أقلام فكرية

مدلولات مصطلح "ما بعد" في الفكر الفلسفي

تقديم: إن المتأمل في مصطلح (ما بعد) سيتوقف من دون شك متسائلا عن مدلول "ما بعد" والسؤال المطروح بشأنها هل ال"ما بعد" مؤشر تاريخي أم نظري؟ كما يتساءل تيري إيغليتون[i] بمعنى هل يرجع ذلك إلى مسألة تاريخية أم مسألة ثقافية؟ هل يشير ال"مابعد" بداية إلى قطيعة ودعوة إلى التجاوز أم إلى استمرارية ودعوة إلى التواصل؟ ثم هل هي قطيعة كلية أم جزئية؟ في كلتا الحالتين لماذا التمسك إذن اللفظ القديم؟ وإن كان التجديد هو الغرض فلماذا لا يكون ابتداء المصطلح ذاته؟ أليس من الأجدر أن يكون الحديث صورة منطقية عن (ما قبل) مثلما هو متداول في "ما بعد"؟ أو على الأقل مثلما اقترح بعضهم تقسيم الحداثة إلى حداثة أولية وأخرى متأخرة[ii] عوض الحديث عن ما بعد الحداثة.

وإذا كانت ما بعد الحداثة ليست مرحلة متأخرة أو متقدمة للحداثة، فإنها مع ذلك لا تنفصل عن الحداثة وإنما تنشأ "في نفس الحداثة التي تسعى إلى تعويض دعائمها"[iii]، يرى جيمسين أن مفهوم ما بعد الحداثة:"ليس مجرد كلمة تصنف أسلوبا خاصا، فهو مفهوم زمني وظيفته الربط بين ظهور خصائص شكلية جديدة في الثقافة وبين ظهور نمط جديد في الحياة الاجتماعية، ونظام اقتصادي جديد"[iv]. من خلال هذا التصور يكون معنى (ما بعد) منحصرا في إحدى الدلالتين الزمان والأسلوب.

قد لا يكون لهذه البادئة "ما بعد" كل هذا الزخم إذا أخذنا في الحسبان جميع الكلمات التي يضاف إليها "ما بعد" ليعطي لها مدلول آخر يستمد ويقرأ من رحم دلالة اللفظ المراد من دون بادئة "ما بعد". إن إضافة ما عد مثلا لمصطلحات معينة بدا وكأنه موضة لوصف الاتجاهات الحديثة جدا أو المذاهب والمناهج التي تحث عن التحيين واصطلاح الواجهة ومن هنا كثير استخدام عبارات ما بعد: (posthistoire) ما بعد التاريخ (postindustriel) ما بعد الصناعي (post-bourgeois) ما بعد البورجوازي (post-capitalisme) ما بعد الرأسمالية (post-marxisme) ما عد الماركسية (poststructuralisme) ما بعد البنيوية (postmodernité) ما بعد الحداثة ولم تسلم موجة المابعد من التصورات والاتجاهات الفلسفية: post-analytique philosophie ما بعد الفلسفة التحليلية.

وربما كانت الإضافة في استعمال بادئة "ما بعد" لبعض الاتجاهات والحركات الفلسفية دليلا وإشارة إلى التململ والانزعاج من استخدام مفرط اتخذ شكل الموضة لمصطلح ما بعد الحداثة الشيء الذي أفقده كل معنى أصيل ومحدد وباتت الاستعاضة بادئة "ما بعد" مضاف إليها المصطلح المرغوب مثلما جسده (روتي ريتشارد) حينما استبدل تعبير ما بعد الحداثيين (postmodernes) بما بعد النيتشويين  (post-nietzschéen) على الرغم من كونه منتسبا للفريق ما عد الحداثي وهو في هذا شبيه أمبرتو إيكو (Umberto Ecco) الذي يمقت تسمية ما بعد الحداثة على الرغم من اعتبار أعماله ما بعد حداثية بامتياز.

إن بادئة "ما بعد" ليست مجرد كلمة تضاف إلى أخرى موجودة بقدر ما هي لفظة محورية تتحدد من خلالها الكلمة اللاحقة، وسواء كتبت بارتباط معها أو بانفصال عنها وسواء كتبتت في اللغات الأجنبية بحرف كبير (Post) أو بحرف صغير (post)، ومثلما يقول (هابرماس):"ما بعد post ليست فقط إنذارات انتهازية تشتم ربح العصر، بل يجب أخذها بجدية والنظر إليها على أنها مقياس زلزال عقل الزمن"[v]

أ- ما بعد الحداثة: عندما بدأ مصطلح ما بعد الحداثة post modernité أو post modernisme[vi] في الانتشار والذيوع بدءا من استخداماته الأولى في الثلاثينيات في القرن العشرين لم تكن معاينة ودلالاته محددة وواضحة فضلا عن تعدد القراءات المقدمة من قل المفكرين والمثقفين الذين بادروا في استعماله في مجالات عديدة في التاريخ والحضارة إلى الفلسفة وعلم الاجتماع مرورا بالفنون والهندسة والنقد الأدبي، غير أنه ومنذ أن نشر المفكر الفرنسي جون فرانسوا ليوطار J.F.LYOTARD لكتابه المعنون الشرط ما بعد الحداثي. La condition post moderne والذي أصح منذ ذلك الوقت مرجعا ونموذجا في الكتابات ما بعد حداثية، على مستوى آخر يقترن معنى الحداثة بكتاب ليوطار السالف ذكره سنة 1979، فقد أقر سقوط النظريات الكبرى التي تحاول تقديم تفسير شمولي للمجتمع وتتخذ شكل أنساق فكرية مختلفة ومنظورات من أبرز نماذجها، الإيديولوجيات الكبرى، كما أقر بنهاية فكرة الحتمية سواء في العلوم الطبيعية أو في التاريخ الإنساني، فليست هناك حتمية في التطور التاريخي من مرحلة إلى أخرى، بل إن هذا التاريخ يظل منفتحا على احتمالات عديدة[vii].

لقد شهد كتاب ليوطار انتقادات عنيفة من طرف منظري الحداثة وعلى رأسهم هابرماس هذا الأخير الذي صنف في مؤلفه "الخطاب الفلسفي للحداثة" تيار ما بعد الحداثة إلى صنفين وهما: الاتجاه المحافظ الجديد والاتجاه الفوضوي، معتبرا أنه مهما كان الاختلاف ين هاتين الصيغتين فإنهما معا  قد انشقتا عن الأفق المقولي horizon catégorial الذي شكلته الحداثة نفسها، لذلك فإن الأمر لا يعدو كونه نقدا ذاتيا تقوم به هذه الأخيرة، مما يؤكد على حيويتها واستمراريتها.

وقد عرف مفهوم ما بعد الحداثة أول الأمر في الولايات المتحدة الأمريكية وتم استخدامه من طرف السوسيولوجيين والنقاد. وفي هذا الإطار ظهر المؤلف الرائد للمفكر المصري الأصل –الأمريكي الجنسية- إيهاب حسن وعنوانه "التحول ما بعد الحداثي، مقالات في نظرية وثقافة ما بعد الحداثة"[viii]

فقد وضع هذا المفكر تخوما محددة بين الحداثة وما بعد الحداثة، وذلك عبر إبراز مجموعة من التقابلات بين الخصائص المميزة لكل طرف فالحداثة مثلا قامت على التمركز العقلي والإبداع والحضور والهرمية والعمق والكليانية والتصميم والأصل أو السبب والميتافيزيقا، في حين قامت ما بعد الحداثة على التشتت واللاابداع والغياب والفوضى والسطح والتفكك والصدفة والاختلاف والمفارقة.[ix]

ب-ما بعد البنيوية: انبثقت كتيار فلسفي مثله بالخصوص ميشال فوكو، جاك دريدا، جيل دولوز، جان فرانسوا ليوطار، أو بعبارة أخرى الذين اصطلح عليهم بـ"جيل الاختلاف"[x] فهؤلاء الفلاسفة استندوا إلى الميراث الفلسفي النيتشوي المتشكك في القيم المتوازنة وفي المعايير التي انبثقت مع المجتمعات الأوروبية الحديثة كما استندوا إلى مناهج حديثة في تحليلهم للمجتمع الغربي ومنها على الخصوص المنهج البنيوي والمنهج التفكيكي، يضاف إلى هذه الأدوات المنهجية، التطورات الحاصلة في العلوم الإنسانية ومنها الأنتروولوجيا والتحليل النفسي والدراسات اللغوية والتي استغلها هؤلاء المثقفون في قراءاتهم الخاصة التي أبرزت توجهات تتشابه إلى حد كبير في بعض ملامحها مع ما بعد الحداثة، فعبارة ما بعد البنيوية وإن دلت على حقبة تالية للبنيوية تعلن فيها عن موتها فإنها بالمقابل تشير إلى توجهات ما بعد حداثية.

وقد يستخدم المصطلح أحيانا post structuralisme بالتناوب وبنفس معنى التفكيكية déconstruction، ويقسم ريتشر هارلاند (harland 1987) ما بعد البنيوية إلى ثلاث فئات، تضم الأولى مجموعة مجلة tel quel الفرنسية وهم جاك دريدا، وجوليا كريستيفا julia kristiva وكتابات رولان بارن الأخيرة، وتضم الثانية جيل ديلوز gilles deleuze وفيليكس جاتاري (felix guattari) وكتبات ميشال فوكو الأخيرة وتضم الثالثة فردا واحدا هو جان بودريار (jean baudrillard) ولا يزال الجدل محتدما حول جاك لاكان lacan إذا كان من البنيويين أومن أنصار ما بعد البنيوية.[xi]

إن لنظرية ما بعد الحداثة إيجابيات وسلبيات كباقي الظواهر والنظريات الثقافية وباقي المناهج الأدبية، ومن إيجابيات (ما بعد الحداثة) أنها حركة تحررية تهدف إلى تحرير الإنسان من عالم الأوهام والأساطير وتخليصه من هيمنة الميثولوجيا البيضاء.

كما تعمل فلسفات ما بعد الحداثة على تقويض المقولات المركزية للفكر الغربي، وإعادة النظر في يقينياتها الثابتة، وذلك عن طريق التقويض والتشكيك والتشتيت والتشريح والهدم.

والهدف من ذلك هو بناء قيم جديدة، كما حاربت من جهة أخرى ثقافة النخبة والمركز، فاهتمت بالهامش والثقافة الشعبية.[xii]

كما آمنت نظرية ما بعد الحداثة بالتعددية والاختلاف وتعدد الهويات، وأعادت الاعتبار للسياق والإحالة والمؤلف والمتلقي كما هو حال الهيرمينوطيقا وجمالية التلقي، واهتمت كذلك بالتناص، وعملت على إلغاء التحيزات الهرمية والطبقية، واحتفت بالضحك والسخرية والقبح، والمفارقة والغرابة، واستسلمت للغة التشظي والتفكك واللانظام.[xiii]

بيد أن من أهم سلبياتها –ما بعد الحداثة- اعتمادها على فكرة التقويض والهدم والفوضى، فمن الصعب تطبيق تصورات "ما بعد الحداثة" واقعيا لغرابتها وشذوذها، وبذلك استهلكت قدراتها الإستراتيجية الفعالة في إبراز التحيزات المجحفة دون أن يكون لها موقف أخلاقي أو سياسي أو اجتماعي.

ومن عيوبها الخطيرة كذلك أنها تجعل من الإنسان كائنا عبثيا فوضويا لا قيمة له في هذا الكون المغيب، يعيش حياة الغرابة والشذوذ والسخرية والمفارقة، ويتفكك أنطولوجيا في هذا العالم الضائع بدوره تشظيا وضآلة وانهيارا وتشتيتا.

أهم نظريات ما بعد الحداثة:

ثمة مجموعة من النظريات الأدبية والنقدية والثقافية التي رافقت مرحلة ما بعد الحداثة، وذلك ما بين سنوات السبعين والتسعين من القرن العشرين، وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى التأويلية، ونظرية التلقي، والنظرية التفكيكية، والنظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ونظرية النقد الثقافي، والنظرية الجنسية، والنظرية التاريخانية الجديدة، والنظرية العرقية، والنظرية النسوية، والنظرية الجمالية الجديدة، ونظرية ما بعد الاستعمار، ونظرية الخطاب (ميشل فوكو) ،وفي هذه التخوم المعرفية نحاول تسليط الضوء على إحدى أبرز هذه النظريات والإيديولوجيات الجديدة هي النظرية ما بعد الاستعمارية أو ما بعد الكولونيالية، ونسلط الضوء بدورنا على الروائي والأديب محمد ديب الذي نشأ في ظل هذه الإيديولوجية وما سبقها من مرحلة كولونيالية، من أجل استنباط مدى تأثر الروائي والأديب بهذه النظرية وتجلياتها في خطابه الأدبي.

 

أ. أحمد دحماني

......................

[i] - ينظر أوهام ما بعد الحداثة تيري إيغليتون تر: منى سلام أكاديمية الفنون (د.ت) (دط)

(the illusions of postmodernisme) terry eag leton

[ii] - هذا رأي لويس ديبري louis dupre في مقال له بعنوان ما بعد حداثة أم حداثة متأخرة (postmodernité or modernité tardive)

[iii] - فريدريك جميس (ما بعد الحداثة والمجتمع الاستهلاكي) ص256.ضمن الحداثة و ما بعد الحداثة، تقديم بيتر بروكر ،تر: عبد الوهاب علوب، منشورات المجمع الثقافي أبوظبي ،ط1، 1995

[iv] -نفسه، ص256.

[v] -Jutgen Habermas, la pensée post métaphysique ; essais philosophique, traduit de l’allemand par rainer rochlitz, paris, Armand colin 1993, p10.نقلا عن الحداثة و ما بعدها في فلسفة ريتشارد روتي،أطروحة دكتوراه فلسفة لمحمد جديدي جامعة منتوري قسنطينة2006،ص126

[vi] - كما هو الشأن في مصطلح الحداثة modernité أو  modernisme وأشكال ترجمتها إلى العربية الحداثة أو الحداثية، العصرية أو العصرانية فغالبا ما يحدث نفس الشيء مع post modernité و post modernisme نجد لفظ ما بعد الحداثة يدل على الكلمتين معا وقد أشار تيري إيغليتون إلى أن ما بعد الحداثة post modernité يشير إلى مرحلة تاريخية مخصوصة ما عد الحداثية post modernisme فيشير بصورة عامة إلى شكل من أشكال الثقافة المعاصرة مع أنه  يصرح بعدم مراعاته لهذا التمييز في استخدامه للمصطلحين. ينظر تيري إيغليتون، أوهام ما بعد الحداثة ص07.

[vii] - Jean-François Lyotard, la condition post moderne نقلا عن عز الدين الخطابي: أسئلة الحداثة ورهاناتها، منشورات الاختلاف ط1، 1430/2009، ص29.

[viii] - ihab hassan, the post modern turn نقلا عن عز الدين الخطابي أسئلة الحداثة ورهاناتها، ص30.

[ix] - ينظر عز الدين الخطابي نفسه، ص30-31.

[x] - ينظر تفصيلا أكثر: جون ستروك: البنيوية وما بعدها من ليفي شترواس إلى دريدا، تر: محمد عصفور سلسلة عالم المعرفة، الكويت، فبراير 1996.

[xi] - محمد عناني المصطلحات الأدبية لحديثة دراسة ومعجم انجليزي عربي، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، ط3، سنة 2003، ص75.

[xii] -ينظر، جميل حمداوي نظريات النقد الأدبي في مرحلة ما بعد الحداثة شبكة الألوكة، ص28.

[xiii] - ينظر سعد البازعي وميجان الرويلي: دليل الناقد الأدبي المركز الثقافي العربي بيروت لبنان، ط2، 2000، ص183.

 

 

في المثقف اليوم