أقلام فكرية

الأورجانون الأرسطي.. أول كتاب علم البشرية التفكير العلمي! (2)

محمود محمد علينعود ونكمل حديثنا عن الأورجانون الأرسطي، وكيف يعد هذا الكتاب أول كتاب علم البشرية التفكير العلمي!، وفي هذا المقال نود ان نتساءل: والسؤال الآن كيف انتقل الأورجانون الأرسطي إلى العرب؟

وهنا يمكن القول: حين انطلق العرب من شبه جزيرتهم بعد موت النبي -صلى الله عليه وسلم-عام 532م، كانت المناطق الآهلة بالمسيحيين الناطقين بالسريانية في الشام –العراق من بين أولى ممتلكاتهم. وقد كانت هذه المناطق هي التي انتقلت إليها التعاليم الهلينية للإسكندرية على يد الطوائف المسيحية المتعددة (اليعاقبة، والنساطرة أساسا).. واستمر المسيحيون السوريون في رعاية الآثار المتبقية من التعاليم اليونانية، من خلالهم أصبح العرب بحق الفتح ورثة هذا التراث. وقد وجهت الطوائف المسيحية الناطقة بالسريانية عنايتها إلى مؤلفي الرياضيات، والفلك، والطب، من اليونان، كما وجهت عنايتها بالمثل إلى الفلاسفة اليونانيين. وكانت هذه الفروع من التعاليم مرتبطة ارتباطا وثيقا بالدراسات اللاهوتية، ذلك لأن العلم، والفلسفة، اليونانيين، قد قدما التعليل التصوري العقلي؛ حيث وجدت فيه لاهوت هذه الكنائس صياغته الواضحة. وكان الطب علي وجه الخصوص بمثابة جسر بين العلوم واللاهوت، وكان كثير من اللاهوتيين المسيحيين السريان قد تم إعدادهم علي أنهم أطباء بدن وأطباء روح بالمثل، وقد كان المنطق هنا جزءا لا يتجزأ من منهاج تعليم الدراسات الطبية، كما كان سائدا في الإسكندرية، بنفس الطريقة التي أوصى بها جالينوس ” (129- 200م )، وكانت كتب ارسطو معروفة في الترجمات السريانية، وكانت معها تعليقات وتلخيصات، ألف بعضها بالسريانية، وترجم بعضها الآخر من الإغريقية. ولكن المادة الارسطوطاليسية كانت محصورة في مبدأ الأمر في المؤلفات المنطقية.

وكان نقل المنطق اليوناني إلي العرب هو العمل الذي اضطلع به مسيحيو سوريا – العراق الناطقون بالسريانية، والنساطرة علي وجه الخصوص. وكان هذا النقل مشبعا بالتصورات والتفسيرات التي أخذها الباحثون السريان من الإسكندرية. وقد بقي هؤلاء الباحثون على قدر طيب من المعرفة باللغة اليونانية والفكر اليوناني في العالم الإسلامي إبان القرن التاسع عشر. وقد انتقل قدر لا بأس به من التراث النسطوري للمعارف اليونانية من الإسكندرية إلى بغداد خلال أكاديمية جند يسابور.

وقد قسمت الأكاديميات النسطورية كما ذهب بعض المستشرقين منهاجها التعليمي إلى جزأين: 1- برنامج تمهيدي، وهو إعداد لـ 2- دراسة أكثر تقدما في مجال أو أكثر من مجالات التخصص: الفلك، والطب، واللاهوت. وعلي سبيل المثال، فإن الأكاديمية النسطورية في جنديسابور (حوالي 100 ميل من شرقي بغداد ) كان لها كلية للطب (ملحق بها مستشفي)، كلية للفلك (ملحق بها مرصد). أما في الرياضيات فقد كان المنطق موضوعا أساسيًا في البرنامج الإعدادي، علي ذلك يكون المنطق قد أدى دورا مهمًا بوصفه جسرا مشتركًا يربط بين الفروع المتعددة للتعليم ”.

ومن جهة أخرى فإن اتصال العرب بالأفكار الأجنبية لم يكن ضرورة فحسب، بل كان أيضا أمراً واقعًاً، يتمثل في ما كان يحدث من لقاءات ومناظرات بين علماء المسلمين وغيرهم؛ وبخاصة علماء اللاهوت المسيحي الذين كانوا ينتشرون في أديرتهم في الشام، والعراق، وأطراف شبه الجزيرة يدرسون الثقافة اليونانية، وفي مقدمتها منطق ارسطو بلغتهم السريانية حينًا، وبلغتها الأصلية حينا آخر؛ ويقول “أوليري”:” ومن هذا يبدو واضحا أن الفتح العربي لم يوقف الدراسات الأرسطوطاليسية، ولم يتدخل في شئونها، فبقيت الكنيسة النسطورية تحت الحكم العربي ”، وفي تاريخ ابن عساكر مناظرة بين ” خالد بن يزيد بن معاوية (توفي سنة 85 هـ /704 م) ومسيحي”، تدل علي اتصال بالمنطق وقدرة على لمح الشبه؛ مما يحمل على الظن بأنه قد تم شيء من هذا الاتصال بشكل مباشر، ومن ثم لا يستبعد أن تكون هناك في تلك الفترة الباكرة محاولات للترجمة عن الثقافة اليونانية أو الهلينية، ولكن المؤكد بأن مثل هذه المحاولات – إن وجدت – محدودة إلى أبعد الحدود، إذ إن الظروف المختلفة التي أحاطت بالمجتمع الإسلامي لم تيسر البدء في الترجمة بصورة شاملة إلا في رحاب الدولة العباسية. وما حدث من اتصال مباشر بواسطة الترجمة قبل ذلك كان محدودًا في طبيعته ونتائجه جميعاً.

ويؤكد بعض الباحثين السريان المعاصرين، بأن ” السريان قد رحبوا على الأرجح بقدوم العرب، آملين التخلص من التشدد البيزنطي والساساني، وخضعوا برضا للدولة الجديدة، وكان علماء الدين أول من قاموا بترجمة الكتب اليونانية إلي السريانية. وهناك عالم مسيحي شاهد على الفتح العربي لهذه البلاد هو “ساويرس” الذي ترجم بعض الكتب الإغريقية إلى السريانية وشاهد الفتح العربي ”.

وجاء بعده “سابوخت جرجيس” المتوفي 666- 667م أسقف قنسرين الذي ترجم بعض كتب أرسطو إلى السريانية، مثل كتاب التحليلات الأولى كما يقول “أوليري ”؛ وطوال العصر الأموي واصل هؤلاء المترجمون نقل الأعمال اليونانية، والساسانية إلى لغتهم السريانية، وقرب نهاية العصر الأموي كان هؤلاء قد تعلموا العربية وأتقنوها، ولذا شرعوا في نقل بعض هذه الأعمال المترجمة إلي السريانية للعربية، لينهل الفلاسفة العرب ويتعلموا فلسفة اليونان وفكرهم.

ولم تكن عملية الترجمة والنقل في ظل الدولة الأموية علامة ظاهرة، ولم يكن لهم شغل بالعلوم الفلسفية، إلا ما ذكر عن خالد بن يزيد المُلقب بحكيم آل مروان عندما أُبعد عن الخلافة، اتجه صوب العلم واهتم بالكيمياء لرغبته الشديدة في تحويل المعادن إلى ذهب. وهكذا أمر بعض علماء اليونان الذين كانوا في الإسكندرية أن ينقلوا له من اليونانية إلى العربية كتب الكيمياء. كما أمرهم بترجمة “الأورجانون” وهو مجموعة كتب أرسطو في المنطق. ويقول “ابن النديم البغدادي” (توفي سنة380 هـ /900 م) عن “خالد بن يزيد”: “وكان فاضلا في نفسه، وله همة ومحبة للعلوم، خطر بباله الصنعة (الكيمياء) فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونانيين ممن كان ينزل مدينة مصر، وقد تفصح بالعربية، كما أمرهم بنقل الكتب في الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى العربي. وهذا أول نقل كان في الإسلام من لغة إلى لغة”. ومن بين الذين ترجموا إلى خالد بن يزيد هما: “أصطفن القديم”، والراهب “مريانوس”.

إذن الترجمة في هذا العصر الأموي تناولت جانبين في هذه المرحلة:

الأول – ترجمة العلوم الطبيعية، كالطب والكيمياء، دون أن تتجاوزها إلى العلوم العقلية، كالمنطق وما وراء الطبيعة، وذلك لحاجتهم لهذه العلوم مع عدم معارضتها للإسلام في الجملة.

الثاني -حركة التعريب للدواوين: لقد أدرك الخليفة عبد الملك بن مروان أن اكتمال السيادة العربية الإسلامية لا تتم إلا بعد القضاء على كل المظاهر الأجنبية، لذلك عمد الخليفة إلى تعريبها والسيطرة على إدارتها وأعمالها، حتى صارت الميزة الكبرى لعصر الخليفة عبد الملك، إنه عصر التعريب، إذ قاد الخليفة بنفسه حركة التعريب الكبرى هذه ونفذها أمراؤه في أقاليم الدولة المختلفة، وأتمها من جاء من بعده من الخلفاء، وشملت هذه الحركة: تعريب النقود، وتعريب الطراز، والقراطيس والوثائق الرسمية، وتعريب دواوين الخراج.

والواقع إن حركة التعريب كانت ضرورة عملية لتأكيد كيان الدولة السياسي والاقتصادي، وصبغها بالصبغة العربية وعاملاً مهمًّا في توحيد ثقافته ونشرها، فهي لذلك مرحلة حاسمة من مراحل التطور الحضاري في شتى المجالات

ومن جهة أخرى كان أول تقديم للمنطق اليوناني في العربية، كما يؤكد بعض الباحثين خلال الفترة (810- 820 م) تقريبا، وذلك بترجمة الكتب الأولى من الأورجانون. كما ظهرت في هذه الفترة مجموعة من الشروح المختصرة لخلاصة ” الكتب الأربعة ” في المنطق. ويعود الفضل في هذه الأعمال إلي “محمد بن عبد الله المقفع” الابن المغمور للمؤلف ” الشهير عبد الله بن المقفع”، مترجم الأسطورة الفارسية كليلة ودمنة.

وحدثت “النقلة الكبرى” في العصر العباسي (132-656 هـ /750-1258 م)، بعد أن شيد الخليفة المنصور مدينة بغداد (عام 762 ميلادي). وقد وجد المسيحيون مكانًا بارزا في حاشية الخلفاء العباسيين، وأدوا نتيجة لثقافتهم العالية وكفاءتهم المتميزة أدوارا شغلوا فيها مناصب مهمة كأطباء، وأمناء السر، ونالوا أرفع المكافآت من الخلفاء وكان معظمهم من السريان. وبدأ الخليفة المنصور خلال فترة حكمه تدشين عملية الترجمة إلى العربية، وقام بتوظيف المترجمين في حاشيته. ومع الوقت تصبح هذه المهنة وظيفة رسمية من وظائف البلاط، لكن كان يعوق المترجمين والترجمة نقص الكتب اليونانية وغيرها، لذا وجدنا الخليفة يرسل بعثة إلى مدينة القسطنطينية برسالة منه إلى الإمبراطور البيزنطي راجيا فيها تزويده بعدد من الكتب اليونانية، واستجاب الإمبراطور، فطلب الخليفة من المترجمين نقلها إلى العربية على الفور”.

ويمكن هنا استعراض الخط العام لوصول الأورجانون الأرسطي إلى البيئة الناطقة بالعربية في القرنين الثاني والثالث الهجريين. والحصيلة الناتجة عن ذلك هي على النحو التالي:

1- بجهد متماثل وبتدعيم من قبل الطبقة العليا، قامت جماعة من المترجمين (جميعهم أو معظمهم من المسيحيين السريان) خلال الفترة 825 -840 م، بنقل الكتب الأربعة في المنطق إلى العربية، وكذلك كتب الجدل، والسفسطة، والخطابة. وقد بدت هذه الترجمات – التي تمت عن طريق السريانية بوجه عام – ترجمات حرفية فجة، مختلطة باصطلاحات يونانية مكتوبة بالعربية، ولم تؤد هذه الترجمات إلى نص عربي يمكن فهمه بسهولة. لقد كان هؤلاء المترجمون القدماء في أغلب الأحيان (باستثناء شخص مثل يحي ( يوحنا) بن البطريق عبيدات للنص، فقدموا ترجمة حرفية من السريانية إلى العربية.

2- كانت هذه الترجمات السابقة موضع رفض من قبل الجيل الثاني من مترجمي المنطق من العرب، ويضم هؤلاء “حنين بن إسحق” وأخرين تدربوا على يديه؛ وخاصة ابنه إسحق. وقد نبذ هؤلاء الرجال الأساس السابق، وراجعوا النصوص اليونانية، وقارنوا المخطوطات، ووصلوا إلى ترجمات نهائية (عادة عن طريق السريانية) سواء كانت ترجمات جديدة، أو – في حالة أو حالتين – عن طريق المراجعة المتقنة للترجمات القديمة. لقد قام حنين بن إسحق بثورة كاملة في الترجمة العربية للنصوص الفلسفية اليونانية، فقد استحدث الأمور التالية:-

أ- الرجوع للنص اليوناني الأصلي، سواء اتخذه أساسا لترجمة مباشرة إلى العربية، أو لوضع ترجمة سريانية موثوق بها يمكن منها عندئذ وضع ترجمة عربية جيدة.

ب- جمع المخطوطات المتعددة للأصول إلى نص موثوق به.

ج- ترجمة النصوص وفقًا لمعني الوحدات الكبري للتعبير، وليس النقل الحرفي. وعلى هذا الأساس، أعد حنين نصًا سريانيا جديدا لكل كتاب من الأورجانون المنطقي. فقد أعد بنفسه مع ابنه إسحق وبمساعدة أبي عثمان سعيد بن أيوب الدمشقي وإبراهيم بن عبد الله الكاتب، ترجمات عربية لجميع هذه الكتب، فيما عدا التحليلات الثانية وكتاب الشعر.

3- أن حنيناً وزملاءه ( وخاصة ابنه اسحق) قد أتاحوا (عن طريق السريانية) مجموعة متنوعة من الشروح اليونانية علي الكتب المنطقية، وقليلًا من الوسائل الأخرى المعينة للدراسة المنطقية، والتعليم المنطقي، تلك الوسائل التي كانت مستخدمة في الأكاديميات النسطورية.

4- أما عن الأعمال التي تمت خلال الأعوام 830-870 م، فقد قال الكندي ما يمكن أن يقال عنه بوضوح أنه أول ملخصات، ودراسات مستقلة بصورة أصيلة (ليست مترجمة) للنصوص المنطقية في العربية. وقد نجح في ذلك بفضل تلميذه السرخسي (كان نشاطه من حوالي 860- 899م ) وهو الذي لخص الكتب المنطقية الأربعة، وثابت بن قرة، تلميذ حنين ( كان نشاطه من حوالي 855- 901م)، وهو الذي لخص أيضا قدرا كبيرا من الأورجانون.

أما الفترة الثانية فتشمل الجيل الثاني، والذي يعود إلى عهد الخليفة “المأمون” الذي حكم من عام 813 م حتى عام 833 م، وهذا الجيل ينتمي إليه “حنين بن إسحاق”، ومدرسته التي كانت تضم مجموعة من المترجمين مثل: “ثابت بن قرة”، و”قسطا بن لوقا”، و”يحيى البطريق”، و”الحجاج بن مطر”، الذين كانوا على رأس القائمة من مترجمي المرحلة الأكثر فعالية في حركة الترجمة في العصر العباسي.

وأهم ما يميز هذه الفترة الاتصال المباشر – علي وجه العموم؛ حيث كان طابع المرحلة الثانية في الاتصال بالثقافات الأجنبية، علي عكس المرحلة السابقة التي كان الاتصال فيها بالثقافات المختلفة يتم غالبًا بوساطة السريانية، أو الفارسية، أو الأرامية، أو النبطية. ومن يقرأ عن المترجمين في هذه المرحلة يجدهم يتصلون اتصالا مباشرًا باللغة السنسكريتية، والبابلية القديمة،واليونانية. وكان كثير من المترجمين عن الإغريقية يجيدون اللغة السريانية، ويطابقون بين ما قد يكون من ترجمات سريانية مع الترجمة العربية، فيضمنون بذلك قدرًا من الدقة العلمية لم يتوافر في المرحلة السابقة.

هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى التركيز الشديد علي العلوم الإنسانية، وعلى الفلسفة والمنطق بصفة خاصة، ولعل ذلك يرجع بصورة أساسية إلى ثقافة المأمون التي كان يغلب عليها الطابعان: الفارسي، واليوناني. وقد ظهر التأثير الفارسي في النواحي -السياسية، والاجتماعية للدولة، علي حين بدأ التأثير الإغريقي جليا في ولعه الشديد بالمناقشات العقلية، وفي حرصه البالغ على ترجمة كل من أثر عن الثقافة اليونانية من فلسفة ومنطق. وقد تناولت الترجمة في الفترة السابقة بعض الآثار العقلية في الفلسفة والمنطق، ولكن طابع المرحلة كلها كان – بحكم الظروف التاريخية – الاهتمام بالعلوم العملية، وبصفة خاصة الطب، والهندسة، والفلك، والصيدلة، فلم تكد هذه الظروف تتغير حتي انصرفت كل الجهود إلى ترجمة كتب الفلسفة والمنطق... وللحديث بقية..

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط

 

في المثقف اليوم