أقلام فكرية

الاستدلالات المنطقية في طوبيقا شيشرون (1)

محمود محمد عليكان الباحثون يعتقدون حتى وقت قريب، أن المنطق الرواقي ليس شيئا آخر سوي تقليد ممسوح أو محاكاة مشوهة لمنطق أرسطو، وكانت هذه الوجهة من النظرة سائدة حتى القرن التاسع عشر عند كبار مؤرخي الفلسفة، من أمثال " زيلر " Zeller الذي كتب في تأريخه للفلسفة اليونانية، قائلا : " إن الرواقيين لم يقدموا شيئا في المنطق، سوي صياغة مصطلحات جديدة للمنطق الأرسطي " ؛ ونفس الشئ ذهب إليه كبار مؤرخي المنطق، من أمثال " ج، برانتل " G،Prantl   الذي كتب في الجزء الأول من كتابه " تاريخ المنطق في الغرب " يؤكد هذا المعني، وفي أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، جاء الفيلسوف الفرنسي "بروشار" Brochard ليعلن عكس ذلك ؛ موضحا مدي أصالة واستقلال المنطق الرواقي عن المنطق الأرسطي، ولقد أخذ بهذا الرأي معظم الباحثين المعاصرين، فنجد " الدكتور  محمود فهمي زيدان " في كتابه" المنطق الرمزي نشأته وتطوره"، حين أراد أن يبرز إسهامات الرواقيين في مجال المنطق، قال : " أن للرواقيين إضافات منطقية عديدة، منها : أنهم أول من خططوا بداية مذهب الاستدلالات الشرطية، فبحثوا في القضايا الشرطية المتصلة بنوعيها، كما صاغوا لأول مرة القضايا الشرطية المنفصلة بنوعيها، ووضعوا قواعد صدقها وكذبها، كما طوروا استخدام الرموز فوضعوا رموز للمتغيرات كعناصر للقضايا، كما عرفوا عددا كبيرا من الثوابت المنطقية، ولم يقتصروا علي ثابت التضمن (اللزوم) فقط، ووضعوا تعريفاتها، ولكنهم لم يضعوا لتلك الثوابت رموزا، كما أدت دراستهم للثوابت إلي دراسة القضايا المركبة وقواعد صدقها وكذبها ؛ كما أضافوا أثرا آخر حين انبثقت عنهم أول بادرة لتصور المنطق نسقا استنباطيا ؛ وذلك بأن وضعوا بعد التعريفات قضايا أولية لا تقبل البرهان، وأمكنهم بفضلها استنباط قضايا أخرى، وفي هذا الصدد يمكن القول بأنهم فتحوا الطريق أمام المحدثين لإقامة حساب القضايا "،

وهذه الإضافات التي أضافها الرواقيون لتاريخ المنطق، إذا نظرنا إليها من الناحية التاريخية، نجد أنها قد انبثقت علي يد رجال المدرسة الرواقية الأولي، وخاصة علي يد " كريسبوس " Chryissups ( 282-204 ق، م ) خلال القرن الثالث قبل الميلاد، أما في القرنين الثاني والأول قبل الميلاد، فقد ضعف الفكر المنطقي الرواقي، ولم تعد هناك أفكارا منطقية جديدة ؛ وذلك نتيجة ظاهرة يؤسف لها في تاريخ المنطق وهي علي حد تعبير " بوشنسكي " Bochensi  " التنافس الشديد بين المدرستين المشائية والرواقية "،

ونتيجة لهذا التناقض لم يكن هناك في البداية تعاون في مجال البحث المنطقي بين المشائيين والرواقيين، إذ أنه في حين أن المشائيين قصروا اهتمامهم علي دراسة القياس الحملي ؛ فإن الرواقيين لم ينظروا إلي ما يتعدى المخططات الاستدلالية التي يمكن استنباطها من لا مبرهنات " كريسبوس "، ولهذا أهمل الرواقيين تماما نظريتي الحمل المنطقي والفئـات،

إلا أن هذا الموقف لم يستمر طويلا، إذا سرعان ما حدث شيئا فشيئا اندماج أو ربما خلط بين أفكار المدرستين، ولهذا أصبحت الحركة التوفيقية أكثر وضوحا نتيجة لهذا المزج الذي سيطرت عليه في النهاية المدرسة المشائية،

وقد شاءت الأقدار أن تكون أول محاولة لتطبيق عملية المزج بين أفكار المشائية الرواقية علي يد " ماركوس تيلليوس شيشرون " Marcus Tullius Cicero  (المفكر الروماني التوفيقي الذي أراد تثقيف مواطنية بعلوم اليونان وفلسفتهم إبان القرن الأول قبل الميلاد،

وقد جاءت هذه المحاولة في رسالة صغيرة له بعنوان " الطوبيقا " Topica، وقد دونها شيشرون تحت طلب صديقه الفقيه " تريباتيوس " Trebatius ؛ لكي يشرح له كيفية الاستفادة من طوبيقا أرسطو في استخلاص الأحكام القانونية،

وقد ذهب بعض الباحثين من أمثال " وليم نيل " إلي أن " طوبيقا شيشرون " لا ترجع أهميتها إلي ما فيها من أصالة وجدة في تطور المنطق، بقدر ما هي إلا تجميعا واضحا لتعاليم المنطق اليوناني " ؛ ومع ذلك فقد كان لها فضل لا يمكن إنكاره، وهو كما يقول " جورج سباين " ، " إقبال الناس علي قراءة كتبه والإحاطة بما تضمنته، فكان مجرد فكرة لشيشرون كفيلا بأن يخلدها علي مدي الزمن "،

وبغض النظر عن الأهمية التي أعطاها الباحثون لطوبيقا شيشرون، فإن لهذا المؤلف ، في ذاته أهمية خاصة لسببين رئيسين :

السبب الأول : هو كونه أول محاولة وضعت في علم مناهج   البحث، هذا إذا وافقنا علي أن مناهج البحث، هي تطبيق لمبادئ المنطق في العلوم المختلفة، وشيشرون نفسه يعلن عن هذه الحقيقة في بداية رسالته، حين يلفت نظر القارئ إلي استخدامات صديقه الفقيه " تريباتيوس "، وعلي هذا فإن الأمثلة التي استخدمها شيشرون قد استقاها من القانون الروماني،

السبب الثاني : هو أن هذه الرسالة تعتبر الأولي من نوعها، والتي خلط فيها صاحبها ومزج بين منطق أرسطو ومنطق الرواقيين ؛ علي أن هذا المزج بين المنطقين من شأنه أن يستمر عند عدد قليل من المفكرين في الشرق والغرب خلال العصور الوسطي،

ومن ناحية أخرى، إذا كان شيشرون قد اعتبر رسالته عن الطوبيقا بمثابة تهذيب لطوبيقا أرسطو، إلا أن الدارس لرسالة شيشرون سرعان ما يكتشف أن ما أخذه شيشرون عن أرسطو، هو أمر لا يكاد يذكر بجوار ما أخذه شيشرون عن المنطق الرواقي، لدرجة جاءت فيها الرسالة رواقية سواء في روحها أو نصها،

ولعل السبب في ذلك يرجع إلي طبيعة التفكير الفلسفي عند شيشرون، فقد كانت نزعته الفلسفية مطبوعة بالفلسفة الرواقية التي جاء بها " بنائتيوس الرودسي " Panaotius of Rhodes، ونقلت إلي " الدائرة السبيونية " المتمثلة في مجموعة الفقهاء الذين أخذوا علي عاتقهم القيام بالدراسات الأولي في التشريع الروماني، والواقع أن كل ما عرف عن هذه الفلسفة كما قامت في مستهل القرن الأول قبل الميلاد، إنما عرف عن طـريق شيشـرون،

ولهذا جاءت طوبيقا شيشرون لتحافظ علي التعاليم المنطقية للرواقية من خلال صياغة الأفكار المنطقية في طوبيقا أرسطو، ويمكننا توضيح ذلك من خلال عرض الرسالة، والتي يمكن حصرها في الموضوعات الرئيسية الآتية :

أ- دراسة لبعض الحجج العامة والتي عرضها أرسطو في الطوبيقا، وقد أخذت هذه الحجج طابعا رواقيا، مثال ذلك الحجج التي ذكرها أرسطو، والتي يمكن أن نستخلصها من الجنس Genus  والنوع Species والمتشابه Similarity والمختلف Difference والمتضادات Contraries والمتناقضات Controductions والمقدمات Antecedents والتوالي Consquents والعلة Cause والمعلول Effect،،،،،،، الخ،

ب- دراسة لمختلف أشكال الاستدلالات الرواقية،

ج - عرض لسيمانطيقا الرواقيين الخاصة بأصل المصطلحات ومعناها وكيفية الاشتقاق اللغوي،

ونكتفي هنا في هذا المقال بدراسة الاستدلالات المنطقية كما عرضها شيشرون ؛ حيث نقوم بتصنيفها مع بيان الكيفية التي طبق بها شيشرون منطق أرسطو في ميدان القانون من جانب، وعلي أن الحجج العامة التي ذكرها أرسطو في كتاب الطوبيقا قد أخذت عنه طابعا رواقيا، ثم بيان أثرها بعد ذلك علي المفكرين في الشرق والغرب خلال العصور الوسطي، وسيكون منهجنا في ذلك هو المنهج التحليلي المقارن الذي يعتمد علي تحليل النصوص تحليلا دقيقا واستنباط واستخلاص كل ما تشمله من آراء وأفكار مع المقارنة بين هذه الفكرة وغيرها قديما وحديثا، وقد نضطر في أحيان أخرى إلي اللجوء إلي استخدام المنهج التاريخي بالقدر الذي يفي بسرد نفس الظاهرة المنطقية كما في طوبيقا شيشرون علي بعض المناطقة خلال العصور الوسطي،

لقد حاول شيشرون أن يصنف الاستدلالات الرواقية تصنيفا جديدا، وهذه الاستدلالات تتكون من سبع قواعد، يقول عنها : " أنها كافية لاشتقاق عدد لا يحصي من القواعد تسمي مواضيع ؛ وهذه القواعد كما يذكر " وليم نيل " أن خمس منها ترجع إلي " لا مبرهنات كريسبوس " دون أن يذكر شيشرون اسمه مضيفا إليها قاعدتين أخريين، ربما يكون قد نقلها عن متأخري الرواقية "،

وهذه القواعد صاغها شيشرون علي النحو التالي،

1- إذا كان هذا صادقا، كان ذاك صادقا ؛ ولكن هذا صادقا ؛ إذن ذاك صادقا،

2- إذا كان هذا صادقاً، كان ذاك صادقاً ؛ ولكن ذاك ليس صادقاً ؛ إذن هذا ليس صادقاً،

3- ليس كل من هذا وليس ذاك صادقاً معاً، ولكن هذا صادقاً، إذن ذاك صادقاً،

4- إما هذا أو ذاك صادقاً ؛ ولكن هذا صادقاً، إذن ليس ذاك صادقاً،

5- إما هذا أو ذاك صادقاً ؛ ولكن ليس هذا صادقاً، إذن ذاك صادقاً،

6- ليس كل من هذا أو ذاك صادقاً معاً، ولكن هذا ليس صادقاً، إذن ذاك   صادقاً،

7- ليس كل من لا هذا ولا ذاك صادقاً معاً، ولكن هذا ليس صادقاً، إذن ذاك صادقاً،

وهنا نلاحظ أن شيشرون، قد وضع نسقا مكونا من سبع استدلالات، أربعة منها تبدأ بقضايا مثبته، وثلاثة منها تبدأ بقضايا منفية، مما يدل علي اهتمام شيشرون علي عكس الرواقية الأولي بفكرتي الوصل والنفي، حيث تعبر القاعدتان الأولي والثانية عن القياس الشرطي المتصل بنوعيه، والقاعدتان الرابعة والخامسة تعبران عن القياس الشرطي المنفصل بنوعيه، أما القاعدة الثالثة والقاعدة السادسة والقاعدة السابعة، فإنها تعبر عن استخدام منطقي جديد، ويعبر عنه بالكلمات " ليس كلاهما معا "، وسوف يتجاهل المناطقة هذا الثابت إلي أن يبعثه أصحاب المنطق الرمزي الحديث

ولم يكتف شيشرون بتصنيف تلك الاستدلالات ؛ بل تكلم عن نوع آخر من الاستدلالات الشرطية ذات المقدمة الإضافية، وهذه المقدمة الشرطية قصد بها ما يسمي بقياس الإحراج،

هذا هو تصنيف شيشرون للاستدلالات المنطقية عند الرواقيين، وهو في هذا لا يضيف جديدا، أما الجديد الذي يضيفه شيشرون، فهو تطبيق تلك الاستدلالات المنطقية من خلال القانون الروماني وذلك بإعطاء أمثلة مستمدة من ذلك القانون، حيث يصوغها شيشرون في صورة منطقية ذكرها أرسطو في الطوبيقا، وقد أخذت عند شيشرون طابعا رواقيا .. وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو  مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

 

في المثقف اليوم