أقلام فكرية

علي رسول الربيعي: الفلسفة والاهتمام الجديد بالدين

علي رسول الربيعيأصبحت الفلسفة منخرطة بشكل متزايد في الخطاب في الاهتمام الجديد بالدين وما يرتبط به من تحول في نموذج العلمنة في العقود القليلة الماضية. إن هذا الجدل حول العلمنة ونهايتها المحتملة أو تحولها وإعادة تعريف المجال السياسي في علاقته بالدين هو نقطة ارتكاز الجدل الفلسفي الحالي حول الدين. غالبًا ما تكون نقطة البداية لذلك هي الفلسفة السياسية حيث يجري تحليل الوظيفة الاجتماعية للدين ومناقشتها بشكل نقدي. وقد تطورت وجهات نظر مختلفة حول الدين وأهميته الاجتماعية في الخطاب الفلسفي.

يلاحظ جياني فاتيمو أنه من المفارقات أن مسألة الدين أصبحت شائعة للغاية بالنسبة للفلاسفة (السياسيين) اليوم. "يتحدث الفلاسفة (القاريون) بشكل متزايد، ودون تقديم تبرير واضح، عن الملائكة والفداء والشخصيات الأسطورية المختلفة".[1] إن  المشكلة- وأتفق هنا مع فاتيمو – هي أن  الخطاب حول عودة الدين لا يساهم في التوضيح التحليلي للظاهرة دائمًا. وهناك استعمال لمفهوم الدين بطريقة مضخمة، فلا يمكن أن نقول نهاية  الدين أو عودته  بهذه الطريقة. وهذا بالتحديد مؤشر على الحاجة إلى توضيح الظاهرة وآثارها المعرفية والأخلاقية الفلسفية.

هناك مفكرون- ينتمون إلى تقاليد فلسفية مختلفة - يطالبون بنموذج قوي للعلمنة، إما للحد من إمكانات عنف الدين أو للحفاظ على الحياد الأيديولوجي للدولة الديمقراطية. ينتمي أسمان في  نظريته حول الدين والتاريخ الثقافي الى هؤلاء.[2] ويتابعه سلوترداياك من خلال تأملاته حول صراع  الأديان التوحيدية الثلاثة، واحتمالات العنف فيها، فيجادل بأن السيادة الدينية تميل دائمًا  نحو الاستبداد وبالتالي نحو العنف، وهذا سبب الشكوك في مصداقية أو اهمية فرضية حقبة ما بعد العلمانية لها ما يبررها. [3]

فسيكون من المغالطة أن نفهم حديث المجتمع ما بعد العلماني وكأنه يختار التنوير، أو يختار مصطلحًا محايدًا. وكأن ثقافة العقلانية بمفهومها التراكمي الذي تبلور عبر الأجيال في أوروبا منذ عمليات التعلم في القرن السابع عشر هو مجرد وقت ينتهي في الوقت الحاضر.[4]

يجادل ريتشارد رورتي بشأن تفسير الدين في اتجاه مماثل على خلفية الليبرالية السياسية.[5] فيرى أن الدين يؤدي الى اغلاق للنقاش الذي يمكن أن يعيق العمليات الديمقراطية لتشكيل الإراد بشكل خطير، ولهذا السبب يجب إبعاده الى  المجال الخاص. يتبنى مايكل فالزر، من ناحية أخرى، هذا النقد الليبرالي للدور الاجتماعي للدين.  فيؤكد، من وجهة نظر جماعاتية، على التعددية الثقافية كشرط ضروري للمجتمعات الحديثة، حيث يتم التركيز على الأديان كعوامل ثقافية.

وهناك هابرماس الذي يمثل شخصية محورية في الخطاب الفلسفي الحالي حول الدين، فقد راجع الخطاب حول مجتمع ما بعد العلماني لزيادة الانفتاح على الدين في المقاربات الليبرالية والتداولية. اذ يمكن أن يكون المواطنون العلمانيون والمتدينون في عملية تعلم متبادل حيث مازال يبدو المعتقد الديني للمعرفة العلمانية مبهمًا.وعموما موقف هابرماس معروف وشائع ولا اريد التفصيل به هنا.

يأتي جياني فاتيمو حيث تتكرر مسألة الدين في العديد من أعماله وكذلك جاك دريدا[6] من تيارات فلسفية أخرى تنظر لدور الدين من مقاربات تأويلية وتفكيكية. يفسر الأول الدين في وضعه اليوم  نتيجة لظهور التفكير غير المتصلب في ما بعد الحداثة أزاء العلمنة،[7] ويفكك دريدا الحديث عن عودة الدين باعتباره خطابًا غربيًا عميقًا. ويرى أنه غالبا ما لايتم توضيح  التناقضات والغموض في الدين في تحديد العلاقة بين الإيمان والمعرفة بشكل كافٍ. وإن الدين مرتبط بالعبارات تدعي الموضوعية لكنها تتجاهل غموض اللغة. [8] ويمكن العثور على هذا الديالكتيك السلبي في المفاهيم ذات التوجه الاجتماعي للدين عند نيكلاس لومان أيضًا ،حيث غالبًا ما يُستخدم في الخطاب الفلسفي الحالي كنقطة مرجعية أيضًا.[9]

وهناك العديد من مساهمات الخطاب الفلسفي الأخرى التي تم صوغها على خلفية التقاليد المختلفة. فتجرى النقاشات في الفلسفة التحليلية،على سبيل المثال، حول الأسئلة الفرعية للدين (مثل براهين الله أو خلود الروح) بوصفها تساهم في توضيح فلسفي لفهم الدين. كما تنضم التخصصات اللاهوتية إلى الخطاب الفلسفي حول الدين وتقدم الحجج من تقاليدها. أخيرًا وليس آخرًا، يتم حاليًا صياغة بعض المقاربات التي تقع بين النظرية الاجتماعية للدين والفلسفة السياسية والتي لها تأثير مهم على مناقشة العلمنة. يقوم الفلاسفة مثل هابرماس وفاتيمو أحيانًا بدمج الحجج من هذه المناهج بشكل صريح في اعتباراتهم.

لا تمثل المقاربات أو المناهج التي طوروها بعض الفلاسفة البارزين  في الخطاب الفلسفي حول الدين سوى جزء من المناقشة الفلسفية واسعة النطاق. يتضح من هذا أن الدين لم يعد موضوعًا هامشيًا للفلسفة، فيتم التعامل معه بشكل مكثف من قبل فلاسفة وتقاليد فلسفية مختلفة. تتضمن الأسئلة الأساسية لهذا الخطاب، أولاً، ما هو الدور الذي يجب السماح للدين أن يلعبه في المجتمعات والديمقراطيات الحديثة. وثانيًا، كيف يمكن فهم الدين بشكل مناسب في ضوء الوقائع و العمليات المتعددة الأوجه في العصر الحديث. ثالثًا، يصبح الانشغال بالدين سؤالًا عن كيفية التعامل مع التعددية في السياقات العلمانية بشكل عام، والتي يتم من خلالها إعادة االتفكير في أسس الديمقراطية واستكشافها. تكمن، في تحليل الجوانب الثلاثة المذكورة إمكانية مساهمة الفلسفة في تأسيس واستمرار الخطاب الحالي حول الدين.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

.................................

[1] Vattimo, G. (2003b). After Onto-theology. Philosophy between Science and Religion. ln: Wrathall, M. A. (Hrsg.), Religion after metaphysics. Cambridge, 29-36.30.

[2] Assmann, J.Moses the Egyptian: The Memory of Egypt in Western,‎ Harvard University Press; Cloth/dust jacket Octavo edition ,1997.

[3] أنظر:

Sloterdijk, P,.Infinite Mobilization, Polity;  2020.

Sloterdijk, P, After God, , Polity;  2020.

[4] Sloterdijk, P,.Infinite Mobilization, Polity;  2020.92.

[5] Rorty,Religious Faith, Intellectual Responsibility and Romance.,1994. https://www.jstor.org/stable/27943984

Rorty,  Religion in the Public Square,2003  https://www.jstor.org/stable/40018207,

[6] https://philpapers.org/rec/DERFAK

[7] Vattimo, G.,Belief,Polity,1999.

Vattimo, G.,After the Death of God, Columbia University Press,2009.

[8] https://www.sup.org/books/title/?id=808

[9] Luhmann, N, Religious Dogmatics and the Evolution of Societies, Edwin Mellen Press Ltd, 1984.

 

 

في المثقف اليوم