أقلام فكرية

علي رسول الربيعي: مساران للفلسفة السياسية ونتائج التفكير في الدين

علي رسول الربيعيالأسئلة الأساسية للفلسفة السياسية

يلعب الدين دورًا كبيرًا في وضعه الحالي ليس على مستوى الفرد فقط، ولكن في الفضاء الاجتماعي والسياسي أيضًا. ولهذا تهتم الفلسفة السياسية بوظيفة الدين في المجتمع. فترتبط الاجابة عن سؤال الدين ارتباطًا وثيقًا بمفاهيم الفلسفة السياسية. وتنعكس الأسئلة الأساسية للفلسفة السياسية في الإسهامات الفلسفية للدين. هناك أربعة أسئلة أساسية تجيب عنها كل فلسفة سياسية بطرق مختلفة على خلفية طرحها سؤال  الدين، وهي تأتي في سياق مطلوب:

أولاً، أن يكون موقف الفلسفة السياسية واضحًا بشأن ما تفهمه وتعنيه بمفهوم الاجتماعي كشكل من اشكال التعبير عن وجود البشر للعيش معًا. غالبًا ما يجادل الفلاسفة السياسيون اليوم، بغض النظر عن الصيغة المادية للفلاسفة الاجتماعيين، بأن لا يمكن تفسير الواقع بشكل معقول بدون البعد الاجتماعي. وأن الأفتراض الاساس للعديد من للعديد من الفلسفات السياسية هو: لا يمكن فهم فلسفة اللغة أو الأنثروبولوجيا أو الجمال دون مراعاة كافية للبعد الاجتماعي. وأن الدين، بالمعنى الذي يحدده دوركهايم على سبيل المثال، هو ممارسة اجتماعية تشكل حياة الناس في كل من المجالين الخاص والعام، وبالتالي لا يمكن تفسيره إلا على خلفية فهم مناسب للمجتمع.

السؤال الأساس الثاني للفلسفة السياسية يتعلق بالمجتمع لا باعتباره ذوات ذرية ولكن  بنية اجتماعية. وتنتج عن هذا الأعتبار اراء مبنية على مجموعة واسعة من المفاهيم الاجتماعية المتضمنة في الفلسفات السياسية. تتأثر هذه الآراء بطرق مختلفة بعلم الاجتماع أو العلوم السياسية أو الاقتصاد. فيتطلب أن تؤخذ مفاهيم المجتمع هذه بشكل  تفصيلي واضح في الاعتبار عند إعادة بناء المناهج المختلفة. وتعتبر الجماعات الدينية، من وجهة نظر النظرية الاجتماعية، جزءًا من المجتمع يتم تفسيره على أنها فاعل أو نظام ويمارس تأثيرًا على كافة مستويات المجتمع.

ثالثًا، هناك تقارب مع الأخلاق بقدر ما تعود الفلسفة السياسية إلى مقاييس معيارية لتقييم  الأفعال في المجتمع. أنظر مثلا في تأثير مفهوم الخير عند أفلاطون، والعدالة عند أرسطو، والعقل العملي عند كانط، أو النقد الأخلاقي عند نيتشه، على الفلسفات السياسية  الخاصة بعصرهم. تلعب الأخلاق في الخطاب الحالي للفلسفة السياسية، دورًا مهمًا، حيث تنعكس المصطلحات الأخلاقية والمبادئ المعيارية على المجالات الفرعية الاجتماعية (الطب والاقتصاد، إلخ) في تشكيل هذه المجالات الفرعية الاجتماعية. وأن الدين ذو أهمية مركزية من منظور الفلسفة السياسية  لأنه ينطوي على افتراضات معيارية.

السؤال المركزي الرابع للفلسفة السياسية هو السياسة باعتبارها بنية تستهدف للمجتمع ومجالاته الفرعية. فيلعب تحديد العلاقة بين السياسة والقانون والاقتصاد دورًا مركزيًا في هذه المجالات اليوم. ويصبح الدين موضوع الفلسفة السياسية لأنه يتطلب توضيح كيف تتصرف الدولة الديمقراطية الحديثة مع المعتقدات الدينية. وتناقش ما إذا كان يؤدي الاهتمام الجديد بالدين إلى فهم جديد للسياسة وإلى أي مدى، لا سيما فيما يتعلق بتفسير التعددية في المجتمعات العلمانية.

إن جميع المجالات الأربعة لها تقليد طويل يمتد من العصور القديمة إلى يومنا هذا من منظور تاريخ الفلسفة،. هناك سلسلتان من النظريات ظهرت في العصر الحديث تحظى بتقدير خاص في الخطاب الحالي للفلسفة السياسية، وهما التقاليد الكانطية والهيجلية. تقدم كلا منهما مفاهيم توجه مجال الخطاب حول الفلسفة السياسية وينطويان على استنتاجات مختلفة للوضع الاجتماعي للدين. لذلك، يتطلب وضعهما  في ما يعبران من مقاربتين أو نهجين بجانب بعضهما البعض كأمثلة حتى نتمكن من توضيح إطار الخطاب الحالي للفلسفة السياسية حول الدين.

تفسير كانط العقلاني للسياسة ودين العقل

يُنظر إلى كانط على أنه ممثل لمفهوم عقلاني في السياسة والقانون. فيعتمد فهمه الفلسفي لكليهما على اعتبارات العقل العملي. هناك تداعيات لمقولة الواجب كمبدأ أساس في العقل العملي وتعبر عن عنصرين اساسيين. أولاً، يلعب العقل دورًا كقاضي فيما يتعلق بالسؤال: ماذا أفعل؟ تكمن النقطة الفلسفية لمقولة الواجب في حقيقة أن كل شخص يمكن أن يرى له الحق والصلاحية في الاستخدام العمومي للعقل وبالتالي يجب عليه معرفة الواجب. يتضمن العنصر المركزي الثاني الفصل بين ماهو كائن وما يجب أن يكون، لأن لا تريد مقولة الواجب أن تنسب الصلاحية المعيارية إلى الواقع الفعلي، بل تقوم بالأحرى على أساس ادعاء ما ينبغي على العقل فقط. وبهذه الطريقة يقف الكائن والواجب في مواجهة بعضهما البعض كقطبين للفلسفة العملية.

يتضح فهم كانط للسياسة والمؤسسات الديمقراطية، الذي يُبنى على هذا الأساس الأخلاقي الفلسفي، قبل كل شيء من خلال النظر إلى فهمه للقانون. ينسب كانط وظيفة مركزية للقانون في المجال السياسي لتوضيح المتطلبات الأخلاقية للعقل العملي، حيث يمكن رؤية صلاحية القانون من خلال العقل العملي أيضًا. يرى كانط أن أن النظام والأنسجام هو مبدأ العقل فيشتق منه المطلب القانوني العام الذي يمكن فهمه على أنه تفسير فلسفي قانوني لمقولة الواجب.[1] إن القانون، في "ميتافيزيقيا الأخلاق"، هو "خلاصة الشروط التي يمكن بموجبها أن تتحد إرادة شخص مع آخر وفقًا لقانون عام للحرية ".[2] لا تكمن السمة المركزية للقانون في أنه معقول فقط، ولكن وقبل كل شيء في قابليته للتنفيذ أيضًا. وعليه، لا يعني هذا شيئًا سوى أن مفهوم القانون يتم تحقيقه في نظام سلطات قسرية أو أكراهية متبادلة. وهذا هو السبب في تخصيص كانط مثل هذا الموقف المركزي للدولة الجمهورية في حل النزاعات الاجتماعية، فهي وحدها تمتلك القوة القسرية المشروعة لسن قانون ملزم.

يربط كانط بين التفكير في الدين وأسسه للفلسفة العملية. ويشدد بوضوح على الفرق بين الدين والسياسة. فهو لا يعتبر، من حيث فلسفة الدين، أن وجود الله يمكن إثباته بالمعنى الميتافيزيقي، لكنه يؤكد أن مسألة الله مرتبطة بمسألة الخير الأعلى. وهكذا فإن الدين هو تفسير ذاتي للعقل العملي وتفسير للواجب الأخلاقي. لا ترتبط الأخلاق والدين ارتباطًا وثيقًا بهذه الطريقة فحسب، بل ترتبط بالدين والعقل في الوقت نفسه بقدر ما يمكن فهم الدين من خلال العقل، كما يشرح كانط في أطروحته: الدين ضمن حدود العقل المجرد عام 1794.[3] فلا يحتوي الدين الحق إلا على القوانين، أي المبادئ العملية التي ندرك ضرورتها المطلقة، وأنها موضحة بالعقل المجرد فقط (وليس تجريبياً).[4]

بمجرد أن يتصرف الناس بشكل أخلاقي طبقًا للواجب الأخلاقي، فإنهم يفترضونه يعبر عن معنى كامل دائمًا وعليه يفترضون وجود الله أيضًا. تهدف حجة كانط إلى اثبات "أن تقرير المصير الأخلاقي للإنسان يحتاج إلى فكرة الله في إطار التقييم النقدي للقدر الذات المحدودة للحكم والمعرفة". فيفتح الدين، في هذا الصدد، مساحة للتفكير يصبح من خلالها العمل الأخلاقي ممكنًا ليس فقط فيما يتعلق بالأشخاص، ولكن فيما يتعلق بوجهة نظر اعلى مرتبة قبل كل شيء.

لذلك يمكننا أن نأمل في حياة خيرة، لتحقيق الصالح العام، إذا أخذنا هذا المنظور المتافيزيقي لأفعالنا على محمل الجد. فلا يمكننا الاستغناء عن هذا المنظور إذا أردنا أن نرى أي معنى على الإطلاق للنزاهة الأخلاقية لإدارة الحياة الشخصية والتوازن الأخلاقي الإيجابي للحياة. يريد كانط، من خلال مفهوم الإيمان العقلاني، إلغاء الفصل بين الإيمان والعقل، وفتح خيار فلسفة للتعالي تفكر في الدين أيضًا. كان من المهم لكانط كفيلسوف سياسي أن يؤكد أن الدين، على الرغم من إمكاناته الأخلاقية، يجب أن ينفصل  بشكل اساس عن السياسة. وكما يتضح من فهمه للقانون، فإن السياسة بالكامل في خدمة تحقيق للحرية.

تؤيد العديد من مقاربات الفلسفة السياسية الحالية التقليد الكانطي، على الرغم من أنها تشكك في مفهومه لدين العقل أو تعريفه للعلاقة بين الايمان والمعرفة. يمكن العثور على هذه الأفتراضات الكانطية في المصطلحات  السياسية والفلسفية  كما عند راولز مثلًا.[5]

تهدف هذه المفاهيم التي يتبناها كانط في نهاية المطاف إلى فهم الديمقراطية التي يكون فيها للقانون أهمية مركزية. ويمكن أن تلعب المعتقدات الأيديولوجية للمواطنين دورًا في المجال الخاص، ولكن من المهم التأكيد في المجال السياسي والاجتماعي على حيادية الدولة والإجراءات الديمقراطية. لذلك يلعب الدين دورًا ثانويًا في الفلسفة السياسية في هذا التقليد. فتعتبر وجهات النظر الدينية للعالم، بالنسبة لراولزعلى سبيل المثال، جزءًا من التعليمات والأرشادات الوحيدة المعقولة على المستوى الفردي  فقط من أجل حياة خيرة، ولكن  يجب ألا تصبح أساسًا للعقل العمومي، ويجب أخضاعها وتصفيتها من خلال العقل العملي.[6]

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

........................

[1] Kant, I.,Foundations of the Metaphysics of Morals, Pearson, 1797/1998.39.

أو أنظر امانويل كانت، : تأسيس ميتافزيقا الأخلاق، ترجمة عبد الغفار مكاوي، منشورات الجمل،كولونيا، المانيا، 2002

[2] مصدر نفسه،38.

[3] Kant: Religion within the Boundaries of Mere Reason: And Other Writings, Cambridge University Press,1794/2018.

أو: أنظر: غيمانويل ، كانط، الدين في حدود مجرد العقل،، نقله الى العربية فتحي المسكيني، دار جداول للنشر والتوزيع، 2012.

[4] مصدر نفسه

[5] Rawls, J., Political Liberalism,Columbia University Press,2005.

[6] Rawls, J., Political Liberalism,Columbia University Press,2005, ch,1.4.6.

 

 

في المثقف اليوم