أقلام فكرية

اسعد الامارة: خداع النفس.. والصورة الخيالية!!

أول خداع عرفه الإنسان هو في مرحلة الطفولة – مرحلة المرآة حينما يرى الطفل ذو الستة أشهر - الثمانية عشر شهرًا من عمره صورته أمام المرآة. وجد علماء النفس أن قوة الصورة نفسها كشكل نهائي محمل بالمعنى، قادر على الحفاظ على هوية الطفل، لقد أراد بالأساس أن يتتبع آثار الخيالي في تكوين الأنا والجسد والعلاقة مع الشبيه المرآوي، لكن قدم " جاك لاكان " مفهوم " الآخر"، وجاءت مرحلة المرآة لتشير كيفية عمل الدور التأسيسي لنظرة الآخر في تشكيل الجهاز العقلي للذات، وبعد ذلك أتخذ لاكان المرآة بمثابة استعارة لنظرة الآخر "" جاك لاكان، اعداد هبة صبري، مرحلة المرآة ".          نحن من نحدد ما نريد قبوله، أو رفضه، فهو فينا ونحن مسؤولين عن تكوينه، نخادع أنفسنا بأن ذلك مقبول، وذلك غير مقبول، أو أن يتخيل أحدٌ اشخاصًا آخرين ما هي صفاتهم أو من يكونون، يعني من ثم ما يتخيله هو عن نفسه عما هي صفاته، أو من يكون هو وذلك عند التواصل والتفاعل " كما ذكره أدريان جونستون في فلسفته عن لاكان، في موقع حكمة"، أو حينما ندخله في مدورة الشريعه والحلال والحرام فيبدو الفقه فيه من دواخل أنفسنا وإن أختلفنا فيه، ومنه يكون الافتاء لما تدلنا عليه نفسنا، النفس آمارة بالسوء، في قلوبهم مرض، فزادهم الله مرضا " هذه نصوص قرآنية" وغيرها في النصوص الدينية الآخرى في تعاليم السيد المسيح، أو في العهد القديم، هي النفس في تأويل النص، في رفضه أو قبوله.. وهو خداع للنفس لنفسها في حالة قبول ما تشتهي وتريد، وليست ما هي الحقيقة، نأول النص، أو الفكرة، أو حتى الكلمة لنقبلها وإن خدعنا أنفسنا.

نتساءل: أليس هذا خداع في النفس، ومن النفس، وإلى النفس.. حتى يصبح واقع؟

هذا جزء يسير من خداع النفس فما بالك في فكرة القتل المشروع، والتعذيب المشروع، واغتصاب المرأة المشروع، والعنف الموجه لأقلية ما بحجة تفسير الفقيه، أو المفتي – من يقوم بإطلاق الفتاوى، فما بالك وهو إنسان يفتي بما تحمله نفسه من حقد دفين على نفسه ضد من حمله هذا الحقد: سلطان الأب، سلطان الأم، سلطان الأخ الكبير، سلطان القيم السائدة " الجانب الرمزي " عند جاك لاكان بما يمثله القانون، المجتمع.. الخ، فَتكونَ وأصبح بنية تشكل شخصية أي منا مستندًا إلى أعظم ما يتميز به الإنسان هو التخييل.

لا نستثني أي مخلوق من البشر من الخيال – التخييل لأنه غذاء النفس في اغناء فكره ما، أو فعل سيتحقق، فالخديعه، خديعة النفس لنفسها، وجودنا خدعة نتعايش معها ونقتنع بها، ونحاول أن نخدع الأخر مهما كان قربه منا الزوجة، الأبن، الأبنة، القريب الطيب، إلى أن تخرج هذه الخدعة إلى المجتمع الأوسع في المدرسة، في المهنة، في العلاقات بين الناس، ويصاحب كل خدعة تخييل نفسي، يكون محترف أحيانًا، ويحمل بين طياته تمثل " والتمثل في التحليل النفسي هو تصور أو مجموعة التصورات التي تثبت الرغبة خلال تاريخ الشخص كما تقول الدكتورة نيفين زيور ".

فالخدعة على النفس هي أفتقار، والأفتقار هو الذي يولد الرغبة، لإن الإنسان دائمًا يسعى وراء ما لا يستطيع امتلاكه بالكامل كما يقول " لاكان"، فخداع النفس هو تخييل واعي وبنفس الوقت لاواعي – لاشعوري، وهو الطريقة التي يحاول بها الإنسان تنظيم رغباته في مواجهة نقصه، وهو ما يشكل جزءًا أساسيًا من هويته النفسية كما عبر عنه " جاك لاكان".

الخداع قناعة الإنسان بما ينتجه فكره من خيالات

خداع النفس يمكننا القول بأنه مطاردة الإحساس بالتمزق ومحاولة الإمساك به، حينما تجد النفس نفسها في مواجهة رغباتها غير المقبولة ولا تستطيع المواجهة لهذه الرغبات فتدنو نحو القبول لأنها هي أساسًا مرحلة من العجز والتكامل أو بمعنى أدق الهدم والبناء. فتظهر الاضطرابات النفسية وما أكثرها، إبتداءً من القلق السوي ثم القلق المرضي حتى تقع في حضن الاضطراب النفسي بأسره " توهم المرض أو الوساوس، أو المخاوف المرضية – الفوبيا – أو الاضطرابات النفسجسمية ومنها البهاق أو قرحة المعدة أو الثعلبة، أو القولون العصبي وغيرها، وبرانويا العظمة بكل دقتها وتفاصيلها لأن المعرفة البرانوية تكتسب من خلال علاقتها الخيالية بالآخر كخطأ بدائي في التعرف على الهوية، أو اعتراف ذاتي وهمي بالاستقلالية والسطرة والقدرة مما يؤدي إلى القلق الاضطهادي والاغتراب الذاتي " كما دونه لاكان في مرحلة المرآة.

أننا محمين بعصابنا " امراضنا النفسية " لأنها تدرء عنا الوقوع في عالم الذهان " المرض العقلي من الفصام بهلوساته، وضلالاته، وتخيلاته.. الخ، أما البرانويا بشقيها العظمة والاضطهاد فهي منبع التخييلات وأنواع الخداع النفسي وبالأخص في برانويا العظمة، " لا نقول أن خداعنا لإنفسنا يحمينا بقدر ما هو سور ينهار في أية لحظة، أو هو حصن لا يقينا من مضاعفات نتائجه، وأقلها الاضطرابات بنوعيها النفسسية والعقلية.. ولا ننسى كيف تلعب آليات – ميكانيزمات الدفاع في عملية خداع النفس لغرض تطمينها ولو لحين من القدرة على المواجهة، والامر ذاته عند بعض النظريات المعرفية في معرفة أساليب التعامل الشعورية مع مواجهة ضغوط الحياة الخارجية وتأثرها في النفس، إذا ما كانت النفس تحمل في طياتها الإستعداد – التهيؤ للمرض.

خداع النفس هو القوة المرتكزة على العجر أذا صح تعبيرنا عنه، وهو في الآن نفسه يتحدث عندئذ بما يلي هل أحب أمي، أم أمقتها " إنموذج الاكتئاب بشقيه النفسي والعقلي " وهو الامر نفسه عند الفصامي ولكن بنقيضه، أكرهها لأنها كانت ترضعني سم، ولو تناولنا الحالتين لوجدنا التساؤل التالي: إنها تفرض علي ما تعتقده خيرًا لي !!؟؟ ولكني أخدع نفسي برفضه، أو قبوله بمضض لما قَدمتهُ لي حتى ولو كان ذلك لا يناسب ما أرغبه بأي وجه من الوجوه، وماذا عن ما تحمله نفسي من بنية – بناء تشكلت من داخلي، رغم ان أمي على يقين إنها تفرض عليَّ اخلاصها، وتفرض عليَّ مساعدتها، وأنا ملزم بأن أتحمل كل شيء تحت طائلة اللوم والغضب أو الاصرار على فعل مغاير لما ترغب هيَّ، فلو أني حاولت أن أُفَهمها بأن لذوقي أهمية أيضًا لما خدعت نفسي وخدعتها، ولكني لا أملك هذا القرار لأنني طفل لم أبلغ بعد القدرة على القرار بقبوله، أو رفضه، وهذا ما يتعبني إلى أقصى حد في البلوغ.

 هي الأسرة – الأم، الأب، الأخ الكبير، أو من ينوب عنهم، أما تصنع منك إنسانًا أو كومة عقد. لا نبخس حق من يكون الأب المثالي، أو الأب الواقعي، أو الأب الرمزي في تشكيل بنيتنا السوية إن وجدت، أو القريبة للسواء النفسي وهو التمني على الأقل.

يقودنا الخداع النفسي " أقصد خداع النفس بنفسها " قول الطفل عند " لاكان " في مرحلة المرآة: أنا أصف وأَشكل نفسي بالطريقة التي يصفني بها الآخرون، هكذا أتشكل أمام عيني – أرى نفسي – بالطريقة التي أفترض أن الآخر يراني بها.

وقاد هذا إلى مشكلة العصر وهي الحرية الجنسية عند البعض بعد أن توحد بها – تماهى معها – تعين فيها تعيينًا نفسيًا، أو تقمص من شَكلَ له هذا الخلل النفسي – الجسمي – الجنسي وقول " سيجموند فرويد " مؤسس التحليل النفسي في كتابه ثلاث مقالات في نظرية الجنسية، ص 37، أن أنطباعًا فعالا مبكرًا قد ترك أثرًا باقيًا في صورة ميل جنسي مثلي. وقوله أيضًا.. وأنه لدى كثير غيرهم، يمكن تحديد ظروف خارجية من ظروف الحياة كان لها تأثير معطل، أدت عاجلا أو آجلا إلى تثبيت الانحراف.

خداع النفس في قبول الشيء ونقيضه معًا هي أنه لا يخلص الفرد لنفسه في ما يراه، أنه تَكونْ في شخصية أميل فيها إلى انحرافها عن المعيار السائد بين الصحة والمرض، رغم أن معرفتنا ترى أن الصحة النفسية هي جماع بين التكيف والتطور، وبين التقبل والرفض، وبعبارة أخرى الجمع بين الأضداد في إطار واحد " كما عبر عنه محمد شعلان". ويمكننا القول بأنه مصاب بهوس إجبار الآخرين بهدوء على قبول كل شيء يفعلوه وحدهم تمامًا، ولديه الإحساس بأن الغير عاجز تماما عن أن يفعل شيء ناجح، فضلا عن أن الشخص الذي يخدع نفسه يشعر بالحاجة إلى كسب الاعتراف بالجميل الذي يعزز أمنه الداخلي، ولم ولن يجده إطلاقًا، لأن كل العملية هي خداع.. خداع للنفس.. ولنا جولة أخرى كيف يؤثر التخييل في تكوين سلوك خداع النفس وما الآليات التي يستخدمها.

***

د. اسعد الامارة

في المثقف اليوم