أقلام فكرية

حاتم حميد محسن: كيركيجارد وفهم الحياة رجوعا؟

كان لكتابات الفيلسوف الدانماركي سورين كيركجارد (1813-1855) تأثيرا عميقا على الفلسفة والثيولوجي والادب. يعبّر كيركجارد عن القلق والوعي الذاتي والتوتر المصاحب لوجود الانسان اليومي بطريقة رائعة وجذابة، وبهذا التركيز العالي على ما يزعجنا رسّخ كيركجارد سمعته كأديب فذ، ألهم الكثير من الوجوديين في القرن العشرين.

احدى سمات ظروف الانسان التي يتعامل معها كيركجارد مباشرة هي اننا نتحرك من خلال الزمن باتجاه واحد. وبالنتيجة، نحن لا نعرف ماذا يخبئ لنا المستقبل، ولا نعرف ايضا مدى تأثير خياراتنا عليه. ان فهمنا للأحداث يحصل فقط بعد حدوثها لنا. قول كجارد الشائع حول هذه المسألة:

"الحياة يمكن فهمها فقط بالرجوع الى الخلف، ولكن يجب ان تُعاش نحو الأمام".

هذا القول هو في الحقيقة نسخة مختصرة لأحدى أعمال كيجارد المكتوبة. وبينما قد يبدو القول ملاحظة بريئة، لكن نتائجه على حياتنا النفسية عميقة. هذه النتائج تصبح أوضح عندما ننظر بكامل المقطع لكير كجارد:

" صحيح حقا ما تخبرنا به الفلسفة، ان الحياة يجب ان تُفهم بالرجوع الى الماضي. لكن في هذا، ينسى المرء الفرضية الثانية، وهي انها يجب ان تُعاش نحو الأمام. هذه الفرضية كلما جرى دراستها بطريقة دقيقة، كلما انتهت الى استنتاج دقيق بان الحياة في أية لحظة لا يمكن فهمها بشكل كامل، ذلك بسبب عدم وجود ولا لحظة واحدة يتوقف بها الزمن كليا لكي أتمكن من القيام بهذا،فلابد من العودة الى الوراء" .

نحن باستمرار نتحرك الى الأمام في زمن. لا نحصل في أية نقطة على مساحة للتنفس لنتوقف ونفهم الواقع، انه باستمرار ينكشف أمامنا. الحاضر تيار دائم من الظهور، عندما نحاول الإمساك به في مكان ما من خلال أوصافنا المشوشة له،أفكار، مفاهيم، سينزلق بين أيدينا. ولهذا نحن محكوم علينا الى الأبد لنعيش حياتنا بمعلومات وفهم غير كاملين. لا يهم ما نريد ان يحدث، نحن لا نستطيع ابداً معرفة ماذا سيحدث، ولا أمل لنا في فهم مباشر له عندما يحدث. حياتنا المستقبلية قد تتفرع الى مختلف الإمكانات في تصوراتنا، لكننا نستطيع فقط نعيش إمكانية واحدة منها، وحتى الواحدة التي نختارها من غير المحتمل ان تسير كما مخطط لها.

ميلان كونديرا Milan Kundera الكاتب الروائي الفرنسي يصف هذه السمة للوجود باختصار في روايته (خفة الوجود التي لا تُطاق،1984) بالقول:

"تحدث حياة الانسان فقط مرة واحدة، والسبب في اننا لا نستطيع الحكم على أي من قراراتنا جيدة وأي منها سيئة هو انه في موقف معين نحن نستطيع فقط اتخاذ قرار واحد، نحن لم نُمنح حياة ثانية او ثالثة او رابعة نقارن بها مختلف القرارات".

هل نقبل دون تذمر هذا النقص في المعرفة وما تسببه لنا من قلق؟ كوننا نستطيع فهم الاشياء فقط بالنظر الى الخلف هذا يجب ان يخبرنا شيئا هاما حول الكيفية التي يمكن ان نتعامل بها مع الحياة بشكل أفضل. اذا كنا نصر باستمرار على محاولة التخطيط والتنفيذ لأحسن حياة ممكنة، فان كل ما نستطيع فعله هو ان نحاول إبعاد المخاوف واللايقين والتوقعات عندما نتجه للأمام نحو مستقبل مفتوح وغير معروف.

ولكن لو قبلنا اننا سوف نمتلك دائما معلومات غير كاملة، عندئذ سنرى عبثية أي محاولة للتخطيط والتحكم بكل ما يحدث من أشياء. نحن ندرك، كما يشير الفيلسوف الرواقي ابكتيتوس ايضا بان الإصرار على تجسيد الواقع بطريقة معينة سيقود الى الاحباط. في شعار لكيركجارد والذي عادة لم يظهر في كتاباته: "الحياة ليست مشكلة بحاجة الى حل، وانما هي واقع يجب ممارسته".

نحن لم وسوف لن نمتلك المعلومات المطلوبة لحل مشاكلنا اللانهائية – لذا لماذا نتعامل معها كمشاكل تحتاج الى حل؟ الحيوانات الاخرى تعرف هذا أفضل منا: لاشيء هناك يحتاج الى جواب. لا يهم ما نقوم به، الواقع سينكشف باستمرار أمامنا. نحن يمكننا الكفاح ضد هذا بخطط ومشاريع ومنحنيات سردية، لكن الواقع سوف لن يهتم، لأنه ذاته ليس فيه أي مشكلة للحل. الواقع لا يُقهر هو فقط استمرارية بلامبالاة، بلاجهد.

عندئذ، نحن ربما نغيّر منظوراتنا طبقا لذلك. نضع طاقتنا ليس في تفكير لا متناهي  نعالج به الماضي او "نحل" المستقبل، وانما ننسجم بشكل أفضل مع ما يتطلبه هيكل الوجود. التعامل مع الواقع غير المنكشف الآن. المسألة هي ليس ان لا نفكر حول الماضي او المستقبل وانما في اننا لا يجب ان نفكر بهما كمشاكل تحتاج الى حل. الحياة هنا يجب ان تُعاش. أي نوع من التجربة تروق لنا؟ إمضاء وقت مع محب؟ التعبير عن إبداعيتنا الخلاقة؟ الشعور بدفء الشمس على وجوهنا؟ ان معرفة كيف نبني حياتنا حول هذه التجارب الثرية هي "الخطة" الوحيدة الواقعية وهي الحل الوحيد الذي نحتاجه. 

***

حاتم حميد محسن

في المثقف اليوم