أقلام فكرية

عدنان عويّد: دلالات المجتمع المدني وتجلياته تاريخياً

ليس هناك مفهوم ثابت - كمعطى وحيد أوحد - صالح في معطياته ودلالاته لكل زمان ومكان، فالمفاهيم هي عادة تاريخيّة بامتياز، وذلك انطلاقا من مقولة هيجل إن (كل تعريف هو بالضرورة تحديد، والتحديد يعني الثبات، والثبات هو الجمود والموت بذاته.)، وهذا في المحصلة يعني أيضا نفياً لتاريخيّة جوهر ودلالات المفهوم، أي نفي لقوانين حركة وتطور وتبدل الظاهرة في الزمان والمكان.

حقيقة إن المفهوم في جوهره ودلالاته مرتبط بتاريخ نشأته وسيرورة هذه النشأة وصيرورتها، أي هو مرتبط بمشكلات (الصراع والتفاعل الاجتماعي) التي كانت قائمة عند نشوئه، وبالرؤى والأفكار التي تعاملت معه عند هذا النشوء. أو في التعبير الآخر، إن المفهوم ابن بيئته التاريخيّة بكل ما تحمله هذه البيئة من مستويات اقتصاديّة وسياسيّة وثقافيّة، أي هو نسبي. وهذا ما ينطبق في الحقيقة على مفهوم المجتمع المدني.

يأتي مفهوم المجتمع المدني وفق هذه المعطيات على أنه: تحالف أو مجموعة من التحالفات الاجتماعيّة التضامنيّة مثل: نقابة، حزب، منظمة، جمعية خيريّة، أو اجتماعيّة، أو ثقافيّة ... الخ، لها أهدافها ومصادر تمويلها وطموحاتها ومصالحها المحددة بناء على طبيعة مكوناتها الاجتماعيّة و(حواملها الاجتماعيّة) من جهة، وعلى طبيعة المشكلات الماديّة والفكريّة، أي (حالات الصراع والتفاعل الاجتماعي والأيديولوجي) التي تعيشها هذه البنية الاجتماعيّة أو تلك في المرحلة التاريخيّة المحددة أيضاً من جهة ثانية. لذلك من هنا نستطيع عبر متابعتنا لنشوء المجتمع المدني وحالات تطوره، أن نحدد في نطاق السياق التاريخي ثلاثة نماذج أساسيّة مرّ بها المجتمع المدني هي:

الأنموذج الأول: وهو الأنموذج الذي تم فيه تجاوز المجتمع (الأبوي) أو ما يمكننا تسميته بالمجتمع ما بعد الأبوي، حيث بدأ المجتمع المدني يتشكل هنا عندما راح المجتمع الأبوي هذا يأخذ بالتفسخ، ليفسح في المجال أمام معطيات ملامح مجتمع جديد، بدأت تتأسس فيه سلطة ومؤسسات تقود الدولة والمجتمع، هذا ويمكننا أن ندخل في هذه الصيغة أو الأنموذج، المجتمع العبودي والإقطاعي. ففي هذه المرحلة من المجتمع المدني بدأ الإنسان يمارس السياسة والنشاط الاقتصادي والثقافي كحرفة ومهارة خلقها أو صنعها هو بنفسه.

هنا بدأت تظهر على الواقع العملي والفكري أسس النظريات السياسيّة – المدنيّة بقيادة طبقة النبلاء ورجال الدين والملك وحاشيته، ثم الطبقة البرجوازية الحديثة أو الوليدة التي راحت تطرح نفسها كمشروع حياة جديدة يقاوم سلطة الإرث العائلي الارستقراطي والملكي والتكليف الإلهي، لتفرض بدلا عنهما سلطة الشعب والجماعة، وهذا هو أصل الانتقال إلى مجتمع الحداثة أو المجتمع المدني الحديث. الذي (أخذت فيه الدولة تتطابق هنا مع المجتمع المدني) .

عبر هذه المنطلقات السياسة الحديثة (المجتمع المدني)، راحت تتضح وتنضج أكثر فأكثر ملامح جميع المفاهيم الأخرى مثل الديمقراطيّة، والعلمانيّة، والمواطنة، ودولة القانون، والتعدديّة ... الخ .

الأنموذج الثاني: ونجد في هذا الأنموذج معطيات أو تجليات جديدة للمجتمع المدني، ففي الوقت الذي أوجدت فيه الطبقة الرأسماليّة أسس المجتمع المدني في صيغته الحداثيّة عبر تجاوزها السلطة الأبويّة والدينيّة والعرف والعادة، ووصولها بالمجتمع إلى المطالبة بدولة القانون، والعلمانية والديمقراطية ، والحرية والعدالة والمساواة ... الخ، نجد الطبقة الرأسماليّة ذاتها حاملة هذا المشروع المدني، تعجز عن السير به حتى النهاية عندما راحت مفرداته أو قوانينه تصطدم مع مصالحها، فبدأت تحرف دولة القانون والمواطنة عن مسارها الحقيقي، وتفرغ كل شعارات هذا المجتمع الحديث من محتواها الحقيقي (الديمقراطية، العلمانية، الحرية، العدالة، المساوة)، وبخاصة في الجانب السياسي، الذي بُذلت من أجل تحقيقه التضحيات الجسام، حيث راحت دولة القانون تعمل لخدمة مالكي الرأسمال فقط، أما بقية الشعب فراح يعيش حالات من الاستلاب السياسي والاقتصادي والثقافي، إضافة إلى تصدع البنية الاجتماعيّة بكل مكوناتها والتوجه نحو الفردانيّة وتشييىء الإنسان وتسليعه وتغريبه.

تحت مظلة هذا النظام الرأسمالي الذي أخذ يفصل المنتج عن المالك مرة أخرى، ازدادت هوة الاغتراب بين المنتج وإنتاجه، الأمر الذي تحولت فيه الحريّة إلى قيد بدلا من أن تكون وكما وعدت بها هذه الطبقة الرأسماليّة عند نشوئها ووصولها إلى السلطة سلاحا لتحقيق كرامة الإنسان، وتحقيق إبداعاته واثبات ذاته.

نقول: أمام كل هذه المعطيات جاء من يدعو إلى بناء أنموذج جديد للمجتمع المدني ودولة القانون، وذلك عبر ربط الحريّة الاجتماعيّة بالحريّة الاقتصاديّة و السياسيّة، وهذا هو الأنموذج الاشتراكي.

إن أنموذج المجتمع المدني في الدولة الاشتراكيّة، هو المجتمع اللاطبقي الذي يهدف إلى تحقيق حالة الانسجام ما بين الدولة والمجتمع عبر الفسح في المجال واسعا للجماهير كي تشارك في معظم القرارات التي تهم حياتها ومستقبلها، وذلك من خلال منظماتها الشعبيّة ونقاباتها واتحاداتها وكل الهيئات الحزبيّة الأخرى التي تعمل لمصلحة المجتمع.

أما الوسائل والأساليب التي يمكن أن تستخدم لتحقيق هذا الأنموذج فيمكننا حصرها وفقا لرؤية المفكر (غرامشي) في اتجاهين هما:

الأول: ويأتي عبر السيطرة العسكريّة أو شبه العسكريّة على الدولة، أيأخذ الدولة دورها كقوة في فرض أنموذج الدولة والمجتمع المدنيين، أي العمل من خلالها – أي الدولة - على إعادة هيكلة مؤسساتها وقوانينها وفق طموحات ومصالح وأهداف الحوامل الاجتماعيّة القائدة لهذه الثورة الاشتراكيّة، وغالبا ما تأتي شعارات ومصالح هذه الحوامل عند بدء الثورة منسجمة مع طموحات ومصالح الجماهير الكادحة، أو المضطهدة عموما.

الثاني: ويأتي عبر السيطرة الأيديولوجيّة والثقافيّة عموما، وهذا التوجه يأتي معبرا بل مرتبطا بنشاط مايسمى – حصرا - بالمجتمع المدني ومؤسساته.

يقول غرامشي في هذا الاتجاه: يمكن لدعاة الاشتراكيّة أن يعملوا على تطبيقها تحت ظل سيطرة النظام الرأسمالي الاحتكاري انطلاقا من تأسيس مؤسسات المجتمع المدني. أي الانطلاق من المجتمع إلى الدولة وليس العكس. حيث أن هناك دوراً كبيراً للمجتمع المدني و عبر مؤسساته وحوامله (الكيانات الاجتماعيّة التضامنيّة) يمكن أن يلعبه من خلال احتواء (الطليعة المثقفة) لكسب الهيمنة الأيديولوجيّة على الجماهير المعنية في تحقيق المجتمع المدني، ومساعدة الحزب الطليعي الملقى على عاتقه قيادة هذه الجماهير في الخطوة الثانية، وهي السيطرة على الدولة. (1).

هكذا نجد أن غرامشي يدعو إلى تغيير مهام القوى الثوريّة الحاملة للمشروع المدني أو الحداثي هنا، فهي عندما تعجز عن تحقيق هذا المشروع عبر الوصول إلى سلطة الدولة عن طريق الثورة العسكريّة أو شبه العسكريّة، عليها أن تعوّل على الشريحة المثقفة في المجتمع والمؤمنة بتحقيق مشروع الحداثة أو المجتمع المدني لما لهذه الشريحة من دور فاعل في المجال التربوي والإعلامي والثقافي عموما (فالمثقفون العضويون) كما سماهم غرامشي، الملتزمون بقضايا الإنسان ومستقبله هم الأكثر قدرة على التعبئة الاجتماعيّة ونشر وتعميق الوعي للوصول إلى تحقيق هذه المهمة .

الأنموذج الثالث: وهو الأنموذج الذي طرحته الليبراليّة الجديد بعد انهيار المنظومة الاشتراكيّة وتشكل ما سمي "بالنظام العالمي الجديد" الذي راحت تقوده الطبقة الرأسماليّة الاحتكاريّة عبر شركاتها المتعددة الجنسيات. فتحت مظلة هذا النظام بدأت تبرز على الساحة العالميّة جملة من المفاهيم السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة التي أخذت بدورها تُؤدلج وتُطرح في نطاق ما سمي بنظرية "الطريق الثالث في التنمية"، هذه النظريّة التي بدأ يسوق لها فكريّاً منذ البداية في بريطانية بشكل فاعل على يد كل من (ماركريت تاتشر- وبلير)، ثم راحت تتجلى عمليا فيما بعد على المستويين الأوربي والأمريكي، حيث نجد أن معظم ماجاء من مفاهيم في هذه النظريّة يصب في مضمار توسيع مجالات اقتصاد السوق على النطاق القومي والعالمي، أما على المستوى الوطني، فقد بدأ التسويق لصيغة جديدة من (المجتمع المدني) من خلال منحه بعدا تنمويا، وذلك بغية تخليص الدولة من أعباء تقديم الخدمات للمواطن في مجالات العمل والصحة والتعليم .. الخ، بعد أن كانت هذه الدولة قد تحملت الأعباء الكبيرة في هذا الاتجاه أثناء الحرب الباردة، وهذا ما انعكس سلبا (من حيث الزيادة) على كتلة الضرائب المفروضة على الشركات الرأسماليّة لدعم ميزانيّة الدولة لتأمين حاجات المواطنين، فوجد كباتنة الرأسمال الاحتكاري في مفهوم المجتمع المدني الحديث (التنموي) مجالاً لتحميل المواطن أعباء معيشته والتخفيف عن كاهل الدولة تلك الأعباء من جهة، ثم التخفيف من نسبة الضرائب التي تفرض على هذه الشركات من جهة ثانية. وهذه السياسة أيضا تصب أخيرا في نطاق الخصخصة، والتكيف الهيكلي الداعم لاقتصاد السوق، باعتباره الأنجع للتنمية الاقتصاديّة كما يدعون. أما دور الدولة فقد اقتصر على تهيئة البيئة القانونيّة، والبنية التحتيّة الملائمة لنمو القطاع الخاص باعتباره أداة التنمية الأساس، مع توفير المجال الأوسع بالمشاركة والتنسيق مع منظمات المجتمع المدني في الرعاية الاجتماعيّة للفقراء، كون الدولة انسحبت كما أشرنا عن مهمة تقديم الخدمات الأساسيّة للمواطنين بحكم عمليات الخصخصة والتكيف البنيوي أو الهيكلي لاقتصاد السوق (3).

الإرهاصات الأولية للمجتمع المدني في دول العالم الثالث:

إن من يتابع المقدمات الأوليّة لأشكال المجتمع المدني في دول العالم الثالث ومنه الوطن العربي تاريخيّاً، يجد أن هذه المقدمات كانت في بدايتها ذات طابع أخلاقي وديني، حيث كانت المنظمات (الخيريّة) تعمل على مساعدة الفقراء والمحتاجين، وقد لعبت الجوامع ودور العبادة بشكل عام دورا هاما في هذا الاتجاه، ثم أخذت توجهات المجتمع المدني فيما بعد تعمل على خلق الأجواء المناسبة لهؤلاء الفقراء كي يعتمدوا على أنفسهم بعد أن تؤمن لهم سبل اكتساب المهارات العمليّة والخبرات والتدريب وفرص العمل. أما في المرحلة اللاحقة، فقد راحت منظمات المجتمع المدني تعمل على التأثير في الرأي العام والبنية الاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة للمجتمع، بغية تغير الواقع وفقا لرغبة وطموح وأهداف ومكونات ومصادر التمويل لهذه المنظمة أو تلك. وفي السنوات الأخيرة أخذت في الواقع تتزايد حدة نشاط منظمات المجتمع المدني، ويتركز نشاطها في الجوانب السياسيّة أكثر من الجوانب الاجتماعيّة والثقافيّة بغية السماح للموطن بالمشاركة بشكل أوسع في المجال السياسي للبلاد، وفي إدارة شؤون مجتمعه.

بيد أن ما دفع منظمات المجتمع المدني في هذه الدول إلى تصعيد نشاطها السياسي ورفع سقف مطالبها وبخاصة بعد حوادث /11/ أيلول / 2001 / ، فهو ردود فعل الإدارة ألأمريكيّة تجاه العالم الإسلامي ومنه العالم العربي، حيث راحت هذه الإدارة تمارس ضغطها على حكومات هذه الدول من أجل تحقيق إصلاحات في بنيتها الثقافيّة والسياسيّة، وبخاصة في مسألة توسيع الهامش الديمقراطي وحريّة الرأي وإيجاد تحولات في طبيعة الأنظمة السياسيّة، ولم تتوان أمريكا مع أوربا في تقديم كل الدعم السياسي والمادي والمعنوي للقوى والمنظمات التي حملت أو تبنت شعارات التغيير والإصلاح وبخاصة الأيديولوجي والسياسي منه الموافق لمشروع الديمقراطيّة الأمريكية. الأمر الذي أدخل العديد من منظمات المجتمع المدني في مواجهة مباشرة مع الدولة أو القوى الحاكمة في هذه الدولة أو تلك، فأصبحت العلاقة بين الطرفين في نطاق هذه الموجهة علاقة تصادميّة بدلا من أن تكون مدخلا لعلاقة تضامنيّة تصالحيّه تعمل على تنظيم الدولة والمجتمع المدني معا، وخلق الأساس المتين للمواطنة وممارسة الديمقراطيّة.

إن النظر في معطيات المجتمع المدني ودوره وفق هذا التصور يشير إلى أن مشروع المجتمع المدني في معظم تجلياته في هذه المرحلة جاء وكأنه نتاج لمواقف أيديولوجيّة معزولة عن قاعها الاجتماعي، في الوقت الذي هو من نتاج ميدان الوجود الاجتماعي بكل مكوناته الاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة والسياسيّة، وفي حالة تفاعل هذه المكونات. أي هو نتاج ميدان المجال الحيوي لنشاط الإنسان (الفرد والمجتمع) أثناء أنتاج الخيرات الماديّة والمعنويّة تاريخيّا، وليس نتاج مواقف إراديّة أو ذاتيّه تحركها رؤى فكريّة أو سياسويّة مفارقة للواقع.

حقيقة، إن القول، بأن المجتمع المدني هو شرط قيام الدولة الديمقراطيّة وضمان ترسيخ الحريات السياسيّة، وحقوق الإنسان المدنيّة وتجسيدها عمليّاً كما يطالب بها دعاة المجتمع المدني بعد حوادث /11/ أيلول / 2001/ ، هو أمر فيه من التبسيط الكثير، وذلك لتجاهله بأن لامضمون للمجتمع المدني خارج نطاق النشاط الحي والفاعل للإنسان داخل الوجود الاجتماعي، وأن الشعارات التي تأتي من خارج محيط هذا الوجود لن تحرك أصغر نبته في الأرض ما لم ترتبط بالممارسة من جهة، وتتوفر لها الظروف الموضوعيّة والذاتيّة المؤهلة لتجسيدها عبر الواقع من جهة ثانية.

لذلك أجد أن الذين يحصرون الدعوة إلى المجتمع المدني في النطاق السياسي فقط، إنما هم يتجاهلون الظروف الموضوعيّة والذاتيّة المؤهلة لاستيعاب هذه الدعوة من جهة، ويدعون للي عنق الواقع كي ينسجم معها من جهة أخرى، فمنظمات المجتمع المدني وفقا لتصورنا والمعطيات التي جئنا عليها أعلاه، هي تنشط في مجالات عدّة، وتحمل رؤى مختلفة ومتباينة لدورها، وتعتمد وسائل عمل وعلاقات مع الجمهور متنوعة من حيث المصالح والاحتياجات والمطامح والرؤى المجتمعية ومصادر التمويل وغير ذلك.

إذن، إن المجتمع المدني في نهاية المطاف ووفق هذا التنوع والاختلاف في التكوين والأهداف والتمويل والطموح والمكونات الاجتماعيّة، يأتي بناء على حالة التكوين المعقد والمركب والمتباين للتشكيلة الاجتماعيّة الاقتصاديّة المحددة بكل بناها ومكوناتها وطبيعة آليّة عمل هذه المكونات ودرجة تقدمها وارتباطاتها الداخليّة والخارجيّة في أي من مجتمع من المجتمعات .

على العموم، نستطيع القول بالنسبة لوطننا العربي لقد كانت هناك إرهاصات أوليّة لحياة ليبراليّة في الجانب الاقتصادي والسياسي في بعض الدول العربي، وكانت هناك بدايات أيضا لنواة مجتمع مدني في صيغته الليبراليّة في كل من سورية ومصر منذ بداية الخمسينيات، ثم في تونس والمغرب بعد هذه الفترة كما يقول (محمد عابد الجابري)،(2). بيد أن هذه البدايات قد حوربت من قبل الغرب الاستعماري ولم تلق منه الرعاية والاهتمام، لقد شكلت هذه البدايات نقطة انطلاق آنذاك لحركات وطنية شعر الغرب أن نشاطها الاقتصادي سيهدد مصالحه إذا ما نما وتطور، لذلك ضيق الخناق عليها كما أشرنا أعلاه وبخاصة تلك التي كانت تبشر بالتصنيع والإصلاح الزراعي، والتي يمكن أن تؤسس لمجتمع مدني، الأمر الذي دفع الغرب إلى تبني قوى سياسيّة إما ذات توجهات انقلابيّة عسكريّة ودفعها إلى تحريك الانقلابات العسكريّة باستمرار لزعزعة الوضع القائم في المجتمع وخلق عدم الاستقرار، كما جرى في سورية أيام (حسني الزعيم والشيشكلي والحناوي) على سبيل المثال لا الحصر، أو السعي لجلب قيادات تقليديّة ذات توجهات أو مرجعيات عشائريّة أو قبليّة أو طائفيّة كما هو سائد الآن في العديد من الأقطار العربية، وكذا الحال كان مع بعض القوى العسكريّة الوطنيّة التي استطاعت الوصول إلى السلطة عن طريق الانقلابات العسكريّة أو شبه العسكريّة بمساندة جماهيريّة، والتي كانت تطمح لتطوير مجتمعاتها ، (مصر عبر الناصر) على سبيل المثال لاالحصر أيضا، إذ راح كل من الغرب وأمريكا يعملان على إجهاض هذه الحركات وإسقاطها، تارة عن طريق محاصرتها اقتصاديّاُ وسياسيّاً، وتارة عن طريق الاحتلال المباشر، وتارة عن طريق تبني قوى سياسيّة محليّة أو مهاجرة أخذت من شعارات المجتمع المدني (الديمقراطيّة ، وحقوق الإنسان ، ودولة القانون ... الخ) حصان طروادة لتهديد هذه الأنظمة التي ترفض الخضوع لرغبات ومصالح الرأسمال الاحتكاري العالمي، في الوقت الذي نجد فيه أنظمة عربيّة تفتقد حتى إلى وجود دستور وضعي للبلاد تعتبر ديمقراطيّة، ويقدم لها كل الدعم من أجل بقائها واستمرارها في الحكم.

***

د. عدنان عويّد - كاتب وباحث من سوريّة

.............................

الهوامش:

1- للاستزادة في معرفة موقف غرامش عن المجتمع المدني – يرجع "موقع الأخبار" - غرامشي: (المجتمع المدني، الهيمنة الثقافية، المثقف الجماعي) - جوزف عبدالله الأربعاء.

2- مساءلة مفهوم "المجتمع المدني"!- محمد عابد الجابري. راجع موقع:

(http://www.aljabriabed.net/maj22societecivile.htm

3- حول الطريق الثالث في التنمية وتجليات مفهوم المجتمع المدني، راجع مجلة النهج - إصدار مركز الدراسات الاشتراكية في العالم العربي – دمشق – العدد 17- شتاء 1999- دراسة الكاتب والمفكر (سيد ياسين) – بعنوان " العولمة والطريق الثالث" ص 56 وما بعد

في المثقف اليوم