أقلام فكرية

حسن العلوي: الإطار المعرفي لفكر طه عبد الرحمن

اختار طه عبد الرحمن "السنة"، كما رسمت تاريخيا في فضاء الملة، إطارا معرفيا لمشروعه الخطابي، وهي الأداة التي اعتمدت في تكريس صيغة للإسلام تأسست بعد التجربة النبوية المؤسسة؛ وهي الصيغة التي اصطلح عليها في السردية التراثية ب “السلفية"، واعتمد طه تحديدا على آخر الصيغ التي صيغت بها، والتي عرضها الشاطبي في كتابيه: الاعتصام، والموافقات.

احتلت قراءة الشاطبي، التي حاول الارتقاء ب “السلفية" إلى مستوى "نظرية" بعنوان "مقاصد الشريعة"، موقع الإطار المعرفي الموجه لأعمال طه عبد الرحمن؛ أعماله النظرية والجدلية والاعتراضية والتأسيسية، ويعود ذلك في رأينا إلى الأسباب التالية:

1-لأن الشاطبي وظف معارف عصره والموروثة عن الماضي، لخدمة السلفية وتكريسها صيغة وحيدة ممكنة للإسلام.

2-لأن الشاطبي تجاوز بالسلفية عتبة العداء للصوفية؛ وهو العداء الذي ولد في عصر النشأة لكل منهما، بما هما جزء من التيارات والمذاهب التي أطرها الخلاف والاختلاف، والذي تجسد في البداية في الصراع والخلاف بين اهل الحديث وأهل الزهد. وأنجز الشاطبي ذلك، بعدما انضوى أهل الزهد والتصوف في إطار "السنة".

3-لأن الشاطبي أنجز قراءة دمج فيها بين جميع مكونات "السنة" كما استقرت تاريخيا في ثلاثة، وهي: الأشعرية، وأهل الفقه والأصول، والحديث، والصوفية.

4-لأنه ركز على البعد العربي "للشريعة"، وأسس عليه قراءته و"نظريته"؛ وهو البعد الذي اقتبسه من الشافعي معترفا أنه هو أول من نبه عليه يقول: "والذي نبه على هذا المأخذ في المسألة هو الشافعي الإمام في رسالته الموضوعة في أصول الفقه، وكثير ممن أتى بعده لم يأخذ هذا المأخذ فيجب التنبيه لذلك" (الموافقات ج 2، ص49) (وانظر تديين، 88)، وهو ما يفسر في رأينا عبارة طه: "الإسلامي العربي"، التي يستعملها في كتاباته.

ولذلك احتفى طه بالشاطبي وأعجب بقراءته أيما اعجاب، فعرضها في كتاب: "تجديد المنهج في قراءة التراث" كأفضل نموذج لما يسميه "القراءة التكاملية" للتراث في مقابل "القراءة التجزيئية"، التي يصف بها قراءة مخالفيه. واشتغل في ابراز ذلك التكامل، الذي يسميه بالتداخل، على دمج الشاطبي أصول الفقه بالتصوف، والذي يسميه طه ب “علم الأخلاق". فهذا الدمج، في نظره، هو الدليل على تكامل معارف التراث ونظمها المعرفية. (ص: 92، تجديد)

وجد طه في مقولة "مقاصد الشريعة" بوصفها آخر صيغة كما سبقت الإشارة إليه، ضالته؛ إذ تجاوزت الصراع المزمن بين الصوفية والسلفية في زمن النشأة، والذي عملت الحركات "الأصولية"، خاصة ذات التوجه الوهابي منها، بعثه من تحت رماد التاريخ؛ فالشاطبي سلفي، ولا يستطيع أحد من الحركات الأصولية أن يشكك في ذلك، وهو ما يعني أن الصوفية تحظى "بالمشروعية" السنية والسلفية من أحد أكبر علمائها. وتتناول هذه المقالة، ما يدلل على تأطير قراءة الشاطبي "المقاصدية" لفكر طه عبد الرحمن، من خلال أمثلة ونماذج تتعلق بالمفاهيم، والقضايا والتصورات، والمواقف والأحكام.

الروح التي تؤطر أعمال طه، والتي صاغها الشاطبي بلغة واضحة تعبر عنها مفاهيم: "معهود العرب الأميين"، "الأمية: أمية الشريعة وأمية أمة الشريعة"، "غاية الإنسان في الوجود والحياة هي التعبد"، لكن طه صرفها بأسلوب غير مباشر وبالتقسيط في مواضع مختلفة من كتبه.

يؤسس طه قراءته التراثية على التسليم؛ بمعنى انه يرى ان "التراث" جميعه مسلمة ترتقي عن النقد والمراجعة وإعادة النظر، فهو في نظره غني قيميا ومعرفيا ولغة، ولهذا تغيب في خطابه التراثي لغة النقد، ما عدا في جزئية وحيدة تتعلق بتصنيف المعرفة التراثية "الأخلاق" ضمن مرتبة "الكماليات". (تجديد، 111)

يحق للرجل، مثل غيره، بناء رؤيته الوجودية بما تأتى له فكريا ومعرفيا وسلوكيا، وهو امكان لم يتح له لولا اطلاعه الواسع على المعرفة الحديثة التي لا يطمئن إليها كثيرا، مثله في هذا الموقف مثل الشاطبي، فكلاهما عضم معارف عصره ثم وظفها في غير ما وضعت له؛ بل لخدمة نقيضها وهو التقليد. لكن ما لا يحق له هو أن يتخذ رؤيته معيارا وحيدا للصواب والخطأ، والصحة والفساد؛ بل سعيه إلى تعميمها نموذجا وحيدا ممكنا للبشرية يقدم لها الحلول، وينقدها مما يسميه "آفات"، و"بؤس"، و"شرود"، و"مروق" و"تسييس".

ويبدو أن محاولة تعميم النموذج الصوفي الطرقي، او ما يسميه "العمل التزكوي"، يرجع إلى تأثره ب “العمل الحركي الأصولي"، او إلى السعي على المنافسة معه في دعوى "الشمولية" للدين، والتي بنى عليها ايديولوجيته السياسية؛ أو بتعبير طه نفسه، ناقدا، "تسييس الدين". وكم سيكون جميلا؛ لو أن الأستاذ طه عرض رؤيته تلك خلاصة لتجربته الفردية، تعبر عن نفسها بنفسها، كما عرض العرفانيون تجاربهم المعنوية الكبيرة التي عرفها التاريخ من كل الثقافات.

لكن بدل ذلك عرضها الرجل كدعوى؛ بل في إطار "دعوة" تزعم لنفسها وتدعي على غيرها، مما حولها في النهاية إلى أيديولوجيا، خاضت وتخوض في الاجتماع والسياسة، كما في العلم والمعرفة، وفي الفكر والفلسفة، وفي العقيدة والدين، مدعيا لها التفوق على هذه الأنماط من الفكر ونماذج الحياة التي تقترحها على الإنسان؛ بل القدرة على تقديم الحلول لأزماتها ومشاكلها، وتقويم ما يرى أنه سقيم فيها. فعلى سبيل المثال ركز في نقده واعتراضه على القول بضرورة "فصل الدين عن السياسة"، فادعى في إطار طرحه الصوفي الطرقي الوحدة بينهما؛ بل ذهب إلى أن الأصل هو ما يسميه "التدبير التعبدي"، لكنه انتهى عمليا، بعدما صنف كل أشكال التدبير السياسي المدني، بما فيها الديمقراطية ضمن الأنظمة التسلطية، انتهى إلى الدعوة إلى تقاسم السلطة بين الزوايا ورجل السلطة، تنفرد الأولى ب "تدبير" المجتمع والأفراد، ويختص الثاني بتدبير الدولة. يقول بعدما أكد أن الزوايا، التي يسميها "الحيزات بلا دولة" أنها لا تشكل خطرا على الدولة، ولا تسعى إلى تغيير الحكام؛ بل لا يلحق الدولة من وجود الحيزات "إلا مزيد قوة (...) لأنها تنمي الرأسمال الروحي والخلقي للمجتمع" (،306 روح الدين)، ولأنها: "بمنزلة الرئة التي تزودها بنقي الهواء الذي يجدد دورتها التدبيرية". (311، روح) وخلص إلى أن دور الزاوية، التي يدعو الدولة إلى: "أن تفسح المجال لبروز مثل هذه الفضاءات الروحية والخلقية" (306) ينحصر في تهيئ المجتمع: "حتى يستطيع أن يمد الدولة بالطاقات التي تجدد تدبيرها (....) بإحياء روح الإزعاج في الأفراد" (314، روح)

أخذ طه الجهاز المفاهيمي للشاطبي، ووظفه في بكثافة في كتبه؛ ويأتي في طليعتها مفهوم "المقاصد"، الذي يتبوأ موقع الأساس لغيره من المفاهيم؛ مثل الضروريات والحاجيات والتحسينيات، والمقاصد الأصلية، والمقاصد التبيعة، والغايات والوسائل، والغرض، والحفظ (...). فهو يرى: "أن مفهوم المقصد هو مدار التداخل الداخلي عند الشاطبي" (98، تجديد). وبعدما قرر أن جميع مشتقات "المقاصد"، وهي المقصودات، والقصود، والمقاصد، انها تدور على أوصاف "أخلاقية ظاهرة وخفية". (99 تجديد) ارتقى بالمفهوم إلى مرتبة المقوم"" لما يسميه "العقل المسدد"؛ أي العقل الفقهي الذي هو أعلى درجة من العقل المجرد عنده. يقول: "فالعقل المسدد هو إذن العقل الذي اهتدى إلى معرفة المقاصد النافعة". 71، سؤال)

وحصر؛ مثل الشاطبي تماما، مفهوم "المقاصد" في الرسم أو الحكم الديني. يقول بعدما أشار إلى ما يعرض له من اللبس: "حتى صار عند البعض دالا على المنفعة المادية الصرف، والتحقيق أن الأصل في المصلحة الخلق"، ويقصد بالخلق الحكم الديني. يقول: "ان الحكم الشرعي أقوم من غيره أخلاقا"، وقيمته تتحقق: "مع الوقوف على صور الأعمال ورسوم الطاعات". (102، 104، 107 على التوالي، تجديد)

فالرسوم الدينية: "يكون تحصيلها مقصودا لذاته؛ إذ يعامل كل خلق منها على أنه غاية في ذاته، بغض النظر عما يترتب عليه من مصلحة في العالم المرئي". (401، روح)

وهو نفس قرره الشاطبي فالمصلحة التي حدد بها المقاصد، ليست ما يعبره العقل مصلحة. يقول: "ولا يلزم على هذا اعتبار كل مصلحة موافقة لقصد الشارع أو مخالفة وهو باطل لأنا نقول لابد من اعتبار الموافقة لقصد الشارع؛ لأن المصالح إنما اعتبرت مصالح من حيث وضعها الشارع". (الموافقات، ج 1، صن 22)

أخذ طه بالقاعدة التي أسس عليها الشاطبي مشروعه المقاصدي، ممثلة فيما سماه "معهود العرب الأميين"، الذي فصلت على مقاسه، كما يرى، جميع تعاليم الإسلام فاتسمت بسماته وعلى رأسها صفة "الأمية". يقول الشاطبي: "لابد في فهم الشريعة من اتباع معهود العرب الأميين...99)؛ أخذها الرجل فصرفها في كتبه بالتقسيط وبأساليب مختلفة وغير مباشرة، خلافا لما فعله الشاطبي الذي اعتمد الأسلوب الصريح.

يتجلى ذلك في جملة أمور منها تفضيل الخطاب الطبيعي على الصناعي، والانتصار للأعمال الفقهية لكل من الغزالي، وابن حزم، وابن تيمية، التي نزعت "الصنعة الفلسفية" عن الفلسفة اليونانية المترجمة، وصياغتها بالغة العامية كما يقول ابن حزم، كما أورد طه، في سياق الاحتفاء بهذا الصنيع. يقول: "وبإيجاز لقد حرص ابن حزم أشد الحرص أن يورد معانيه كما يقول: “بألفاظ سهلة بسيطة يستوي إن شاء الله في فهمها العامي والخاصي، والعالم والجاهل".(تجديد، 336)

ومنها نقد الحد المنطقي الأرسطي، وتفضيل الحد بالرسم أو المثال عليه. يقول الشاطبي عنه: "معرفة المطلوب قد يكون له طريق تقريبي يليق بالجمهور، وقد يكون له طريق لا يليق بالجمهور وإن فرض تحقيقا. فأما الأول فهو المطلوب المنبه عليه، وعلى هذا وقع البيان في الشريعة (...) وهي عادة العرب، والشريعة عربية، فلا يليق بها إلا البيان الأمي. وأما الثاني؛ وهو ما لا يليق بالجمهور، فعدم مناسبته للجمهور أخرجه عن اعتبار الشرع له".  وبنى على ذلك فقال إن التصور في الحد "رمي في عماية". (الموافقات 1، 31- 32)

ويقول طه مؤكدا ومرددا عبارة الشاطبي تقريبا: "الأصل في الأقوال الدينية أن تكون حمالة لوجوه، وذلك لأنها لم ترد بلغة تقنية (...) وإنما وردت بلغة الجمهور". (روح، 74-75) ويؤكده أيضا تنويهه بعمل ابن تيمية في تفضيل حد التمثيل والرسم أو الاسم على الحد الأرسطي الذي يسميه بالشمولي. (تجديد، 360) ومنها دعوته إلى عدم الأخذ: "بكل مناهج العقل ونتائج العلم التي جاء بها النمط المعرفي الحديث". (سؤال، 92)

يستهلك موقف الشاطبي في منع كل علم لم يكن معهودا لدى العرب؛ تحت عنوان "ما ليس تحته عمل"، وتناوله هو تحت عنوان المقولة السلفية القديمة "العلم النافع"، ويحدده بأنه: "هو ما كان باعثا على العمل"؛ أي العمل الديني. (سؤال، 97) ومن هذه المعارف علم المستقبليات الذي يقوم على التنبؤ، فيعترض عليه بدعوى أن التنبؤ كلام في الغيب. يقول: "إن الكلام عن ظهر الغيب هو زيادة في السلطان(القدرة) مشبوهة" فليزم صرفه؛ بل صرف: "كل علم يكون في الزيادة فيه احتمال خروجه على الضرر، لا يجوز أن يعد من العلوم المقبولة". (تجديد، 134-141)

وإذا كان الشاطبي اتخذ "معهود العرب الأميين"، معيارا لتحديد المقبول والمرفوض من العلوم في الحياة الإسلامية، فإن طه عبد الرحمن اتخذ مجال التداول، وهو إعادة انتاج لمعهود الشاطبي بأسلوب مختلف، معيارا: "يحمل كل ما يرد من ألوان الثقافة ومظاهر الحضارة على التبدل بحسب مقتضياته التواصلية والتفاعلية"؛ فمجال التداول يجب أن: "يمارس عليها توجيهه". (تجديد، 250)

وفي سياق هذا التوجيه والتبديل، الذي يسميه ـاصيلا وتقريبا، قرر بأن العلوم: "مثل العلوم الرياضية والإعلامية والطبيعية والكيميائية والبيولوجية (...) أيا كانت، ينبغي أن تخدم الحقيقة الشرعية الإسلامية". (سؤال، 189) ونظيره عند الشاطبي ورد في سياق موقفه من البحث في العلوم النظرية؛ إذ يرى: "أنه شغل عما ينبغي من أمر التكليف، الذي طوقه المكلف بما لا ينبغي"، وادعى أنها علوم لا تفيد المسلم حتى في: "تدبير رزقه". يقول حتى: "وإن فرض أن فيه فائدة في الدنيا، فمن شرط كونها فائدة شهادة الشرع لها بذلك". (الموافقات، 1، 26، وأنظر تديين، 24)

ولا يكتفي الرجل بذلك؛ بل يدعو إلى اخراج المسلمين اليوم من عصرهم الروحي، بمنجزاته القيمية والفكرية والمعرفية، عن طريق “التطهير". يقول: "لما ترسب فينا من المعلومات المنقطعة عن القيم الأخلاقية والمعاني الغيبية تحت تأثير النمط المعرفي الحديث، كانت مهمة التخلق المؤيد أن نقوم ب "تجديد التربية" لمداركنا حتى تطهرنا من هذه الطبقات المعرفية المترسبة". لماذا؟ يقول لأن: "النمط المعرفي الحديث غير مناسب إن لم يكن غير صالح للتوسل به في بناء معرفة إسلامية حقيقية". (سؤال، 110-111) ويبدو أن هذا الموقف هو تصريف لموقف الشاطبي حول العلوم غير المعهودة لدى العرب ومنها علم الطب الذي يقول عنه: "فقد كان في العرب منه شيء لا على ما عند الأوائل؛ بل مأخوذ من تجارب الأميين غير مبني على علوم الطبيعة (...) وعلى ذلك المساق جاء في الشريعة". الموافقات، 2، 54، وتديين، 97)

ومثلما نسب الشاطبي "التشابه في النص" إلى القارئ (الموافقات، ج 2، 19)، ينسب طه مشكل "تعارض النصوص" إلى القارئ أيضا وليس إلى النص نفسه. (روح الدين، 76)، ويرى ان السعي إلى تطوير وتحسين الخلقة، اتهاما لفعل الخلق الإلهي بالنقص. (بؤس، 89)، فقد قرر الشاطبي قبله أن العمل على "تحسين ما قبح من الخلقة" ممنوع.

وبخصوص المواقف، التي يبدو أنه لا يتسع المقام لمقاربتها، والتي تجد أفضل مصادقها في نقد طه عبد الرحمن للجابري، نكتفي بطرح السؤال هل كان نقده له موضوعيا؟ بما تقتضيه من اظهار ما هو إيجابي قبل ما هو سلبي. ويبقى ما قدمته في المقالة مجرد أمثلة يمكن استقصاء الكثير منها تتصل بالسلفية القديمة التي يمثلها أهل الحديث، وابن تيمية وتلميذه ابن القيم، إضافة إلى الشاطبي.

***

حسن العلوي - كاتب مغربي

في المثقف اليوم