أقلام فكرية

سامي عبد العال: الرحمةُ كمفهومٍ بلا عُنفٍ (1)

متى تتحقق كونيّةُ المعنى في الاسلام؟!.. استفهامٌ بالغ الأهمية إلى درجة كبيرةٍ، لأنَّه قد يأخذنا بعيداً عن تنظيرات العقائد والمذاهب، وكذلك يمثل سُؤالاً مختلفاً يبحث عنه الآخرون. إذْ كثيراً ما تساءل أهل الأديان عن الجانب الذي لا يخصُ المسلمين من أنفسهم، وعما يُعطّىَ من حياتهم إلى الحيوات المغايرة لدى كافة البشر. أي أنَّه إذا كان الإسلام قد ترك تراثاً وفهماً معيناً للحياة وقد أخضعهما البعضُ للتوظيف، فماذا عن الحقائق والمعاني المعطّاه منه للإنسانية قاطبةً؟ وبخاصة أننا داخل عصر يُجري (جرداً يومياً) لما يرتبط بطابعه الكوني، ولما يعتمل في توجهاته النوعية نحو الإنسان.

لأول وهلة، الرحمة في الاسلام موضوع مضمخ بإمكانيات إنسانية واعدةٍ، هي مفهوم طارد لكل نزوع نحو التسلط والعنف إنْ وجدا. تقع الرحمةُ في الإسلامِ خارجَ حُدود الجماعةِ والسلطة والحياة التقليدية، حتى أنَّه يستحيل لمفرداتٍ كهذه أنْ تتحكم فيها بسطّاً أو قبضاً. وكذلك تُمارس الرحمةُ دورها خارجَ (وضعية الدين ذاته) في واقع البشر. لدرجة كونِّها تغدو فكرةً مثيرةً للتعجب والإدهاش إذا ما تمت مقارنتُها بأية مفاهيم دينية غيرها، لأنَّها تخالفُ المعتقدات العامة كأجهزة إنسانية ذات طابع رقابي وفقاً لطبائع الثقافة، ولأنَّ الرحمة تناقض صراحةً ممارسات المسلمين وأيديولوجيات الاسلام السياسي على السواء. وستزداد الدهشة إتساعاً في حالة لو قُورنت دلالة الرحمة بتصورات البشر وطرائق تفكيرهم تجاه الآخر.

هذا الوضع للرحمة بمنطوق القرآن: "وما أرسلناكَ إلاَّ رحمةً للعالمين" (الأنبياء/ 107) يعني وحدةَ الرسالة والغاية ارتباطاً بالإنسان أيّا كانَ دون تفرقةٍ. إذ يؤكد القرآن على هدف الوحي قصداً: هذه الرسالة التي تخرج من نفسها إلى غير ذاتها. تخرجُ من بيئتها التي نزلت فيها إلى فضاء الحياة الرحب بألف ولام التعريف، بل وستقف -متى انطلقت- ضد معقلها لو حاول اجراء القيود إزائها. إنَّها عندئذ رحمةٌ ذات طابع كوني لكل الحيوات المتحققة والمتخيلة، ولا أقل من ذلك. وربما وجه الإدهاش أنَّه في آفاق الرحمة الكونية، يُوجد مَنْ ليسوا بمسلمين ومَنْ ليسوا بمؤمنين، ويوجد كذلك مَنْ ليسوا حتى بشراً مثل: الحيوانات والكائنات والأشياء المادية وغير المادية والأشياء الواقعية والمفترضة.

يفيد الإستثناءُ في الآية (...إلاَّ رحمةً للعالمين) إطلاقَ العنان للمعنى (كقاعدةٍ كليةٍ)، حتى أمسىَ قانوناً وراء (قدرة التراحم)، وقد وضعها في حيز الإمكان الدائم طالما هناك مخلُّوقٌ. بل والمُسلم مطالبٌ بها مادام يتنفس حياةً بين أقرانه وبين غير أقرانه، ذلك باعتبار أنَّ الرحمةَ mercy مُعطّاةً للإنسان كإنسانٍ وممنوحةً للكائن ككائن. وهو ما قد ترجُوه سلوكياتُنا العامةُ من (صلاحية كونيةٍ) تجاه العالم وأنماط العيش في المجتمعات المعاصرة. وحْدُها الرحمة يمكن أنْ تقدم جديداً لكل البشرية من تلك النافذة. إنَّ معانيها سَتُعرِّف العالمَ إلينا نحن البشر بمجمل اختلافاته الثقافية والدينية، كما لو لم يُعرف من قبل.

ليست الرحمةُ في الإسلام فكرةً مجردة، لكونها تكسرُ حدود العقلانية بمستوياتها المنطقية والصورية. وليست وسيلةً، لكونها لا تستهدف غاية معينةً إلاَّ الرحمة ذاتها، وليست إطاراً ثقافياً، لأنها تحطم الإطر الدينية والبشرية المعروفة. وليست الرحمة هبةً، لكنها قانون كوني ممنوح سلفاً من الله، وليست موضوعاً خاصاً، لأنها لا تشترط ذاتاً يراها أو يقوم بمنحها ومنعها إنْ أرادَ.

الرحمة: (الرؤية-الأسئلة)

في الاسلام، لا ترتهن الرحمةُ بحالة خطيئةٍ وخلاص (الديانة المسيحية)، ولا برفع اللعنة وإنهاء الشقاء الأنثروبولوجي نحو حياةٍ سويةٍ (الديانة اليهودية)، ولا حتى ترتهن بالرضا والقبول بعد غضبٍ إلهي مقدَّس (بعض الفقه الإسلامي)، وليست مشروطةً بالانتماء لجماعات دينية (علاقات الجماعات الاسلامية مع سواها). الرحمة عمل يُقارب (فعل الخلق والوجود) بالدرجة الأولى. ولذلك لا تقتصر الرحمة في الاسلام على خانةِ الآداب العامة ولا الواجبات المنتظرة من المؤمنين، إنما هي (العطاء الإلهي- الإنساني) بلا نهايةٍ، العطاء الآخذ لكلِّ المعاني الممكنة والمستحيلة في تاريخ العفو والغفران.

إنَّ الرحمة ممنوحة دون مقابل لجميع الكائنات باختلافها. وليس متصوّراً أنْ تهبط الرحمة أو أن تُمارّس بعيداً عن تلك الدلالة الكلية. فلا يعنيها الجزئيات هنا أو هناك، لأنَّ الأخيرة كوقائع أو أحداث تظل مشمولةً بكل رحمة تلقائياً. وإذا كانت الرحمةُ تلامس الحدود القصوى لوجودنا، فمن بابِ أولى أنْ تدخل فيها الحدود القريبة داخل المجتمعات الواحدة.

وبخاصة أنَّ (كلمة العالمين الواردة بالقرآن) كلمةٌ تقصد جميع المخلوقات الظاهرة والباطنة، القريبة والبعيدة، الماضية والقادمة. أي لا تستهدف الرحمةُ إنساناً هو الكائن الأبرز، بل تتوجّه إلى كائنات أخرى هي الأخفى. ومن ثمَّ، فالسؤال المُثير للتفكير: لماذا يوجد مفهومٌ (يَخصُ) ديناً بعينه، ثمَّ (يُعطّى) إلى الإنسانيةِ قاطبةً خارج أتباعه؟! ولماذا تكسر الرحمةُ (إطارها المقيّد تاريخياً) بخلاف المفاهيم الدينية الأخرى؟! حتى أنه جاء في دلالة الرحمة أنَّها تذهبُ إلى: الكافر والمؤمن، العاصي والطائع، الصديق والعدو، المحبُوب والمكرُوه، الأموات والأحياء. هكذا فإنَّ الرحمة مفهوم كوني سيهدِّم (بنص القرآن نفسه) الحدود الدينية والوجودية الموضُّوعة لهذا المفهوم ولمن يؤمن به أيضاً. يقول الله في القرآن منسوباً إلى ذاته: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شيءٍ" (الأعراف/ 156).

قولُ القرآنِ عن النبي (رحمة للعالمين) هو (إقرار واعتراف) بصفح مفتوح أمام الخلائق جميعاً. بينما الله كمصدر هو الرحمن بصيغة المبالغةِ، فالنبي بما يحمل من رسالةٍ ومن مرحلة ختام الأديان التوحيدية كانت مهمته: أنْ يكون رحمةً بتأكيد اللفظ. لدرجة أن ماهية الرحمة ستعبر عن النبي والفكرة والهدف في (صورةٍ كلية). وستضع أتباع نبي الاسلام حتى اللحظة أمام أنفسهم وأمام التاريخ الذي تحقق. فلو لم تكن الرحمة واردة على النحو الكوني، فما كانت سوى صرخة على العسف واساءة استعمال الدين. إنَّ الدين نفسه يحتج من داخله، الرحمة بذرة ذات قدرات خاصة لتفكيك ترسبات هذه الاستعمالات المضادة لمعناها.

وتباعاً ستقفُ الرحمة في الإسلام بمفردها (مفهوماً حُرّاً) ضد كل المذاهب وحتى ضد نماذج الإسلام الأخرى. وهذا يتم وفقاً لطبيعة الرحمة ذاتها المُشتقة من فكرة الإله الخالق (الرحمن) والفعّال لما يُريد. ومن ثمَّ، فهناك قاعدة تقول: إمَّا أنْ تكون رحمةً للإنسان والمخلوقات هكذا دون شروطٍ أو لا تكون من حيث المبدأ. لأن الرحمة مثل الإيجاد من عدم كفعل إلهي على الأصالة. أي تمثل (هبة الوجود) باطلاق المعنى، وهذا ما يجعلها تطال كافة الموجودات، فالوجود يعني الرحمة، لأنَّ الموجودات جميعاً بها فعل الإيجاد على نحو أو آخر. فالسر الكامن في الرحمة- هكذا يجب إقرار الفكرة – هو معنى الله (الرحمن الرحيم).

الرحمة في الإسلام تلامسُ المادة والحيوان معاً، إمرأة دخلت النار (في هرّة عذبتها حتى ماتت، لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكلُ من خشاش الأرض)، ورجل دخل الجنة (بسبب كلبٍ قد سقاهُ، حينما وجده يلهث عند بئرٍ ويأكل الثرى من العطش)، وقد تبلورت هذه الفكرةُ راهناً في جمعيات (الرفق) بالحيوان وفي أخلاقيات البيئة والتنوع البيولوجي والطبيعي.

ومن طبيعة الرحمة، تأتي مستوياتُ المعنى[1]: الرفق والقبول والشفقة واللين والرأفة والحنُو والحب والإحسان والإنفتاح والحرية والتواضُّع والسمُو والتجاوز والنعمة والهبة واللطف والإنقاذ والإهتمام والمشاركة والرعاية والحماية (الرحم) والفيض بالجديد (الميلاد) والتلاحم والتراحم والتشارك. وليس ذلك بطريقة التدرج من (الشفقة) مثلاً إلى (الرفق) ومن (الحنو) إلى (الحب)، لكن الرحمة تُمارِس ما هو مستحيل impossible (فعل الرحمة كلياً من غير شروط without conditions)، حتى يتحقق كلُّ مستوى آخر. فالرحمة تَجمع (ما لا يُجمع بالضرورة) داخل فضاءِ عملها العام.

لقد عَرِف اللهُ أنَّ البشر لا يعطون إلاَّ بحدودٍ معينةٍ، فكان هو الرحمن بلا حدود، أي واهب الرحمة لكل البشر. وعَرفَ أنَّهم خَطَّاءون، فكانت الرحمة لا تُخطئ أية نقطة من مساحتها الكلية، وعرف أنهم يأثمون، فجاءت الرحمة فعلاً غير قابل لتأثيم أي عمل، وعَرِفَ أنهم سيعودون إلى الكراهيةِ، فكانت الرحمة غفراناً مطلقاً. فهي (فعلٌّ كليٌّ) قد خرَج لتوِّه من تحت سيف الأحكام الأخلاقية، ذلك لكونها تهدم عن قصد تصنيفات الأخلاق: (الخير/الشر، العدل/الظلم، الإحسان/ الحرمان، اللين/ القسوة) وأسسها الأوليّة.

وإذا كانت بأضّادها تتمايز الأشياءُ، فالرحمة لا ضدَّ لها إلاَّ الضد النسبي في جزءٍ من دوائرها فقط. الشقاء، البُؤس، الهم، القسوة، العدوانية، الاقصاء.. فهذه الكلمات نقاط جزئية في (معنى كلي)لها. وهذا نظراً لكون الرحمة شاملةً وغير مشروطةٍ، إنَّ إستثناء الدلالة الكونية هي القاعدة العامة لشيءٍ لا قاعدة له في الإسلام إلاَّ باطلاق فعل الرحمة. فالرحمة تقفُ في المطلق دون مكافئ ولا مقابل ولا معادل إلاَّ ذاتها من حيث كون الإله (الخالق الرحمن) بلا ضدِّ. ففي جميع السرديات الدينية، يمثل الشيطان عنصراً مخْلُوقاً من الوجود لا مساوياً لله، حتى وإنْ دخل في ثنائية (الإله/الشيطان). والتخابث والنفث في الروع وايقاع الشرور (الشيطان).. هي أمور مختلفة عن الخلق كنتاج للرحمة (الإله).

ثمة أسئلةٌ فلسفية إزاء الرحمة: هل تحمل الرحمة تقليلاً من شأن الشخص الذي يتم رحمته؟ هل الرحمة تضمر إهانةً نتيجة موقف مزري لشخص ما يستحق الرحمة؟ هل يعد استحقاق الرحمة إنسانياً خالصاً دون أثرٍ ملاصق؟ هل الرحمة تُعطي فرصةً للآخر لأنْ يعوض موقف الضعف (موقف الرحمة) بالانتقام والثأر لاحقاً؟ ما علاقة الرحمة بنماذج التعامل مع الآخر: الصفح، الغفران، التسامح، قبول الآخر، التعايش؟ وما علاقة الرحمة بالأيديولوجيات والمذاهب والنحل؟ لماذا يقال شعبياً للتعبير عن قوة شخص إزاء شخص غيره (إنّه تحت رحمة فلان)؟

لماذا ترتبط الرحمة بدلالة الخالق؟ وهل عندما يدعُو الله إلى الرحمة يجعل (القائم بالرحمة) جزءاً من وجوده الخالق؟ أي يغدو إنساناً خالقاً على مستوى خطير من الفعل الإستثنائي؟ فلا يقدر على الرحمة كلُّ إنسان مثلما لا يقدر على عملية الخلق إلاَّ الله. أنْ نرحم الآخرين معناه أنْ نملك (قدرة إلهية) معطّاة لنا، وربما هي المناسبة الوحيدة في الإسلام التي يسبع فيها الله على الفرد مكانته العُليا حينما يرحم أخاه الإنسان وأخاه الكائن.

هل الله في الاسلام ضمن الرحمة يعطي الأولوية لكونه خالقاً واجداً لا معبوداً فقط؟ وهل حين يصل العبادُ إلى درجة البؤس تكون الرحمة خالقة بالمعنى الوجودي والإلهي مرة ثانيةً؟ وإذا كان الخالق مطلقاً، فهل ستكون الرحمة مطلقة كذلك؟ هل دلالة الخلق (الخالق) في الرحمة مقدّمةً على دلالة الدين فيها (التكليف)؟

لقد غَيّر الإسلام (عامداً) دلالة الرحمة عن اليهودية والمسيحية، وهناك ثلاثةُ مستوياتٍ لكلمة الرحمة في هذا الإطار:

مستوى القانون- الطبيعة: فالرحمة تكون لجميع الكائنات (ظاهرةً وباطنةً) أو لا تكون رحمةً إطلاقاً. إنّها قانون كوني ذو أبعاد إنسانية طبيعية من واقع الحال، ورغم كونها تتجاوز (ظواهر التاريخ)، إلاَّ أنها تحريك أحداثه لأجل الإنسان. تعدُّ الرحمة بهذا (قانونية القانون legality of law)، فلا تخضع لقواعد في عُرف البشر ومعتقداتهم. أي ليس هناك نظام قانوني يؤكد أنَّ كل مبادئه غير سارية المفعول في موقف من المواقف. فما بالنا إذا كانت الرحمةَ تقف خارج هذه القواعد!!

ولذلك ستكون الرحمة في سياقات الإنسان موضوعة قيد العمل باستمرار، فعندما تغلق كل الطرق وتمتنع قدرتنا على القبول والتفاعل، ستحل الرحمة لفك عقدة الوجود الإحراجي بين الناس. فالتناقض قد يبلغ مداه ويستحكم بقوة، وليس ثمة طريق لرأب الصدع. هنا ستكون الرحمة من جنس الأزمة، وكما ستكون الأخيرة مستحكمة، ستأتي الرحمة بلا حد. إنها الحل الأخير باطلاق حيث تظل أعلى من أي شيء آخر. إنها بهذا الشكل الورقة الكبرى المطروحة.

مستوى المعنى: تقدم الرحمةُ معنى الإله الخالق (ارتباطاً بالله الأحد الفرد الصمد) على كافة المعاني الأخرى المتداولة مثل: الحسيب والرقيب والمنتقم والجبار والواثق والماجد والمتكبر والعزيز. أي أنَّ هناك مستوى وجودياً لكلمة الرحمة (أنطولوجيا الرحمة)، لدرجة أنه بالوقت الذي تعبر فيه عن العطاء، تشيرُ أيضاً إلى طفرة الوجود بامتياز. والمعنى هنا لا يتوقف عن التطور، فإذا كان الناس يصنعون آلهتهم كما يحبون على حد قول أرسطو، فالرحمة نوع من رفع اليد عن الجانب الإلهي. لأن معناها المفتوح لا يحتمله بشر وقد لا يتصوره الناس بالطريقة ذاتها. وستكشف الرحمة من هذا الصنف عجزاً عن العيش الآدمي، حيث ستضع الإنسان في مكانه الطبيعي لا أكثر ولا أقل.

مع أنَّ الفكرة بسيطة هي: رحمة بلا شروط، فهل يتصور إنسان أنَّ هناك شيئاً بلا شروط، أن هناك معلولاً بلا علةٍ!! العقل نفسه مصمم آلياً باحتمالات الشروط التي يفرضها على ذاته. ولكن التناقض أنه هو الذي يفرض الشروط وهو نفسه من يحاول التحلل منها.. فكيف يحدث ذلك؟ أما منطق الرحمة إذا كان لها منطق، فهو منطق يفترض التحلل من كل شيء سابق أو لاحق، إذن لن يكون مصدرها محدوداً ولن تكون لها غاية. والمصدر والغاية بالنسبة لعقول البشر هما شقا الرحى الحقيقيان اللذان يستنفدان طاقة البشر طوال الوقت. عليك أنْ تتصور مقدار طاقة من يقول بالرحمة دون هذين الشقين الإحراجيين. ربما التفكير في الرحمة كموضوع كوني يفتح المجال لإثبات أفكار ومعانٍ لم تكن معروفة، ولإثبات طاقات بشرية لم تكن قابلة للتفتح من تلك الجهة.

مستوى الفعل: الرحمة تعبر عن فعل بلا مقابل ولا عائد ولا استغلال ولا علاقات قوة، فمن يَرحَم لا ينتظر شيئاً من أحد. وهي تلغي فكرة المقايضة وانتظار المقابل، تعطل (عن إرادة) حدود الشرائع والقوانين والعادات والتقاليد بين البشر، لأنها تعمل خارج تروس الكراهية والصراع. فلكي تشتد الكراهية تحتاج كراهية مقابلة من أطراف أخرى، بينما الرحمة تذهب من غير كراهية إذن: ماذا سيكره الإنسان عندما لا يجد كراهية مقابلة؟!

إنَّ أخطر شيء في تاريخ المجتمعات البشرية هو وجود أطراف متقابلةٍ تتصور أنها مغروزة في وحل الصراع قبل أنْ تولد. وأنَّه لا محيص لها سوى السير في الاتجاه نفسه الذي سار عليه أسلافها. ويبقى الصراع ناشباً أظفاره في كيان هذه الأطراف، كأنَّه قدر تاريخي لا محل له من الإعراب، ولا مهرب منه سوى إدامة الاشتعال دون طائل.

***

د. سامي عبد العال

...................

1- ابن سيدة، على بن اسماعيل المرسي، المحكم والمحيط الأعظم، تحقيق عبد الحميد هنداوي، (بيروت: دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى 2000)، ص 336.

2- ابن فارس، أحمد بن زكريا، معجم مقاييس اللغة، تحقيق عبد السلام هارون، (بيروت: دار الفكر، الطبعة الأولى 1979)، ص 498.

في المثقف اليوم