أقلام فكرية

علي رسول الربيعي: مقدمة في القانون الطبيعي والوضعي

علي رسول الربيعيلماذا يرفض بعض المشرعين الحديثين القانون الطبيعي؟

إنه من الصعب استيعاب رفض العديد من المشرعين أوفقهاء القانون المعاصرين قبول فكرة القانون الطبيعي في ضوء الحجج السليمة التي تدعم وجود قانون فوق وضعي. ربما يكون ذلك بسبب انغماسهم في مجال القانون الوضعي لدرجة أن لديهم القليل من الوقت أو الميل لدراسة مصادره. فكما قال لوسون:

"هناك نزعة مشتركة من جانب فقهاء القانون بأن نظامًا قانونيًا يمكن أن يكون مرضيًا بشكل عقلاني من خلال مجرد تميزه وكياسته والمنطق الداخلي الذي يحكم العلاقات بين أجزائه. فالنظام القانوني، وجهة النظر هذه، هو نوع من الآلة المنطقية التي يحكم عليها من خلال السهولة والليونة في تشغيلها. أعتقد أن الجميع سيتعاطفون مع وجهة النظر هذه؛ ولكن هناك خطر أن يصبح الأهتمام بذات الآلة  رغبة في كماليتها للغرض المخصص لها  فتكتسب أهمية أكبر من الغرض الذي كان من المفترض أن تحققه؛ وغالبًا ما يختفي الغرض نفسه".[1]

باختصار، أن على جميع فقهاء القانون أن يقوموا بخدمة قضية العدالة  ذاتها بدلاً من تكريس اهتمامهم الحصري بالوسائل المصممة أصلاً لتحقيق هذا الغرض.[2]

ربما يرفض العديد من فقهاء القانون المعاصرين القانون الطبيعي لأنهم يشعرون بالحاجة إلى الرد بشدة  عليه كما  تبناها فلاسفة القرنين السابع عشر والثامن عشر. ليس من المستغرب أن يرفض فقهاء القانون الالتزام بقانون طبيعي يشتمل على وصفات مستخلصة عقلانيًا وتنظم "جميع المجالات القانونية حتى أدق التفاصيل".[3] ولا أن يتجاهل هذا العقل القانوني الوضعي، ايضًا، النظرية العاطفية التي تُـنقش بموجبها جميع مبادئ القانون الطبيعي في قلوب الناس وهي بديهية للجميع تمامًا. إن مذهب القانون الطبيعي الذي هاجمه هؤلاء الفقهاء بشدة بأعتباره ليس العقيدة التقليدية القائمة على الوقائع حول الطبيعة الحقيقية للإنسان وأنها  مجرد حالة خيالية عن  طبيعية الانسان موجودة قبل مشاركتة في المجتمع. أن إدانة جميع نظريات القانون الطبيعي بحجة أن بعض الفلاسفة  الذين وقعوا تحت التضليل وقد استخدموا اسمها عبثًا بهدف إخفاء الفرضيات الخيالية هو منطق ضعيف بالفعل على الرغم من أنه قد يُعتقد  أن هذه الممارسة عصرية في دوائر معينة. إن ما يدعم صحة فكرة القانون الطبيعي هو تاثيرها الذي لا يرقى إليه الشك في تشكيل مؤسسات القانون الوضعي. يقول أحد الباحثين بإعجاب:

"لم يكن ليخطر ببال أي منظّر سياسي في العصور الوسطى أن يشك في أن الهدف الكامل للقانون هو الاقتراب من العدالة المثالية، أو اعتبار قوانين معينة  هي قواعد أساسية للتنظيم الميكانيكي للمجتمع. كان رجال العصور الوسطى مهتمين بشدة بقانون الطبيعة لأنهم وجدوا في القانون البشري تطلعًا إلى العدالة المثالية. لكن أصبح التعامل مع آرائهم على أنها خيال أو وهم من قبل فقهاء القانون المعاصرين؛ بينما هناك الكثير ما يمكن ابرازه بشكل كافِ عن تأثير القانون الطبيعي على النظرية والممارسة اللاحقة. وإذا كان هناك من يعتبر عقائد القرون الوسطى بهذا الخصوص غامضة وصوفية، إلاً انها عبرت عن نموذج لم يستطيع العالم الاستغناء عنه بعد. إن أساليبنا اليوم أكثر تجريبية وأقل تجريدية؛ ولكن إذا لا يثق القانونيون المعاصرون في التعميمات المتعلقة بالعدالة الطبيعية و"العدالة بين الإنسان والإنسان"، فذلك يعود الى أنه تشكلت معظم قواعد القانون بمرور الوقت  فقط على أنها ما تتطلبه العدالة والمنفعة، وليس من الضروري عادة تجاوز العقيدة المستقرة إلى فرضية غير مستقرة ".[4]

نجد إن البحث عن السبب الأساس وراء إنكار القانون الطبيعي آتية من نزعة رفض الميتافيزيقيا. الميتافزيقا التي تعني علم الوجود والواقع؛ ليس للكائنات في فرديتها الملموسة وأشكالها أو ظروف وجودها العرضية، ولكن في واقعها الثابت والكلي الذي يمكن للعقل تجريده ودراسته. لكن اذا كان رفض الميتافزيقا ياتي  بسبب هذا فأنه من المدهش أن لا أحد يرفض الرياضيات ومع ذلك فهي تعتمد أيضًا على طريقة التجريد.[5]

لا تعترف الوضعية، من الناحية النظرية، بأي معرفة علمية تتجاوز تلك التي يمكن اكتسابها من خلال الحواس. لذلك لا يمكنها أبدًا تأكيد ما يجب على الناس فعله من الناحية المعيارية؛ ولكن فقط ما يفعلونه بالفعل. لدى علماء الاجتماع في تلك المدرسة الكثير ليقولوه عن سلوك الأفراد في المجتمع، لكن لا يمكنهم أبدًا تحديد ما هو الأفضل لهم أو للمجتمع. يكتفي الفلاسفة الذين يتبعون هذا الاتجاه في الفكر بدراسة القانون المقارن، وهو أمر ذو قيمة كبيرة بالفعل، ولكنه ليس أساس للقانون والأخلاق.

لايسمح المجال هنا إعطاء تبرير كامل للمنهج العلمي للميتافيزيقا. ومع ذلك ، يمكن للمرء أن يشير إلى أن عملية التجريد وممارسة التعميم (التي تشكل، في جوهرها، الطريقة الميتافيزيقية) قيد الاستخدام اليومي بين الناس من جميع مناحي الحياة. ويتبع إمكانية دراسة الإنسان كإنسان والمجتمع كمجتمع فهم أفضل للميول الثابتة والطبيعية للإنسان، ومقتضيات طبيعته ومتطلبات المجتمع. من هذه المعرفة يُشتق القانون الطبيعي، أي مجموعة المبادئ الأساسية التي تحكم السلوك الإلزامي للرجال تجاه بعضهم البعض.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

...............................

[1] Lawson, The Rahonal Strength  of English Law (London:Ltd., 1951), p. 13.

[2] Pacifico Ortiz & Arthur A. North, "A Return to the Natural Law," Thought, XXX (Winter, 1955-1956), n. 119, pp. 525-536.

[3]  Rommen, The Natural Law, A Study in Legal and Social History and Philosophy (trans. by Thomas R. Hanley, St. Louis & London: B. Herder Book Co., 1947), p. 217.

[4] Allen, Law in the Making (Oxford: Oarendon Press, 1927), p. 195.

O'Sulhvan, "The Natural Law and_ the Common Law," The Uni-versity of Notre Dame Natural Law Institute Proceedings (Indiana: College of Law, Notre Dame University), III (1949), 9-44.

[5] Maritain, A Preface to Metaphysics, Seven Lectures on Being (New York: Sheed & Ward, 1948), pp. 82-83.

 

في المثقف اليوم