أقلام فكرية

محمد يونس محمد: النص، الحرية، السلطة.. شرط الارادة

في تفسير الخطاب الذي يمتلك ارادة وحرية خالصة، يكون سهم الموقف يتجه اليك، مهما ابتعدت عنه، وتلك السمة الاساس التي تمثلت في موقف الحسين في كربلاء، حيث تحدت الحرية الخالصة ذلك الكم الهائل المستعبد، والحسين ليس فقط المثال المتفرد في اطار الحرية، بل هو المثال الأول على مستوى الواقع طرح حرية الانتخاب، ورسم صورة مثالية لجدارة الموقف وحرية الرأي، وتحول موقف الحسين الى نص الحرية في التفسير الفلسفي، وبنس كبيرة على مستوى الفكر والمعرفة، وفي التفسير الموضوعي لتجسيد الأمة، نجد بالتحليل الخالص تمثل الحسين المثال الاجدر في تأسيس امة الشدائد وليس امة الرخاء، ولابد من جعل المواقف دلالة للبراهين، والبرهان في تفسير مفهوم الأمة على مستوى الفكر والواقع، لدينة امة تاريخية للإسلام، تعيش وتتنفس الاختلاف المقبول حسب تفسيرها، لكن في اطار الفلسفة الموضوعة هي تعيش اعلى نسب الخلاف، ونمت تلك الكراهية التي كانت بين جنبات ماكبث، وازدهرت عند دين الطائفة البغيض، مخالفة تلك الروحية الباهرة والتفاني والاخلاص التام، الذي تمثلت به امة كربلاء، والتي اتجهت الى الموت لتخلد ولا تزول .

اهم مفاهيم الأمة هي الارادة، ولا نعني بها تلك الارادة الالية، والتي تكون بتراكب ما بين مثلث – الدولة – المجتمع – الفرد -، فهي بحد ذات وجه غير نقي للإرادة، ولا يمكن أن تبرهن على وجود ارادة خالصة، وفي التفسير الفلسفي لا يمكن لمن لا يملك الحق أن يعطي الانصاف، ومن لا يمتلك الحرية هو يعيش في قفص الدولة والاعتقاد والاعراف، وتاريخ الامة العربية الاسلامية لا يخرج ولا يبتعد ابعد من هذا التوصيف، والتاريخ المزيف صريح اكثر من الحقيقة التاريخية، وصراحة تلك الأمة بلا نص، ولا تمتلك غير وثيقة مزيفة، واما مثال اساس الفلسفة ودهشة المعرفة وتمام الارادة الحرة، وذلك الذي وصف بالخارجي العظيم  اعطى للبشرية اعظم درس، وبرهن بالتضحية الشجاعة على وجوب اعادة انتاج الدين كافلا لمعنى الحرية الفردية بأقصى المستويات، وبالرغم انحراف الوعي الاثني وارتداده، وبث السموم الرجعية لحفظ ماء وجه اليمين الدعي، وتسخير ذلك التاريخ المزيف ضد تلك الحرية الخلاقة، وبالرغم من تقديم اوثان الجاهلية كوكلاء للرب على الارض، وأية اراضي، والتي اغلبها حسب النص القرآني مغصوبة، فجاء في الذكر الحكيم – اوحينا اليك قرآنا عربيا لتنذر ام القرى وما حولها - ، وصراحة النص العلوي لا غبار عليها، وحدد النص المواقع الموجب حريتها، فهي مكة وما يحيط بها، وما كان ابعد من ذلك، فهو احتلال حسب المؤشرات التي اوردها القرآن .

من الاسهل تفسير الحرية في حدود المفهوم، ومن الصعوبة أن نتمكن من تفسير الحرية في مستوى الواقع العملي، والحرية حسب التفسير الفلسفي الذي نؤمن به هي انتاج وليس اكتساب، ونرى لا حرية بلا ارادة، وكما نقر بانعدام الارادة اذا انعدمت الحرية الحقيقية، ولا اجد في تلك السيرورة الواسعة من التاريخ الا ذلك الوجه المشوه للحرية والارادة، وكما لا تلمس في كيان الآمة غير ذلك النفس المنفعل من خلال التزام الاعتقاد الطائفي، والتي لا توصف الا بالدين السياسي، فالنص قد تم الاسراف في تزويقه، والذي هو نتاج رجال تحكمهم النوازع النفسية، واذا كانت المسيحية بوجه اساس اسهم ذلك العدد الذي لا يتجاوز اليد الواحدة، فيما تجاوزت ذلك امة الاسلام ذلك العدد، وامة بتزويق وانعدام الحرية والارادة،  والاف من مصححي المسار العقلي والعملي للدين .

النص الحقيقي هو حرية الاختيار، وحرية الاختيار هنا هي من يوازن ما بين الدوافع النفسية والاحتكام العقلي، والحرية التي تحليلنا الى الدوافع النفسية، هي ليس الا ذلك التهور او الفوضى التي تسمى بالخلاقة اليوم، والحرية من جهة اخرى التزام بالمعنى الإنساني من خلال ارادة حرة، والتي تعمل على تنظيم الجانب العقلي والجانب النفسي على السواء، ويمكن لتلك الارادة من انتاج بلاغة سلوك تسمو به وتصل الى حد الاستثناء، لكن ذلك كله لابد أن يصب في اطار العامل الإنساني، ولا – ابدا – أن يصب في مصلحة شخصية، بل السمو على الغرض الشخصي احد السبل الاخلاقية، والتي لمسناها في الترجي من قبل نص الحقيقة المعنوية وهو الحسين للرجال بأن يتخذا من الليل الجمل الذي يوصلهم بأمان، وكما يبقي لهم ماء وجوههم، لكن جاء الجواب من جهة التلقي المثلى للنص بالصورة الابداعية الموازية للدعوة النبيلة، وقبالة ذلك الأمة بلا حرية ولا ارادة تدافع عن السجون اللغوية، والتي ارتفع ايقاعها من التلقي الموازي الى صفة القداسة، ولكن يبقى الادعاء يصب في جهة اخرى، والاصول الفلسفية ترى بأن الدين فطرة سليمة وليس وثائق مكتوبة، والتي مهدت للتمايز والتفاضل ما بين المذاهب السياسية للدين، وعدم اتباع الفطرة واتباع الوثائق المكتوبة بأيدي ونوازع بشرية هو مسار ايديولوجي، ولا يختلف عن اتباع الماركسية والاعتقاد بها، وتلك مواقف جزئية وليست مواقف تامة الا في حدود نفس الاعتقاد .

النص الذي نعنيه في تفسيرنا الفلسفي لا تصل الى حدوده الوثيقة، فهي من جهة اشتركت في انتاجها النوازع النفسية اثناء ظرف الكتابة، وكما هناك جهة ثانية تشير الى حمية الاعتقاد، والتي برع  المفكر الدكتور علي الوردي في تحليل مضامين الذات البشرية التي انتجت الوثائق، والوثيقة الحقيقية هي من تكشف الزيف وليس تستره وتزوق ما يهدف اليه، حتى رسمت صور مهينة للنبي، فمرة يتسابق في الجري مع زوجة له، واخرى تكشف الاوضاع السرية، والتي تتنافى مع الاخلاق العامة، فيما النبي جاء لإتمام  مفهوم الاخلاق، الذي قدمه لنا الفيلسوف سقراط عبر صورة فقدمت تماما في تاريخ كتابة الدين، وسقراط هو الدرس الامثل للإرادة وحرية الاختيار، وجاء الحسين ليكون ذلك المثال الابلغ جدارة في اختراق سلطة الزمن العضوي، والخروج من مسار الزمن الى مسار المعنى وبلوغ افق الرمز، فكان ذلك النص الذي انجذبت لها اللغات، فجون اشر احال الحسين الى ركن العدل الاجتماعي، فيما الالماني ماربين يرى بالحسين الدرس الامثل، اما براون الانكليزي يرى نسب الالم الجبارة يمكن أن تسقط اي بناء مزيف، وتوماس كارليل يرى ذلك الايمان الفطري بالحرية راسخ ولا يمكن فصله عن الكيان البشري للحسين، والسؤال اليس الحسين هو النص الذي استعاره التاريخ لتكون هناك قيمة مضافة للتاريخ  وبلغات شتى، لذا (إن الرجال الذي مثلوا أعظم الأدوار في العالم، كانوا رجالا قويي الإرادة، مقدرين قدر نفوسهم، ولهم الجرأة أن ينسحبوا من جمهرة الناس ويخطون لهم طريقا)1. وتفرد تفرد النص، الذي انجذب اليه التاريخ برحابة صدر، وبقي يدور في مداره الزمني .

اذا كانت الحقيقة الدينية لا تحتاج الى اقنعة او تحسين، فلماذا كل تلك الاقنعة التاريخية، والتحسين المرتجى قلبه الصولجان على قفاه، وتلك التحسينات التي ذهبت لصالح السلطة الدينية او الدنيوية، قد فصلت النظرية الدينة عن الواقع البشري لها، وكما استبدلت قيم الصلاح الإنساني الى التزامات بالعبادات، على اعتبار عالم العبادة هو عالم الزهد، والعالم العملي للدين عالم الانجذاب للدنيا، وهذا ما انتج مجتمعات للدين في خمول تام، فالواقع العملي للدين هو الرهان، لكن الفقاهة وعسس الدين حولوا المسار، ونستذكر هنا عندما بنى ابراهيم بيوتا لله، سأله الرب كم من الجياع اشبعت، وهذا ما يعني دور العبادة  للخمول الديني وللزهاد، فيما الواقع العملي لخلق قوانين صارمة للتعامل البشري، وصراحة السلطة الدينية هنا قد تجاوزت عقبة عصيبة، فلن يكون هناك الا ذلك الالتزام العبادي، والذي قد انتج له ذلك الكم من الاحاديث والروايات، والصلاة في الجامع اصبحت البديلة لصكوك الغفران، واصبحت النص الديني الذي تستقبله السماء مباشرة، وتلك الشكليات استهلكت اوقات الافراد، وتقريبا انعدم الاستعداد الى الواقع العملي، وانعدمت الارادة نتيجة لوجود الية حكمت الحياة البشرية، ويقول لنجلس (يجب ألا ينظر للعالم ككيان من اشياء جاهزة، بل ككيان من عمليات)2، وهذا الرأي اعتقد يضعنا في مواجهة حتمية مع الدين الجاهز، الذي هو وثيقة وليس بنص، وتطرفها هذا استوجب الرفض والاعتراض والاحتجاج والنهضة .

ثمة فارق هائل ما بين الوثيقة والنص، فالوثيقة هي تكفل ذلك الافق الزمني المحدد الزمان، قبل أن تدخل في متن التاريخ بعد ما يقارب مرمر قرن على صيرورتها، واما النص فهو الوجود والموجود، والنص خارج التحديد الزمني يكون، فنحن نقرأ اليوم الالياذة ويفصلنا عنها ما يزيد على خمسة قرن، وكذلك نجد في مكتبة كتاب دانتي، وفي تلك العملية الدلالية نقف على مغزى فلسفي جعل المنحى العلمي سبيل التأهيل، والنص ديالكتيك لكن ليس وفق ذلك السياق المشترك للديالكتيك، وعملية التلقي تشعر بأنها امام فعل، وهو سلطة نفسه، وليس كالسلطة الدينية او السياسية التي تحكم الناس، والدخول الى  النص يحتاج الى فطرة سليمة، ولا يحتاج ارصدة او ممتلكات ثمينة، فتلك تفنى وتزول، وكم ازيلت من شواهد عظيمة كما يصور للناس، وكذلك ممن البس ثوب العظمة والمهابة، ارتحل عاريا ويرتحلون عراة الا من الكفن، والنص بسلطته يدور ويدور التاريخ معه، وتلك الارادة التامة ما احوجنا اليها نحن من تسير اراداتنا عرجاء، وحريتنا التي تحتاج الى ما لا يحصى من التبريرات لكي تستقيم، وحرية النص الازلي كانت ابلغ صورة، وهنا وجه الاشكال، فالبشرية تحتاج الوجه العقائدي من الحسين ولا تحتاج الوجه الإنساني، فمفهوم الإنسان ليس قائما على وجه الحاجة، بل على وجه التضحية الباسلة، ونحن ابناء الظروف ولسنا ابناء الارادة التامة الاشتراطات، وكما لسنا نحن ابناء الحرية المسؤولة المنتجة من عزيمة فطرة سليمة .

اتوسم بنا جميعا انزال لافتة الامام، واعلاء لافتة المعنى، ومن يشكل موقع الامامة هو رجل تجري عليه ما يجري علينا، لكن المعنى حتى من الصعب أن نلمسه كما نقوم بلمس الامام، وامام الامة فرصة في التحول الى عقلي عملي فاعل، وبذلك نزيح عنه الكاهل العظيم، ويستعيد ما فقد في مرحلة التقديس، وتجاوز التكريس الروحي للدين، ولابد من التحول من مفهوم ترفيه النفس الى مفهوم محاسبة النفس، وصراحة محاسبة النفس هي اخر الامور، ومحاسبة الاخرين هي التي تحتل الزعامة في حياتنا، وكذلك امتلاك رد فعل يتجاوز الفعل بكثير، والنص يشير- لا تستوي الحسنة والسيئة ادفع بالتي هي احسن – ونحن نذهب باتجاه معاكس، ولو تطلبت الظروف والحتميات والموقف العام الذهاب في اتجاه معاكس لأنسحب الجميع، وهذا ما يجعل الدين في حرج، وكذلك الإنسان الذي بداخلنا لا يجد النفاد الى الحرية التي قد تتاح له، فعالم العبيد هو السائد صراحة وعالم الاحرار نجده مفقودا الى حد كبير، وهذا ما فصلنا عن النص وطاقته الكبرى، حتى فقدنا الارادة المناسبة الاشتراطات المهمة للجهتين، وفقدنا نسبيا حرية الانتاج  .

في النظرية الدينية لابد أن نفرق ما بين العقل المنفتح او الحر بما يمتلك من مخرجات، والعقل المقيد او المغلق الذي لا يخرج عن حدوده، والمخرجات التي يمتلكها غير مؤهلة لأبعد من حدود الاعتقاد، وكذلك في النظرية العلمانية المقابلة ذات الطرح نجده متوافقا، ولا يقول لي العقل العلماني هو المؤسس لنظرية العقل المنفتح، ونشير هنا مباشرة الى مفهوم الحرية ومديات تشكله في العقل العلماني، فالعلمانية الرشيدة تضع نسب للأيمان بالطروحات الفكرية، ولكن النسب الاكبر للنزعة الإنسانية، والعلمانية المغلقة تقابل التدين، فكلاهما لا يصل من جهة الى الدين الحر، ومن جهة اخرى الى العمانية الحرة، وثمة مشتركات ما بين معنى الحرية في الدين ومعنى الحرية في العلمانية، ومحور المشتركات هو العامل الإنساني، لكن ذلك يوجب الانطلاق من حرية تامة، وليس هناك تأهيل اذا قدمنا الايديولوجيا الدينية او العلمانية، ونحن ازاء المعنى ولسنا ازاء الذوات، ولابد أن تسمو العلمانية والدين نحو ذلك المعنى، فدين الرجال في التفسير الموضوعي يعكس لنا ايديولوجيا من نوع المغلق، والكنيسة حرقت البشر وهم احياء لمعارضتهم لها، والاسلام السياسي خلف ماسي وضحايا، بل بلغ الى الحد الذي يوصف به بأنه قتل نفسه بنفسه، وعجيب دين الرجال يشترك به الابرياء مع الطغاة والظلمة، ودين المعنى هو ليس باعتقاد الا  عبر الفطرة السليمة، وهو حس وشعور، ولا يضع فيه العقل خانات للخصوم في الجهة المقابلة .

النص يكون افق الطرح فيه عبر الممكنات الحسية والاحتمالات العقلية، التي ليست التبريرية ولا المغلقة الاعتقاد، بل عبر القيمة والموقف، وطبيعة الحياة الحرة تحتاج الى المحفزات من جهة تصعيد الحس الإنساني، وفي المعنى الديني من اجل رفع مستوى العرفان، وهيدغر يجد العرفان هو الجوهر، الذي يعطي للنشاط العضوي طاقة خلق وابداع، وهل هناك اجمل من الابداع الإنساني، وكم هو عظيم من ابدع وبكى، كما بكى الحسين بن علي على الاعداء، فرسم لنا صورة بهية للسيد المسيح، تركناها خلفنا في دين الاعراف والتقاليد، وكما العقل الرجعي اعتبرها نمطا للأيديولوجيا الدينية، ولا تغادر ذلك التوصيف، ولا ادري حتى يقبل دين العبيد أن يفنى الاحرار جميعا، ولا يبقى اثر لسبارتكوس، ولا يرسخ ذلك المعنى الابداعي، وتلك الشجاعة والارادة الحرة، التي لا تشترط الا العامل الإنساني، ولن يكون هناك أي تأثير غير ارتداء الملابس التي تحمل صورته، واما اثره فلا وجود له في النفوس، ويبدو المجتمعات اعتادت على دور العبودية، ولم تعد تهتم لقيمة الحرية، ولا يوجد لمعناها أي اثر، والدين المغلق والعلمانية المعادلة له استمرا في التسابق لكسب مساحات اجتماعية اخرى، فالناس اليوم عبيد الاستهلاك، وما نفد يكرر بشكل مستمر، ومن يصلي بتلك الارادة الهشة يستمر في تكرار ذلك، دون أي تطوير معنوي على اقل تقدير، وكذلك من اعتاد على احتساء الخمر يوميا ايضا يكرر ويستهل حياته بلا ابداع انساني، وارضاء النفس ذلك كم نود أن يستبدل، ويكون هناك ذلك الارضاء للعقل، وحسب تلك المؤشرات البشرية فإن على المستوى الإنساني لا وجود لنتائج مرضية، وما دام افق الاستهلاك يتكرر وقدر له البقاء مستمرا، فالحياة ستكون في توصيف فلسفي اشبه بنقطة تنمو ومن جديد تتخصر نفسها، وتعاد تلك المعادلة باستمرار، واي قدر كتبت البشرية لنفسها، قدر الاستكانة والاستسلام، وكونت اكبر مجتمع للاستهلاك في التاريخ .

***

محمد يونس

............................

1- قوة الإرادة – اوريسون سويت ماردان- ترجمة يوسف شديد أبي اللمع- دار صادر- ص 46 و47

2- الفن والإنسان – محمود صبري – مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية- ص 83

في المثقف اليوم