والحب لإخوانه المصريين. لكنه لم يكن يسمع إلا "أنا"[42]. وان كل منهم هو غاية الوجود ومنتهاه!

لقد كان هذا التقرير للواقع جزء من تجربته الفردية والشخصية. بمعنى انه يحتوي على تعميم مفرط عسكري النزعة من جهة، وانتهاك فض لمعنى الفردية والفردانية، بوصفها الشرط الضروري والصفة الملازمة للإبداع الحر والكبير، من جهة أخرى. والأخير لا يمكنه التلاؤم مع النفسية العسكرية والخضوع لها، أيا كانت شخوصها وحملتها. بينما هي ترى في كل خروج عليها انتفاخا "للأنا" وخيانة للمصالح الكبرى! ما يجعل منها أيضا ممرا للاستبداد وتصنيع قطعان الرذيلة المتنوعة!!

 

ا. د. ميثم الجنابي – مفكر وباحث

........................

[1] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، (ضمن سلسلة، (اخترنا لك..رقم 3)، مصر، دار المعارف، (ب. ت.)، ص9.

[2] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص42

[3] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص43.

[4] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص42

[5] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص43

[6] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص43

[7] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص44

[8] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص45

[9]  نعثر في هذا الوقف من أسرة محمد علي باشا وأثرها بالنسبة لمصر على نفس الصيغة التي توسع فها الشيخ محمد عبده. بمعنى نقده الشديد لتراث المماليك الأتراك والعثمانيين واعتبارها اشد القوى تخريبا في تاريخ مصر. ومن ثم لم تكن "إصلاحات" محمد علي باشا أكثر من تقليد أجوف، كما أنها ظلت مغتربة عن حياة مصر والمصريين.

[10] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص45

[11] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص46-47

[12] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص50

[13] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص12

[14] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص13

[15]  جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص10-11.

[16] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص17

[17] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص19

[18] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص19

[19] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص20

[20] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص20

[21] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص25

[22] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص20-21

[23] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص21

[24] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص25-26

[25] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص26

[26] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص26

[27] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص33.

[28] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص35-36

[29] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص53

[30] وجدت هذه الرؤية سبيلها إلى فكرة "الدائرة الإفريقية" المبنية على ما اسماه جمال عبد الناصر بوحدة المصالح ونهر النيل، و"الدائرة الإسلامية" المبنية على أساس التاريخ والعقيدة والمصالح.

[31]  لا تقلل هذه الرؤية من صدق الفكرة العربية القومية عند جمال عبد الناصر ولا من إخلاصه لها، كما لا يجعل منها مستوى اقل أو أضعف من غيرها. لقد كانت الناصرية مجرد جزء من أجزاء الكلّ العربي المشتت. بمعنى أنها حاولت أن تنطلق من الجزء إلى الكل، ومن الخاص إلى العام. وبالتالي، فإنها تشبه من حيث حوافزها ورؤيتها السياسية ومنهجها المجرد ما كان يدعو إليه انطون سعادة. مع الأخذ بفارق التأسيس النظري. فقد كانت نظرية سعادة أكثر تأسيسا واشد تحكيما وأدق تعبيرا وأكثر تجانسا. أما بالنسبة لعبد الناصر، فقد كانت فكرته جزء من تجربة عملية لا تخلو من أبعاد نظرية مهمة في ما يتعلق بإدراك الكينونة الفعلية للقومية العربية. أنها تعكس الحالة الطبيعية لما ادعوه بالمناطق الثقافية الكبرى للقومية العربية، التي جعلت من مصر (وبلاد النوبة) احد نماذجها التاريخية إلى جانب المشرق العربي، والمغرب العربي، وشبه الجزيرة العربية.

[32]  للفكرة الجغرافية اغواءها وإغراءها الخاص بالنسبة للتأويل والتفسير. مع أنها لا تخلو من أهمية مستقلة. غير أن وضع علامة مساواة بين التاريخ والجغرافيا هو مجرد القول بحصيلة حاصل. إنهما مترابطان ولكن ضمن جوهرية التاريخ وعرضية الجغرافيا. فالجغرافيا لا تصنع تاريخا، بل التاريخ هو صانع الجغرافيا الفعلية للأمم. إن جغرافيا شبه الجزيرة العربية (مكة) صخور ووديان وشعاب لا تخلو من قوة وجمال، لكن التاريخ العربي الإسلامي، أي تاريخ الفكرة والروح المتسامي هو الذي جعل منها "مكانا مقدسا"، أي جغرافيا التوجه الطبيعي والماوراطبيعي للأفراد والجماعات والأمم.

[33] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص62

[34] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص63

[35] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص62

[36] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص69

[37] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص73

[38] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص74

[39] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص75

[40]  وقد يكون موقفه من القدوم على الأعمال نموذجا حيا بهذا الصدد. إذ نعثر عنده على العبارات التالية: "لا معنى لتكرار شعارات الماضي، لأنها لا تفعل. والمهمة تقوم في إدراك حقيقة الظروف التي نواجهها وقدرتنا على الحركة السريعة. والتحرر من آثار الألفاظ البراقة، والقدوم على ما نتصوره واجبا، مهما كان الثمن. ولا معنى للخوف من "إغضاب الناس جميعهم". إذ "ليس غضب الناس هو العامل المؤثر في الموقف". وذلك لأن السؤال الجوهري يقوم في ما يلي:"هل الذي أغضبهم يعمل لصالح الوطن إو لغيره"؟ إننا أغضبنا كبار الملاك والساسة القدماء وكثيرا من الموظفين (أي كل تلك الشرائح التي جعلت الوطن فريسة لشهواتهم وصراعهم على المغانم"[40].

[41]  لقد كشف مسار الحياة السياسية للعالم العربي بعد انقلاب يوليو المصري عن "مرجعيته" الخربة بهذا الصدد. فقد أّثر من حيث صورته وأسلوبه على تلميع مظهر "الانقلابات لعسكرية" عبر تحويلها إلى "ثورات تاريخية" لم تنتج مع مرور الزمن غير نماذج فجة للاستبداد والدكتاتورية، كما هو جلي في سوريا والعراق وليبيا، أي في كل تلك البلدان التي جعلت من القومية العربية شعارها المطلق ومن عملها الداخلي انتهاكا شاملا لمعنى القومية ومتطلباتها وغاياتها.

[42] جمال عبد الناصر: فلسفة الثورة، ص22-23.

 

 

في المثقف اليوم