أقلام حرة

ذكريات مع إبراهيم كبّة

رقيقاً  ومؤنساً، هذا هو (إبراهيم كبّة) أستاذي لمادة المذاهب الأقتصادية لسنتين أثنتين ..

حينما عرضوا لقاءه على شاشة التلفزيون في أعقاب إنقلاب شباط الأسود عام 1963 ضمن مجموعة لقاءات عرضت عن قادة شيوعيين ادلوا بأعترافاتهم وأدانوا فكرهم وممارساتهم إبّان حقبة ثورة تموز 1958 (ولم يكن هو شيوعياً)، لم يملك شفيق الكمالي الذي تولّى محاورته خياراً في تقديمه وتعريفه للمشاهدين سوى (نلتقي اليوم بالأستاذ إبراهيم كبّة، أحد الواقفين على الماركسية على صعيد دولي) إعترافاً بمنزلته الفكرية والتنظيرية في الأقتصاد بشكل عام والماركسية بشكل خاص، وحين سأله رأيه في خيانة الحزب الشيوعي العراقي، اجابه بكل صرامة (أرجو تصحيح العبارة، قل أخطاء الحزب الشيوعي وليست خيانة) وأضاف بأن الصحف الصفراء (يقصد بها الصحف ذات التوجه القومي والرجعي) هاجمتني بعنف حينما كتبتُ مجموعة مقالات أدنت فيها الممارسات الفردية للسلطة العسكرية المتمثلة بالزعيم عبد الكريم قاسم، ممّا أحرج موقف الكمالي امام المشاهدين فسارع بعد برهة الى إنهاء اللقاء .

وفي أوائل عام 1969 زار (احمد حسن البكر) رئيس الجمهورية آنذاك، كلية الأدارة والأقتصاد، وقد أستقبله العميد وجميع الكادر التدريسي عدا إبراهيم كبّة الذي بقي في غرفة التدريسيين، وبعد ان جلس (البكر) وراء المكتب في نفس الغرفة، سأل الأستاذ إبراهيم كبّة (كنّا نحن الطلبة متجمعين عند باب الصالة)، ـــ ليش أستاذ إبراهيم ما تعاونت ويّانه بعد الثورة مباشرة بعد أن عرضنا عليك أن تشترك بالوزارة الأولى .    أجابه حتى دون أن يلتفت إليه :

ـــ وليش أشترك ؟!  ليش انتو سوّيتوا جبهة حتى يكون إشتراكي مبرّر ..

بلع ريقه البكر وهو يداري حرجه، وحين نهض للمغادرة ترك العميد ومجموعة الأساتذة خلفه وتقدّم الى الأستاذ إبراهيم صافحه وقال :

ـــ هسه تصير الجبهة، كن مطمئناً.

وغادر الكليّة هو وحمايته وتركنا نحن الطلبة منشغلين بكيفية مداراة إعجابنا وفخرنا بأستاذنا الكبير ..

وبعد أيام من تلك الحادثة جاءه أحد موظفي شركة التأمين الوطنية طالباً منه تسديد ما بذمته من أقساط متراكمة، فأجابه بصوت عال منفعل وأمام جمع من الأساتذة : ـــ إرجع بابا الشغلك،  ب 1963 نهبوا البعثيين كل مكتبتي الخاصة اللي تسوه كل دائرتك .. أشو محد تحرّك وعوضني منكم .

كانت من طبيعة (الأستاذ إبراهيم) حين يلقي محاضرته، يكتب المصطلحات على السبورة خلفه دون أن يلتفت وغالباً ما تكون هذه المصطلحات باللغات الأجنبية، الأنكليزية، الألمانية، الأسبانية، والفرنسية، وفي أحد الأيام قال لنا منفعلاً بعد أن رآنا نستمع إليه دون أن ندوّن شيئاً في كراريسنا ؛

ـــ عجيب .. ليش ساكتين .. متكتبون هاي المصطلحات !!

أجبناه : ـــ أستاذ .. بأي لغة نكتب ؟!

عندها شاهدناه يبتسم للمرّة الأولى بعد أن تذكّر أن الحق معنا وليس معه .

وفي أحدى المرّات وأثناء محاضرته دخل قاعة الدرس رئيس الأتحاد الوطني لطلبة العراق وكان طويلاً وذو ملامح قاسية وطلب بصيغة آمره أن يخرج الطلاّب تأييداً للحكومة لأمر لا اتذكّره الآن، فرفض الأستاذ إبراهيم خروج أي طالب، وحين فشل المسؤول الطلاّبي البعثي وهمَّ بالخروج وهو غاضب سمع الأستاذ يقول بتهكّم وسخرية واضحة :

ـــ الطول طول النخلة والعقل عقل الصخلة !!!

لملمَ فشله وبرقت عيناه بوعد إنتقام جبن من تنفيذه في قابل الأيام .

وأثناء ما كانت المفاوضات جارية وبكثافة لأقامة الجبهة الوطنية، كنتُ حاضراً جلسة سمر في حديقة بيت أحد الشخصيات الوطنية، وكان أبرز الحضور (الأستاذ إبراهيم كبّة) والفقيد (الأستاذ عامر عبد الله) عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي وقتذاك وأحد أهم مفاوضي الجبهة، وقد جرى نقاش حاد بينهما حول جدوى هذه الجبهة، وقد سمعت الأستاذ إبراهيم يقول :

ـــ عامر .. شلون تمدّون أيديكم وتصافحون ذولة القتلة .. انا لحد الآن دم متي الشيخ أمامي يطرّز جدران الزنزانة اللي أحتوتنه ب 63، كانوا يصلونه بالرصاص وهو يهتف بشجاعة نادرة يسقط الفاشست ... كيف نسيتوا ماذا فعلوا بسلام عادل وبقية رفاقه ...كيف ؟!!

تأسّى الفقيد عامر وأجابه بعد ان احتقنت اوداجه وألتمعت عيناه :

ـــ أبو سلام .. من اجل الحفاظ على إستقلالية البلد والنهوض به علينا أن نقلب هذه الصفحة وأن ننسى جراحاتنا ..

أنفعل أبا سلام مرّة اخرى :

ـــ عامر .... ستندمون .

وهذا ما حصل فعلاً .. هرب عامر وندم الرفاق !!

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1296 الاحد 24/01/2010)

 

 

في المثقف اليوم