أقلام فكرية

محمود محمد علي: التحولات الفلسفية في ظل جائحة كورونا (1)

محمود محمد عليفي أواخر ديسمبر 2019 ابتليت الإنسانية بوباء فيروس يسمى "كوفيد- 19"، وهو نوع من الإنفلونزا العادية لكنه غير من تركيبة الجين، فأصبح أكثر ضراوة من الإنفلونزا العادية بمئات المرات، كما أن مناعة الإنسان لا تستطيع التعرف عليه، ومن ثم أصبح هذا الفيروس واسع الانتشار، ويصيب الإنسان بسرعة كبيرة، ويبدأ في الدخول إلى جسم الإنسان، عن طريق الهواء، أو لمس الأسطح الملوثة، "ويغزو خلايا الغشاء المخاطي للفم والأنف والعينين، ثم الحلق، ثم الشعب الهوائية ويقضى فترة حضانة تصل إلى عشرة أيام في المتوسط".

في هذه الفترة يتكاثر داخل الخلايا ويسيطر عليها، ثم يخرج وينتشر في كل الجهاز التنفسي، إلى أن يصل إلى الحويصلات الهوائية، وهنا تبدأ أعراض المرض في الظهور، وهى آلام شديدة في العضلات، والعظام، وارتفاع كبير فى درجة الحرارة، وسعال شديد، وضيق في التنفس، وصداع، وإسهال، وقد تختلف الأعراض من حالات شديدة إلى حالات معتدلة؛ علاوة علي أن نشاط المرض قد يستغرق خمسة عشر يوماً، وبعدها يشعر المريض بالتحسن.

والمضاعفات التي يحدثها هذا الفيروس، تتمثل في أنه عندما يصل إلى الحويصلات الهوائية، يدمر خلايا الحويصلات الهوائية المسئولة عن تبادل الغازات مع الدم وحركة الرئتين، وبذلك يشعر المريض بصعوبة شديدة في التنفس، ونقص شديد في الأكسجين بالدم؛ هذا يجعل الخلايا المصابة تفرز سموماً تسمى "سيتوكين "، تصل إلى الدورة الدموية، "وتحدث هبوطاً مفاجئاً في القلب، وفشلاً كلويا،ً والتهابات معوية، وهبوطاً في وظائف الرئتين، بالإضافة إلى جلطات صغيرة بالدم، قد تصل إلى المخ، وتحدث التهابات، وقصور وظائف المخ.

وهذا الوباء القاتل – الفتاك سبب للجميع قلق وتوتر وفزع وهلع، مما استوجب على الجميع العزلة الإجبارية في المنازل؛ هذا الوباء الذي لا يفرق بين صغير وكبير، غني وفقير، شاب وشيخ، طفل أو عجوز. ومن هنا تعيش البشرية في صراع كبير مع هذا الفيروس الذي لا نعلم الكثير عنه، ونجهل طبيعته. كل هذا أدى إلى عزلة البشرية ومكث الجميع في بيته، تلك العزلة التي تشبه تماما عزلة الفيلسوف عندما ينعزل في برج عاجي أو الفلسفة في تأملاتها العقلية، فالفيلسوف ينعزل من أجل أن ينسج أفكاره، ويستخرج مكنونات عقله من استنتاجات ومفاهيم فلسفية (1).

وفي ظل أزمة فيروس كورونا الحالية وما تطرحه علينا من تساؤلات حول قدرة البشر على تجاوز الأزمة وما تستثيره فينا من قلق حول مصير الإنسانية، يحق لنا أن نطرح السؤال التالي: هل نحن على أبواب مرحلة تاريخية جديدة، وهل يمكن للفلسفة أن تساعدنا على استشراف ملامح هذه المرحلة؟.. وماذا لو أنقلب سؤال الفلسفة، من مسألة الوجود لنفسه والوجود من حوله، إلى سؤال توجهه الطبيعة للإنسان ولا يملك أن يأتيها بإجابة ناجزة؟ (2).. هل سيؤدي انتشار الوباء إلى تغير في القيم أو إبطالها وتعطيلها، تلك القيم التي يؤمن بها البشر ويمارسونها في حياتهم اليومية؟.. وهل هدم "كورونا" فكرة الفلسفة والنظريات الاجتماعية؟ وهل بات خوفنا مادة للاستثمار بيد النظام الرأسمالي؟.. وهل سنكون أمام عالم قيمي جديد، تسود فيه قيم أخرى من وحي ما تعانيه البشرية قيميا اليوم؟.. وإذا إذا تحولت القيم، أو تعطلت، هل سنشهد تَحَوُّلاً على مستوى الأيديولوجيات السائدة، وعلى اختلاف مكوناتها؟ وما هو مصري النظام العاملي الجديد (نظام العولمة) الذي اجتمعت فيه مكونات الثقافة والقيم والاقتصاد والسياسة في فهم معين؟ وهل ستتجه البشرية إلى البحث عن نظام آخر يقدم فهماً أكثر دقة للكون والإنسان والحكم؟ وهل ثمة ما تقدمه الفلسفة والتفلسف لإنسان العصر الحالي الذي تحاصره المشكلات والجوائح من كل جانب ويعاني الكثير من صور الضجر والكآبة رغم كل ما يستمتع به من تقنيات تملأ عليه وقته ورغم كل صور التقدم التي مكنته إلى حد ما من أن يعيش عصر الرفاه والإشباع المادي؟! ما علاقة الفلسفة بالصحة؟ ماذا يمكن للفلسفة أن تقدم للإنسان بل للبشرية جمعاء في زمن الكورونا؟ هل من دور أو وظيفة يمكن للفلسفة أن تقوم به في التخفيف من أضرار هذا الوباء القاتل؟

وقد يكون السؤال الأخطر أن يستفسر المرء عن قيمة الحياة ونوعيتها، إذا ما أطالها العزل والطب الوقائي إطالةً زمنيةً فارغةً. هل يفيدنا أن نستزيد استزادةً خاويةً من الزمن الكرونولوجي التعيس، أم يجدر بنا أن نكتفي بالقسط الوجيز من الزمن البهيج المفرح الذي يحدده الفيلسوف الفرنسي "برجسون" (1859-1941) بالديمومة المختبرة، المعيشة، المنسجمة مع اقتناعات الضمير الذاتي؟ أفلا ينبغي لنا أن نضيف الحياة المتوهجة إلى الأيام، عوضاً من أن نضيف الأيام الباهتة إلى الحياة المنقبضة؟ وأي القيمتين أسمى: طول الحياة أم نوعية الحياة؟ (3).

كل ذلك سنحاول الإجابة عنه ضمن هذه القراءة التحليلية للتحولات الفلسفية في ظل جائحة كورونا، ولكن قبل ذلك يمكننا القول بأنه من المعروف عن الفلسفة بأنها عادة تعبر عن هموم وتطلعات عصرها. ولهذا ينقسم تاريخ الفلسفة الطويل إلى حقب تاريخية. فلم يكن تاريخها نهرا ينساب في هدوء، ولكنه حافل بضروب من القطيعة بين كل حقبة وأخرى. في الدرس الأكاديمي ينقسم تاريخ الفلسفة إلى خمس فترات: الفلسفة الشرقية والفلسفة اليونانية، وفلسفة العصور الوسطى، والفلسفة الحديثة وأخيراً الفلسفة المعاصرة. تمثل الفلسفة الشرقية فلسفة ممارسة، لا مجرد تفكيرٍ نظريّ، فبدايةً تلك الفلسفة كانت تدورُ حول مركز الإنسان ومجابهته لمخاوفهِ ومعاناتِه عن طريق الحكمة والتأمل في سلوكِ الفرد، ليملِك زمام الرّغبة والتعلّق والقلق والغضب والخوفِ من المجهول.

1- كورونا وتاريخ الفلسفة:

أما الفلسفة اليونانية فتمثل كما قال أنور مغيث مرحلة يقظة العقل وتحرره من الأساطير التي يُطلق عليها أحلام يقظة الشعوب. هي مرحلة التعرف على ماهية الموجودات. والماهية هي الإجابة عن السؤال ما هو؟ هكذا كانت طبيعة موضوعات الفلسفة اليونانية: ما هو الوجود، ماهي الطبيعة، من هو الإنسان، ما هى الفضيلة، ما هى الدولة، من هو المواطن؟ كما كانت الإجابات تنطلق من العقل وتستند إلى المنطق. وظهرت في هذه المرحلة الأولى سمات للفلسفة تميزها عن العلم من جانب والأدب من جانب آخر. فهي آراء متعارضة تختلف من فيلسوف إلى آخر، ورغم ذلك لا تستبعد هذه الآراء بعضها البعض لأن تعددها يسهم في الإحاطة بجميع جوانب موضوع البحث (4).

وفي قلب الإقليم الحاضن للفلسفة اليونانية وهو شرق البحر المتوسط ظهرت الأديان التوحيدية لتعلن على الناس معتقدات جديدة: يوجد إله واحد خالق للكون، هذا الكون الذي يستمر بفضل العناية الإلهية بالموجودات، وكل فرد من بني البشر سوف يبعث بعد الموت ليحاسب على أعماله في الدنيا. آمن أغلب الناس في شمال البحر المتوسط بالمسيحية وفي جنوبه بالإسلام. وبدأت الفلسفة تعالج موضوعات جديدة لم تكن مطروحة في الفلسفة اليونانية، فهي تتعرض لتساؤلات عن طبيعة العلم الإلهي؟ وهل الإنسان مسير أم مخير؟، وهي قضية تختلف عن فكرة القدر الموجودة في الفكر اليوناني، والعدل الإلهي وعلاقته بالحساب في اليوم الآخر. تعرض الإنتاج الفكري للفلاسفة وعلماء اللاهوت وعلماء الكلام في المسيحية والإسلام لهذه القضايا على مدى قرون طويلة (5).

ولقد انتبه الإنسان إلى أنه انشغل بآخرته عن دنياه، وأن عقولا جبارة عكفت على مناقشة قضايا تأملية يصعب حسمها والوصول فيها إلى يقين. ومن هنا بدأت الفلسفة الحديثة بلفت الأنظار إلى ضرورة المعرفة العلمية بالعالم وظواهره، والاستفادة من هذه المعرفة في زيادة قدرة الإنسان ورفاهيته. كان على العقل إذن أن يصل إلى معرفة الحقائق التي تفسر لنا ظواهر العالم. وكان عنوان كتاب ديكارت: مقال عن المنهج، بمثابة إعلان عن الهم الجديد الذي سوف تنشغل به الفلسفة، وهو تحديد طبيعة المنهج الذي يمكننا من الوصول إلى الحقيقة. ديكارت الذي كان عالما في الرياضيات إلى جانب كونه فيلسوفا استمد الحقيقة من التفكير العقلي فهي مطلقة وموضوعية وثابتة، ولهذا فهو يعد رائد المنهج العقلي. أما الفيلسوف الإنجليزي جون لوك الذي كان طبيبا فيستمدها من المدركات الحسية والتجربة، ولذا فهي نسبية وذاتية ومتغيرة، وهو يعد من أعلام المنهج التجريبي (6).

ثم جاء عصر التنوير في القرن 18 م ليحمل لنا موقفًا صريحًا من قيمة المعرفة للذات، لكن ما آلت إليه مكانة الذات في التنظيم الاجتماعي هو استعمالٌ للمعرفة عبر الذوات، ومدى اتصال السلطة والمعرفة؛ أخرج لنا تياراتٍ نقدية لعصر الحداثة والتنوير كمفكري مدرسة فرانكفورت "التيّار النقدي"، الذي برز في ظل أزمات اقتصادية كعصر الكساد العالمي والحروب العالمية؛ ليعبّر عن وجهةٍ نقدية ضد البنية الرأسمالية والمجتمعات الاستهلاكية والقيم التنويريّة، وكيف أدّت العقلانية إلى ما أسموه العقل الأداتي، وأحدثت تلك الدراسات في النظريات الاجتماعية والفلسفيّة أهميةً بالغة في تبيان موقع الذات، ومدى إغراقها في التشيؤ والاغتراب (7).

وفي القرن التاسع عشر أدرك الفيلسوف الألماني كانط القصور في المنهجين العقلي والتجريبي (والذي جسداه ديكارت ولوك) وقام ببلورة منهج يؤلف بينهما وسماه المنهج النقدي. والمقصود بالنقد هنا هو إبعاد العقل عن التخبط الذي ألم به في مناقشته للقضايا الميتافيزيقية وتحديد المجال الذي يمكّنه من إنتاج معرفة علمية؛ ولذلك اكتشاف داروين نظرية التطور وتسليط فرويد الضوء على اللاوعي والثورة الصناعية التي دفعت بجماهير العمال إلى حالة من البؤس والشقاء، بالإضافة إلى الحرب العالمية الأولى التي كانت تجلياً لاستخدام العلم في إتقان وسائل القتل والتدمير، كل هذا جعل الفلسفة تترك مشكلة المنهج وتهتم بأزمة الإنسان. في العصور السابقة كان هناك اعتقاد بأن الإنسان يتجه إلى مزيد من الرقى والتحضر والكمال، ولكن القرن العشرين حمل معه الاعتقاد بأن الإنسان يتجه إلى الهمجية والخراب. وهكذا انشغلت مذاهب الفلسفة الحديثة؛ مثل الماركسية، والوجودية، والبراجماتية، بكيفية تجاوز الإنسان أزمته (8).

ولا شك في أزمة كورونا الحالية بالإضافة إلى أزمات سابقة عليها؛ مثل أزمة البيئة وأزمة الطاقة والتفاوت بين الشمال والجنوب كلها تدفع الإنسان دفعاً لمساءلة طريقته في التفكير ورؤيته للعالم. فهناك مبادئ رسخت واكتسبت سمة اليقين يجدر أن تخضع للمراجعة: التخصص العلمي الدقيق في مقابل النظرة الشاملة، الاهتمام بالربح في مقابل الحياة الهادئة المطمئنة، النزعة الفردية في مقابل التضامن الاجتماعي. حالة فوضى وأزمة عارمة تشبه دائما الفترة التي ينبثق من داخلها نموذج إرشادي جديد، والمقصود به المبدأ الذي ينتظم وفقا له الفكر والعمل والكيان الاجتماعي (9).

فإن كانت الفلسفة على مستوى "المفاهيم" هي تاريخٌ من المفاهيم الكبرى التي تفاعلت وأثّرت في التغيُّرات المهمة لتصوراتِ ومفاهيم وقوانين وأخلاق البشرية، إذ أن الفيلسوف طبيبُ الحضارة، فإنها على مستوى "نمط الحياة"، هي تحسين القدرة على التفكير والعيش، فالفلسفة هنا تفرد الفعل الذي يجعل المرء على درجة من النقد العقلانيّ وله قيمةٌ معرفية من تجاربه وحياته (10).

نستلهم من كورونا وفتراتِ المَخاطر والاستثناء في الحاجة إلى إعادة التساؤل عن فاعلية طرق التفكير وأنماط العيش في مقابلة القلق والخطر، فما نراه جديرًا أيضًا بالتناول والأهمية فيما يساعدنا في حياتنا الواعية؛ هو الرفع من قيمة التفلسف؛ ولذلك نجد من فضائل الجائحة العالمية أن توقظ فينا الوعي الإنساني، فتجعله متأهباً للمراجعة الذاتية النقدية الشاملة (11).

ومن أبرز تلك المراجعات أن الكثير من الفلاسفة والمفكرين كتبوا حول أزمة كورونا واستمرار الجائحة وقد بشروا أن عصر ما بعد كورونا لن يكون البتة مشابهاً لما قبل كورونا، فالنماذج الإرشادية القديمة التي حكمت العالم ستتغير لا محالة بسبب الأزمة التي عمقت هشاشة الإنسان المعاصر وأرجعته إلى حجمه الطبيعي بما هو كائن ضعيف يدعي القدرة الخارقة للسيطرة على الطبيعة ؛ كما فجرت كورونا تساؤلات عميقة حول: الطب، والسياسة، والبيوتكنولوجيا، والسلطة الحيوية، والإنسان الكوروني، وفلسفة الجائحة، واقتصاد الفيروسات، وحرب الكمامات، وسقوط " العولمة التي اعتبروها نهاية للتاريخ، وانتصاراً للنموذج الرأسمالي الغربي وقيمه ومفاهيمه وثقافته - قد صارت عولمة للكوارث التي أصبحت تُهدد استمرار الحياة على الأرض؛ وكل تلك المتغيرات والحقائق سوف تجعل الفلسفة ضرورة حياة في عالم ما بعد كورونا، لكي تُعطي معنًى جديدًا أكثر إنسانية للحياة. ولكي تُصلح بالفكر الفساد الناشئ عن تردي أحوال السياسة والمجتمع والاقتصاد، عبر ممارسة دورها التاريخي في النقد وكشف الزيف. وممارسة دورها التاريخي في صياغة المفاهيم والتصورات والقناعات الحاكمة والضابطة لسلوك البشر والدول" (12).

2- كورونا بعيون الفلسفة:

في هذا السياق تأتي الفلسفة في زمن كورونا لتعلن للجميع بأنها تمثل مرشفاً خصباً، وأن الفلاسفة ليسوا ببعيدين عن النظر في مستجدات الواقع والنهل من هذا المرشف، ومعالجة مختلف الأزمات التي مرت بها الإنسانية منذ العصور الأولي، وصولاً إلى اللحظة الراهنة وما تعانيه من أزمات التي من أبرزها وراهنها أزمة كورونا، فالفلسفة هي تفاعل بين مختلف ما تنتجه الثقافة، بل هي جزء فيها، فهي منذ نشأتها الأولي كانت تبحث في مختلف المشكلات المطروحة أمامها، كمشكلة الوجود، أو المعرفة، أو القيم، وها هي تعاود الطرح المتجدد لمشكلة القيم وفق مقتضيات العصر، وها هي تعاون الطرح المتجدد لمشكلة القيم وفق مقتضيات العصر وحاجة الناس إليها، وهذا ما كان لسنوات طوال حتى قبل ظهور هذه لجائحة، فقد كان الفلاسفة سباقين إلى البحث في مختلف المخاطر واستشراف وقوعها، وهذا ما كان يعبر عنه الكثير من الفلاسفة.. ألم يثير الفيلسوف الإنجليزي " برتراند رسل " في كتابه " أثر العلم علي المجتمع " الذي صدر في عام 1953م، وهو كتاب راهني رغم مرور حوالي 70 سنه من صدوره، عن فكرة الحرب الجرثومية من خلال حديثه عن خطر زيادة سكان المعمورة، باعتبارها وسيلة للتقليل من خطر زيادة البشر (13).

ألم يصرح مارتن هيدجر عن فكرة المصير.. ألم يطرح كل من " نيتشة" و"سارتر" فكرة العدمية، وهذا ما تعالجه الفلسفة، إنها في عملية بحث وتقصي عن أسباب جائحة كورونا وتداعياتها، وهو بحث ليس مثل غيره من البحوث، هو بحث عن المسكوت عنه، وفي اللامنطوق وإبراز للعلن، لأن كورونا في نظر الفلسفة ليس مرضاً، أو وباء يحتاج إلى دواء، أو لقاح وفقط، بل هو أبعد من ذلك، إنه ظاهرة ذات أبعاد مختلفة، نفسية، جسدية، صحية، أخلاقية، اجتماعية، نفسية، ذاتية، سلوكية، دينية، تراثية، أنطولوجية، إبيستيمولوجية، اكسيولوجية. ..، إن كورونا بنظر الفلسفة بحث نقدي في الكثير من الأوهام التي أنتجها الإنسان كوهم الحرية، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، وحوار الحضارات والديانات وغيرها كثير (14).

إن كورونا بعيون الفلسفة هي كشف للحقيقة الواقعية، وفضح للخطابات المزيفة السياسية منها، أو الإنسانية، أو الدينية، وهي أيضا فضح لخطاب اليقين الذي سيطر علي العقل البشري، ودفع الإنسان إلى تجسيد  معارفه بنوع من التواضع المعرفي وعدم الثقة المطلقة في العقل، لأنه قد ظهر لنا أنه عاجز وقاصر أمام هذا ادلاء، ومن ثم فإن التقدم الذي يدعيه الكثير من الناس ما هو إلا تقدم جزئي بإمكانه أن ينهار في أي لحظة، وها هو أصبح أمام هذا الوباء الذي بإمكانه أن يهلك الكثير من البشر، وأن يدمر الكثير من الاقتصادات، وأن يبعدنا عن الكثير من العادات والمعتقدات.

ولهذا جاءت الفلسفة باعتبارها التحدي بواسطة الفكر لتتناول الجائحة من خلال إثارتها لمجموعة من الأسئلة، ومعاودتها السؤال في كيفية التعامل مع الوباء، مقدمة مجموعة من التساؤلات المهمة والضرورية، وباحثة عن مخرجات هذا الوباء من جهة أخرى، مستخدمة في هذا كله ملكة الفهم، والشك، والنقد، والتحليل. وأمام هذا الوضع الراهن أثبتت لنا الفلسفة، وأثبت الفلاسفة أن ما عجز عنه العلم تعالجه الفلسفة وتواجهه أيضا، بل وتحمل ثقله، وتحذر من مخاطره، بل وتعالجه بطريقتها الخاصة والمعهودة، لأن مهمتها كانت ولا تزال مهمة نقدية اتجاه الحاضر والراهن، فهي تسعي دوما إلى فهم الواقع من أجل فهم الحاضر، وبهذا كانت في كل لحظة تقرا وتبحث في التحولات العالمية التي نعيشها، وها نحن نلاحظ أن الفلاسفة كثيراً ما حذروا من خطر النهايات: نهاية العلم، نهاية الإنسان، نهاية العقل، وهذا الوباء أصبح أحد أبرز الإعلانات التي قد تعد تجلياً حقيقياً لهذه النهايات، لأن الفلسفة دائما ما طرحت سؤال المآل أو المصير بلغة مارتن هيدجر (15).. وللحديث بقية,,

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.........................

هوامش المقال:

1- د. ميساء المصري: كورونا …القاتل المقبل للعرب، صحيفة رأي اليوم، 26 يناير 2020.

2- ريهام عبد الله: الفيروس القاتل.. علماء يكتشفون أسبابا جديدة لانتشار عدوى "كورونا"، اليوم السابع، السبت، 08 فبراير 2020 03:48 م.

1- عماد عبد الرازق: الفلسفة والمرض في زمن الكورونا، مقال.

1- أنور مغيث: الفلسفة وأزمة الإنسان، مقال منشور بجريدة الأهرام المصرية، الثلاثاء 28 من جمادي الأولى 1442 هــ 12 يناير 2021 السنة 145 العدد 48980.

2-محمود حيدر: الجائحة تسترجع الميتافيزيقيا، مجلة الاستغراب، العدد العشرون السنة الخامسة - 1441هـ صيف 2020م، المركز الإسلامي للدراسات الاستراتيجية، لبنان، 2020، ص 19.

3- مشير باسيل عون: مقاربة فلسفية لوباء كورونا وآثاره في السيرورة البشرية، السبت 10 أبريل 2021 16:22.

4- أنور مغيث: المرجع نفسه.

5- المرجع نفسه.

6- المرجع نفسه.

7-عصام أسامة: فنُّ العيش: الفلسفة في زمن الكورونا، مقال نشر بجريدة المحطة بتاريخ 1 يونيو 2020.

8- المرجع نفسه.

9- المرجع نفسه.

10- عصام أسامة: المرجع نفسه.

11- مشير باسيل عون: المرجع نفسه.

12- أحمد عمر: الفلسفة في زمن كورونا، مقال منشور بمصراوي يوم الأحد مارس 2020 -09:00.

13- أحمد ماريف: الفلسفة والجائحة: بحثا عن مستقبل أفضل، مجلة الحوار الثقافي، جامعة عبد الحميد بن باديس، كلية العلوم الاجتماعية، مخبر حوار الحضارات والتنوع الثقافي وفلسفة السلم، المجلد التاسع، العدد الثاني، 2020، ص ص2.

14-المرجع نفسه، ص 2.

15- المرجع نفسه، ص 3.

 

 

 

 

في المثقف اليوم