أقلام فكرية

علي رسول الربيعي: الفلسفة الاجتماعية كفلسفة عمليًة (3)

علي رسول الربيعيإن ما دفعنا للأهتمام بالفلسفة الإجتماعية هو لما لهذا الحقل المعرفي من أهمية فكرية لأنه يقدم وصفا ومعيًارا لتشكيل رؤية لمسار التغيير الاجتماعي المطلوب ولأرتباطه بالفلسفة السياسية ووباقي العلوم الانسانية. ولما له من راهنية تاريخية في مساهمته في أن يكشف لنا عن سياق تشكيل الاجتماع السياسي والثقافي في مجتمع الدولة العربية الحديثة.

ادعاء المعرفة

تنطوي جميع المواقف الاجتماعية الفلسفية، بالإضافة إلى التوترات المنهجية الأساسية الأربعة الموضحة في المقالة السابقة، على افتراضات معرفية مختلفة يتطلب الكشف عنها. إنه ومن المنطقي أن نسأل، من أجل فهم أساسيات هذه النماذج، عن الأساسيات المعرفية للفلسفة الاجتماعية بشكل عام وذلك لأرتباط المواقف المعرفية بشكل وثيق بالمفاهيم الاجتماعية القائمة عليها غالبًا. يتطلب فحص مقاربتين أو نهجين عن كثب، وهما المنظور الاجتماعي -البيولوجي والمنظور البنائي.[1]

يعود علم الأحياء الاجتماعي في اصوله إلى نظرية التطور الداروينية، ويطبق حججها على السياقات الاجتماعية، حيث يتم استخدام الطفرة والاختيار والتكيف لشرح العمليات أو التطورات الاجتماعية. لذلك فإن التطورات الاجتماعية هي تكيف بمعنى التنظيم الذاتي. تذهب المقاربات في بعض الحالات، إلى أبعد من ذلك، عندما يتم الجمع بين الحجج التطورية والجينية على سبيل المثال. عندما نتحدث عن التطور الجيني المشترك، فهذا يعني أن العمليات الجينية تسير جنبًا إلى جنب مع التطورات الاجتماعية والبيولوجية وتعتمد على بعضها البعض. فعلى سبيل المثال، يُقال بعد ذلك أن الإيثار كمستوى من التنمية الاجتماعية يتم تحديده وراثيًا:

"الفرضية الأساسية هي أن لدى جميع الكائنات الحية برامج سلوكية تفضي إلى مصلحتها الخاصة. يعود سبب هذا الافتراض إلى الانتقاء الطبيعي حيث تترك الكائنات الحية التي تتخلى عن المزايا من أجل الآخرين ذرية أقل من الأنانيين".[2]

تشير مناهج علم الأحياء الاجتماعي إلى حجج نظرية المعرفة الطبيعية من نواحٍ مختلفة. يتم تفسير البنى الاجتماعية وتشكيل السلوك على أنها حدث طبيعي محدد ومحتوم. فتستند النتائج المتعلقة بالعمليات الاجتماعية إلى عمليات التطور الطبيعية هذه. وبالتالي فأن المعرفة الاجتماعية الفلسفية هي إعادة بناء للعمليات الطبيعية.

تمت مناقشة المواقف الطبيعية وانتقادها بشكل مكثف لسنوات عديدة. إذا كانت تبدو بعض الحجج معقولة بشكل حدسي وتتعلق بالنتائج العلمية الراسخة أيضًا، من ناحية، فقد تم، من ناحية أخرى، تقديم اعتراضات صحيحة، سنشير الى ثلاثة منها كأمثلة. أولاً، تقوم المجتمعات دائمًا بإنشاء بُنى لا تتكيف بشكل ناجح مع التغيير الاجتماعي. لذلك لا تجد المجتمعات "معالجة عقلانية" لمشاكلها فحسب، بل يمكنها أن تطور سمات مرضية أيضًا. ثانيًا، تتميز الحياة الاجتماعية بحرية الفرد وتقليل الفردية، لكن هذا لايحضى بالاهتمام الكافي في علم الأحياء الاجتماعي. وثالثًا، تجد المناهج الاجتماعية الحيوية (البايلوجية) صعوبة في إعادة بناء البعد المعياري للمجتمع بأشكاله المتنوعة، عندما يتم تفسير التعاون أو الإيثار حصريًا على أنه سلوك محدد وراثيًا على سبيل المثال.

يلعب النقاش حول البنية الاجتماعية دورًا مركزيًا في الفلسفة الاجتماعية على عكس النظريات الطبيعية للمجتمع في متغيراتها الاجتماعية الحيوية المختلفة. ويعتمد هذا الموقف على الملاحظة اليومية التي تقول بأن المجتمع دائمًا ما يشكل الناس. لقد استخدم الناس أشياء معينة من المجتمع (الملابس، الطعام، إلخ) منذ سن مبكرة، فيولدون في لغة ويتواصلون اجتماعيًا وفقًا لمواقف وسلوكيات معينة. يجادل البنائيون الاجتماعيون بأن هذه الانطباعات تجعل من المستحيل اتخاذ وجهة نظر موضوعية تمامًا حول إعادة بناء المجتمع. فالتفكير البشري يكون دائمًا مشروطًا اجتماعيًا ومدمجًا في البنى الاجتماعية.

تأخذ نظرية البنائية الاجتماعية على هذه الخلفية، أشكالًا مختلفة: يتم التأكيد في صيغته القصوى على أن العبارات حول الظواهر الاجتماعية ليس لها تطابق مع الواقع وهي مجرد بُنى. ويتم افتراض التوافق في الواقع بوصفه متغير ضعيف. يتم التأكيد في كلا المتغيرين، على أن الرؤى حول المجتمع ليست مجرد بُنى فردية، ولكن يتم بناءها من قبل المجتمع.

يحلل نوربرت بريسكون بعض جوانب البنائية الاجتماعية.[3] فعلى سبيل المثال، تعتمد النظريات الاجتماعية الفلسفية إلى حد ما على التنشئة الاجتماعية للباحث المعني. أيً ما إذا كان العالم يأتي من دولة صناعية أو نامية، فعادة ما يكون ذلك عاملاً رئيسياً في تحديد تفسير الديناميات المجتمعية. فيمكن الاعتراض على أن كلا الباحثين يستخدمان طرقًا قائمة على أساس ذاتي حيث تعكس تكوينهم الاجتماعي أوإبعاد أنفسهم عنه.

مثال آخر هو الاحتمالية التاريخية للتفكير في الظواهر الاجتماعية. فقد تأثرت نظرية هوركهايمر الاجتماعية بوصفه أحد أبرز فلاسفة مدرسة فرانكفورت الاجتماعية،على سبيل المثال، بالعصر النازي وأشكاله الشديدة من المعاناة والعنف. ويمكن القول مع هيجل فيما يتعلق بهذه الاحتمالية التاريخية للفلسفة الاجتماعية، من ناحية، أن هدف الفلسفة الاجتماعية هو جلب المجتمع في عصره الى الفلسفة ومفاهيمها. لا يؤدي هذا ومن ناحية أخرى، إلى تعسف تاريخي في الحجج الاجتماعية الفلسفية. يدعي كل إدراك اجتماعي فلسفي قيمة معرفية عامة وله تطابق في الواقع الاجتماعي أيضًا على النقيض من الصيغة البنائية الاجتماعية. وبهذا المعنى، فإن الرؤى ليست مجرد بُنى عشوائية.

يمكن توضيح ذلك بمثال: يؤثر عدم المساواة الاجتماعية على المجتمعات في جميع أنحاء العالم ويمكن رؤيته في الفروق في الدخل. تظهر هذه الاختلافات بالفعل بين المجتمع الأمريكي والمجتمع الألماني والعديد من المجتمعات العربية في أختلاف البناء التفسيري لمثل هذه التفاوتات الاجتماعية. فبينما لا يتم حل هذه التفاوتات في العديد من المناهج الاجتماعية الفلسفية أو حتى يتم تصنيفها على أنها دافع للتطورات الاجتماعية في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن العديد من المفكرين الألمان يعالجون التفاوتات الاجتماعية بطريقة نقدية أما في عديد المجتمعات العربية بوصفها تعبير عن تراتبية دينية بتفضيل البعض على البعض.

هذا الاختلاف (المحدد ثقافيًا) في المفاهيم الاجتماعية الفلسفية هو مؤشر على أهمية البُنى الاجتماعية في تبرير الحجج الاجتماعية الفلسفية. وينطبق هذا أيضا على المفاهيم الاجتماعية نفسها. نظرية التمايز الوظيفي هي على سبيل المثال صورة مبنية اجتماعيا عن المجتمعات الحديثة. لكن لايعني هذا أنه صورة عشوائية، بل هي بناء اجتماعي له أسباب معقولة.

غير أنه لا يمكن تفسير المعرفة حول العلاقات الاجتماعية المفهومة بهذه الطريقة، أيً بمعنى المعرفة الرياضية الموضوعية. فقد سبق وأن أشار إدموند هوسرل إلى هذا (في عمله عن أزمة العلوم الأوروبية) الى أن العلم الطبيعي الموجه رياضيًا يعتبر أن هناك موضوعية للعلماء، لكن هذا غير مناسب لتفسير الظواهر الاجتماعية؛ حيث أن عالم الأشياء الرياضية ليس "العالم الحقيقي" للمجتمع. فتلعب عوالم الحياة ذات الشكل الذاتي على وجه الخصوص دورًا مركزيًا من وجهة نظر اجتماعية فلسفية. إذا لم تنظر العلوم بشكل كافٍ إلى عوالم الحياة هذه، فإنها تصبح غير ذات أهمية للحياة الاجتماعية بل وتزيد من حدة أزمة المعنى في المجتمعات الحديثة، لذا فإن استنتاجه له أهمية خاصة للفلسفة الاجتماعية.

يمكن ذكر فيما يتعلق بالأساس المعرفي للفلسفة الاجتماعية ما يلي: يظهر التبصر في الفلسفة الاجتماعية من خلال الخطاب العلمي. ويشير إلى التطورات المادية التي يتم تفسيرها من خلال المناقشات العلمية. إن الاستنتاجات المستخلصة من هذا دائمًا ما يكون لها جانب مبني اجتماعيًا ويتم طرحه وتنقيحه باستمرار من خلال النقاش الدائر في خطاب العلوم.

يشير بريكستون إلى أنه لا ينبغي من الناحية المعيارية في هذا الخطاب إغفال الأقليات الاجتماعية. ويتعلق هذا بوصف الظواهر الاجتماعية نفسها من ناحية أخرى، والتي يجب أن تجد فيها تفسيرات المحرومين مساحة كافية. لكن بالنسبة للآخرين يشيرالى الخطاب العلمي نفسه حيث يجب أن ترتبط مواقف الأقلية دائما بالتيار الرئيس للحجج الاجتماعية الفلسفية. يسمي بريسكون هذا بالإشارة إلى ديكارت التشكيك المنهجي والاستماع إلى الأقليات. "تتطلب العملية المعرفية في هذا العالم، ولا سيما في المجال الاجتماعي والسياسي والقانوني، التعرف على تجارب وحياة أولئك الذين لا يهتمون بمصالحهم الذاتية. والتبادل معهم، مهما كانت بلغة قليلة ضروري كتصحيح. .[4]

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...................................

 [1] Brieskorn, N .: Social Philosophy. A philosophy of social life. Stuttgart 2009.25.

[2] Sommer, V .: Between cooperation and competition. Findings of biology on natural limits of solidarity. In: Millier, J./Reder, M. (Ed.), The human being facing the challenge of sustainable solidarity. Stuttgart 2003, 1-13.5.

[3] Brieskorn, N .: Social Philosophy. A philosophy of social life. Stuttgart 2009.27-32.

[4] Brieskorn, N .: Social Philosophy. A philosophy of social life. Stuttgart 2009.38.

 

 

في المثقف اليوم