أقلام فكرية

محمود محمد علي: التقاطعية.. ظاهرة فلسفية لنسوية جديدة

في عام 1982 أصدر عالم الاجتماع الانجليزي "أنتوني جيدنز" Antony Giddrns كتابه الشهير علم الاجتماع، والذي تطرق من خلاله لتطورات المفاهيم الجنسية وأثرها الاجتماعي على الأفراد، فيقول أن: مفاهيم الحياة الجنسية قد تعرضت لتغيرات وتحولات مثيرة في العصر الحديث، فقد تبدلت بصورة جوهرية جوانب مهمة من حياة الناس الجنسية في البلدان الغربية خلال العقود القليلة الماضية، إذ أصبح النشاط الجنسي جزءا محوريا في اخوية الاجتماعية ما أدى بدوره لظهور العديد من السلوكيات والتوجهات الجنسية التي لا تنتهي والتي تعد النسوية التقاطعية intersectionality feminism واحدة من تطبيقاتها.

ويمكن تسليط الضوء على النسوية التقاطعية فبعد أن تلاشت موجة الثورة الثقافية في أوائل سبعينات القرن الماضي في العالم الغربي، أصبح من الواضح أن موضوع المرأة لا يمكن أن يكون وحده مطلبا موحدا ووحيدا للنضال من أجل التغيير، حيث أثارت النسويات الأمريكيات من أصل أفريقي واشتراكي ونسوي قضايا مختلفة من الاضطهاد والقمع وعلاقات السلطة من قبيل العرق والطبقة والجنس والجغرافيا السياسية والميول الجنسية.

ففي الولايات المتحدة الأمريكية تتعرض النساء بسبب هويتهن الجنسية (أنثى) وهويتهن الجندرية (امرأة)، بصورة أساس، لعنف قائم على النوع الاجتماعي، ولتمييز يصعب حصره في ٍشكل محدد، لأسباب عدة: لون بشرتهن، وهوياتهن العائلية والعشائرية والإثنية والطبقية والدينية والمذهبية... إلخ، أو بسبب ميولهن الفكرية والأيديولوجية والسياسية أيضا، وفي خضم الدفاع عن حقوقهن، غالبا ما تٌحصر في هويتهن الجندرية، وتحديدهن بوصفهن فئة واحدة تعيش التجربة نفسها، وتعاني الاضطهاد نفسه، وتقع عليهن النتائج نفسها، الأمر الذي يفضي إلى إعادة إنتاج الصور النمطية، وتكريسها ضدهن، وعدهن كتلة واحدة من الضحايا والمعتقدات والُمستغلات، ومن يستغلهن هو ”الرجل”، في تكريس لانقسام جندري معياري، يبسط القضايا، ويغفل الحالات التي تتراكب فيها عناصر التمييز المركب وتتقاطع.

وتعود بداية استخدام النسويات المعاصرات لمصطلح التقاطعية إلى عام 1989، عندما صاغت الناقدة الأمريكية والرائدة في نظرية العرق النقدية " كيمبرلي كريشنو" المصطلح لوصف وتحليل ما تواجهه النساء السود في أمريكا من تجارب فريدة ومتنوعة من الاضطهاد والتمييز.

وقد طرحت "كيمبرلي كرينشاو" عبر نظريتها "التقاطعية" كما يقول الأستاذ سليم سوزا أغلب المفاهيم والإشكاليات الرئيسة التي كانت قد ركزت عليها كاتبات نسويات ملونات من أصول أفريقية قبلها بسنين طويلة، لكن من دون أن يبتكرن مصطلحًا خاصًا بهذا الأمر. طُرحت هذه الإشكاليات من قبل من دون أن يتم تعريفها نظريًا، حتى جاءت كيمبرلي كرينشاو وصاغت هذا المفهوم (التقاطعية) في ورقتها التأسيسية الشهيرة (استكشاف الهامش: التقاطعية، سياسات الهوية والعنف ضد النساء الملونات) التي نُشرت لأول مرة في عام ١٩٨٩. قدمت كرينشاو للمرة الأولى مصطلح التقاطعية ليكون عنوانًا للعمل النظري وللممارسات العملية التي تحاول النسويات من خلالها فهم التجارب المركبة لبعض النساء، تلك التجارب التي كانت نتاج ظلم متعدد الأبعاد لم يقع عليهن بسبب كونهن نساءً فحسب، وإنما لأنهن يحملن انتماءات وهويات أخرى في آن واحد: العرق والدين والطبقة... إلخ.

وتشير التقاطعية عند كيمبرلي كرينشاو كما يقول الأستاذ سليم سوزا إلى تداخل الهويات الاجتماعية وأنظمة القمع والهيمنة و/ أو التمييز ذات الصلة. الفكرة هي أن الهويات المتعدّدة تتقاطع لتكوّن مجموعة مختلفة عن الهويات المكونة الأساس. التقاطعية أداة تحليل لدراسة الطرق التي يتقاطع فيها الجنس والنوع الاجتماعي (الجندر) مع الخصائص/الهويات الشخصية الأخرى وفهمها والاستجابة لها، وكيف تساهم هذه التقاطعات في صنع تجارب فريدة للتمييز.

وكيمبرلي كرينشاو ليست أول من أوجدت فكرة التقاطعية، وإنما الفكرة كانت موجودة في الموجة الأولى وما بعدها أيضًا كما يقول الأستاذ سليم سوزا، حيث بدأت النسويات السود في الموجة الأولى وما بعدها، بسبب تأثير خطاب ما بعد الكولونيالية وما بعد الحداثة، تركز على أن المرأة السوداء لديها تجربة مختلفة وفريدة عن بقية النساء، سيما المنحدرات من العرق الأوروبي الأبيض. فمثلاً، التقاطعية كفكرة (وليست كمصطلح) كانت موجودة في كتابات الشاعرة المكسيكية ذات الأصول التي ترجع إلى سكان قارة أمريكا الأصليين، غلوريا أنزالدوا (١٩٤٢-٢٠٠٤)؛ وقبل ذلك، في محاججات سوجيرنر تروث ضد فريدريك دوغلاس، كما تطرقنا إليها في بداية الحديث. لكن كرينشاو هي من طورت هذه الفكرة وهذّبتها ونظّرت لها أكاديميًا ومنهجيًا وصاغت مصطلحًا مناسبًا لها في مقالتها التأسيسية المذكورة آنفًا، أي مصطلح "التقاطعية".

ما التقاطعية في بداية ظهورها؟.. تشكّلت التقاطعية في البداية من ثلاثة أشياء تخص بالأساس تجربة النساء السوداوات في المجتمع الأمريكي، الأولى: الطبقة، والثانية: العرق، والثالثة: الجندر (النوع الاجتماعي). انظر الشكل التوضيحي أدناه كما يقول الأستاذ سليم سوزا:3522 النسوية التقاطعية

تقع "المرأة السوداء" في مركز تقاطع الدوائر الثلاث تلك: الطبقة والعرق والجندر، إذ تُهمَّش وتُضطَهد بشكل مضاعف بسبب هوياتها المتقاطعة الثلاث هذه. التقاطعية مصطلح يُستخدم بشكل عام لوصف وجود أشكال متعددة من الاضطهاد التي تتداخل وتتقاطع لتشكيل تكوينات مختلفة لكل فرد، والتي تخلق تجارب وعوائق اجتماعية فريدة. فنجد عبارة "الحاجة إلى أن تكون تقاطعية" عبارة شائعة داخل الطبقة والجندر والعرق، مما يعنى أن أي صراع يجب أن يكون شاملاً وممثلًا للأفراد الذين يعانون من اضطهادات متداخلة مختلفة، بدلاً من فكرة التركيز ببساطة على مجموعة واحدة أو شكل واحد من الاضطهاد. في كلام آخر، أن المرأة السوداء على سبيل المثال ليست مضطهدة بسبب أنها امرأة، بل لأنها امرأة ومن طبقة فقيرة ومن عرق أسود (ظلم متعدد الأبعاد نتيجة تداخل وتقاطع ثلاث هويات في آن واحد: جندر، طبقة، عرق). بدأ هذا المفهوم "التقاطعية" يتجسد بوضوح في كتابات كرينشاو واستُخدِم كعدسة تحليل في النسويات (وفي العلوم الاجتماعية فيما بعد). تضرب كرينشاو مثلاً بحادثة شهيرة وقعت في إحدى المحاكم الأمريكية، إذ تعرضت مواطنة سوداء إلى الاغتصاب على يد رجل أبيض. حكمت المحكمة بعقوبة ما هي ذاتها العقوبة المنصوص عليها قانونًا مع جرائم من هذا النوع. إلّا أن كرينشاو هنا تنبّه إلى نقطة خافية عن الكثيرين من أن هذا الحكم لا يمكن أن يكون عادلاً هنا لأن هذه المرأة السوداء لم تُغتَصَب لأنها امرأة، بل لأنها امرأة وسوداء ومن طبقة فقيرة. يجب أن يُحاكم المغتصب ثلاثة أضعاف هذا الحكم القانوني الموجود لأنه ارتكب ثلاث جرائم سوية، اغتصب امرأة، وانتقم من عرق، واستغل فردًا من طبقة اجتماعية فقيرة. بالتأكيد، لا يعني هذا أن كرينشاو تريد حكمًا من هذا النوع، فهي قانونية وتعي تمامًا صعوبة تطبيق مثل هذا الأمر في الواقع، ثم أنها غير معنية بالجدال القانوني هنا وباعتراضات سطحية من هذا القبيل بقدر ما أنها تحاول إثارة موضوع أخلاقي وثقافي يسلط الضوء على ظلامات متعددة تتعرض إليها بعض النساء جراء تقاطع عدد من الهويات لديهن. جدالها تحليلي ثقافي وليس قانونيًا سطحيًا.

ومن هذا المنطلق تمثّل النسوية التقاطعية طريقةً لفهم واستيعاب العلاقات الاجتماعية، وتعدّ تأكيداً على تداخل أنواع التمييز في جميع أشكال الهويات الاجتماعية والسياسية. وهذا يعني الاعتراف بتعقيد النظام الاجتماعي، وأن الإنسان قد يكون معرضاً للكثير من أشكال الاضطهاد كالتمييز العنصري والجنساني والعمري. ويتم استخدام مصطلح التقاطعية غالباً لتوصيف ضرورة التصدي لكافة أشكال الاضطهاد وتقاطعاتها المتعددة.

وعلى الرغم من أن النسوية التقاطعية تعني القدرة على التعامل مع جميع العقبات المحتملة التي تقف عائقاً ضد السلامة الفردية والجماعية، لكنها ليست مجرد اعتراف بتعدد أشكال التمييز والتعامل مع كلٍ منها على حدة. فجميعنا ندرك حقيقة وجود التمييز العنصري والجنساني، والتمييز ضد الأشخاص ذوي الإعاقة، ولكن عندما تجتمع هذه الأشكال معاً فإنها تتضاعف وتتحول إلى اضطهاد، وبناء على ذلك فإن التقاطعية النسوية تؤمن بوجود اضطهاد استثنائي وتكرّس جهودها لمعرفة آلية التعاطي مع هذا المزيج المتعدد والمعقد من أشكال التمييز.

خلاصة القول: إن التقاطعية هي مقدرتنا على الإصغاء إلى الآخرين ومعرفة مزاياهم المختلفة، وتحديد الأشخاص المهمشين الذين تتم ممارسة التمييز تجاههم ضمن أماكن العمل وفي المجتمع؟ والأهم من ذلك، فهي الرغبة بتغيير هذا السلوك. واتّخاذ الإجراءات المناسبة لدعوة وتضمين جميع الأشخاص والعمل معهم للحصول على جميع حقوقهم وتخطي جميع أشكال التمييز والتعصّب التي يتعرضون لها.

***

أ. د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة – جامعة أسيوط

.................................

المراجع

1- أسماء مقري: التقاطعية.. رؤية نسوية جديدة، موبريس، السبت 2-4-2022.

2- ندى مصطفي: النسوية التقاطعية: ماذا تعني؟، أوفيد، 07/01/2022.

3- أنظر محاضرة الأستاذ سليم سوزه عن مفهوم التقاطعية في دراسات العدالة الاجتماعية، منشورة يوتيوب ضمن الصالون العراقي بلوس أنجليس.

4- علياء أحمد: النسوية التقاطعية: معناها، تطبيقاتها، نقدها وإمكان استخدامها في السياق السوري، المجلة السورية للعلوم الإنسانية، العدد السادس عشر- تموز/ يوليو 2022.

في المثقف اليوم