أقلام ثقافية

علي الطائي: جلسة مع صديقي "الهم"

قصتي مع الليل تحمل في فصولها  كما هائلاً من الأحداثِ وتوحي لقارئِها بأن كل شيءٍ قد صُنِعَ من الهمّ والحزَن. يستقبلُني الليلُ دون كلامٍ ولا سلام، يأخذني إلى مقعدي الذي نصبهُ بيديه، ولا محيصَ عن الجلوسِ فيه، دون رغبةٍ مني بالطبع. يبدأ الصديقُ الليليّ الثقيلُ الذي فرضهُ الليلُ عليّ، "الهمّ" محادثتي. وفي كل حديثٍ يتفوّهُ به كنتُ أوحي إلى أذُنَيّ بأن يلتزما الصمم، ويقرعا طبولَ الصمتِ، كي لا يسمَعا حديثهُ الثقيل. لكنّهُ لا يُبالي بما أحدّثُ نفسي وسمعي به. يتحدثُ دون توقّفٍ، لم يتعلم آداب المحادثة مع الآخرين. يتكلمُ والزهو يملأ حديثَه، ويطلبُ كل ما يشتهي دون خطوطٍ حمراء. يقول : كم من العمرِ أمضيتَ؟ وكم من الليالي قضيتَ؟ لم أفارقكَ يا صديقي!!

قلتُ والترقبُ يملأ فكري: يا صديقي، قضيتُ من عمري سنينَ طوال، على يديكَ تلظَّت، وعلى ضفتيكَ تمشَّتْ، وما كلَّت قوايَ، لأنكَ أودعتَ فيَّ جرعاتٍ من الصبرِ والجلَدِ ما لم يتفق لحيوانِ الركوب!!

ضحكَ صديقي من آخر كلامي وقال: هذا ما كنتُ أنتظرهُ منك، وشنفتُ أسماعي كي أسمعَ ما أودّ سماعه. الحياةُ يا صديقي العتيد راكبٌ ومركوب!! اليومَ قد ركبكَ الهمُّ، وغداً تركبني لا تقلقْ!!

قلتُ في نفسي: ومتى اتفقَ لي يوماً أنني ركبتُكَ؟!

ثم قلتُ له: هل لك رفقةٌ مع الشيطان يا صديقي؟

قال وقد بانت أماراتُ التهكم على محياهُ: نعم مع الشيطانِ يا صديقي! وهل تعلم أضرابَ الشياطين التي ترغب بزيارتك كل ليلة؟ وهل لهؤلاءِ نعتٌ مخصوص يعرفونَ به؟ هل لهم أجسادٌ وأرواحٌ يُعرفون بها؟ أم أنه الخاطرُ الذي يلازمكَ حين يُرخي الليلُ سدوله؟

تحيَّرتُ وأصابني نوعٌ من الذهولِ ولم أحرْ جواباً!!

ثم قلتُ: وهل للخاطرِ دخلٌ في هذا؟ !

قال: الخواطرُ يا صديقي تتمثلُ بصورٍ كصورِ الشياطين، وتأتي دون إذنٍ منكَ لأنكَ قد فتحتَ لها أبوابَ روحكَ ونفسك وقلبك. ولا تظننَّ أنها تزورك في أوقاتِ يقظتِك فحسب، لا لا ... إنها تأتيك حتى في أحلامك أو لحظات غفوتك ومنامك.

قلتُ: وكيف أفرقُ بينها وبينكَ؟!

قال: دعكَ مني، فأنا واحدٌ من هذه الخواطرِ التي تسميها أنت "الشياطين". أظنكَ تخلطُ بين شيئين هما "الهمّ" و "الوهم" !! أنا الأول الذي لا يزورك إلا من حيثُ تعلمُ، وتعرفُ حتى وقت زيارتي. الثاني هو الأخطرُ والأجدى أن تحذرَهُ وتهابه. الوهمُ، يا صديقي، أعتى الشياطين، وأخفى الأعداء. يحومُ حول الأفكار، ويحوطُ العقولَ الضعيفة الخائفة. يأتيك من حيثُ لا تدري، ولا ينتظر عند باب الدخول، لأنه ينفذُ عبر جدرانِ الأفكار، ويخترقُ أقوى الأسوار. يعيش على أوضارِ الجهل، ويتغذى على ضَعفِ الهِمَم، ويرمي الجميع بكل أسلحته المتاحة لديه. هذا هو الشيطانُ الأكبرُ يا صديقي!! هو الذي أسقطَ الدول، ومن قبل أسقط الأديان وخرَّب العقول. هو المَطيةُ الذهبيةُ لأهل الخرافة والجهالة، وسلاح ذوي العقد النفسية المستعصية. يأتيك باسم المقدَّس، وينفذ إليك ، إلى عقلك، بعد أن يضرب على أضعف أوتارك، ويسمعك اللحن الذي تودُّ سماعه.

قلت: ما أبلغ حديثكَ يا "همّ"!!!

قال: وأزيدك، هذا الوهمُ الذي لم تتنبَّهْ إليه، هو الذي أوهَمَكَ أنّي من يجلبُ لك التعسَ، والحظَّ النحس، وإذا دققتَ وأصفيتَ ذهنكَ يسيراً، ستدركُ أنك تؤلفُ الأساطيرَ في فِكركَ، وتنسجُ الخيالَ المروعَ في مسرحِ عقلك. دعكَ من كلّ هذا، ودعكَ مني، فليس كل من يكرههُ قلبُك يضمرُ لك الشرَّ، فلربما كان هذا من خواطر الوهم، ومنزلقات سوء الظن. قم يا صديقي، فلي حسنةٌ في إيقاظكَ من غفلةِ الظنون، وقصرِ النظر في العيون، لك أن تتثاقلَ من حضوري إليكَ كلَّ ليلة، ولك أن تدعوَ الله أن يبعدني عنكَ، ولك أن تكتبَ القصائدَ للتنكيلِ بي وتعليقِ أسبابِ تعسكَ على مسامير الظن السيء بي، لكنك لن تجدَ رفيقاً ناصحا مثلي، ولن تصحبَ زميلاً فاضحاً للوهمِ غيري. نم هانئاً على فراشك الوثيرِ، وغطِّ العيونَ بخاطرٍ يبعثُ فيك الخير من جديد، ويكشف عنكَ دياجير الوهم، الذي يطفيء  أنوار الطريق. نم يا صديقي، بين أحضانِ الكلمات الناطقة بتباشير التفاؤلِ ونثيث الأمل. دعكَ مني، فأنا وهمٌ لكنه ليس شيطاناً رجيماً، تتعوذُ منه لرب العالمين، قم وتوضّأ بأقباس الحقيقة وأنوار الواقع مهما كان شديد الوطأة. قم وصلِّ في محراب الأمل، ولا تلتفتْ إلى ورائك كي لا تفسدَ صلاتك بالخوف والقلق من دسائسِ الهم واليأس. قم وادعُ بباطنِ عقلك وبياضِ سريرتك، أن أكونَ رفيقاً دائماً لك، حتى تتخلص مني بي... تصبح على خير يا صديقي...  

***

بقلم د.علي الطائي

 7-5-2024

في المثقف اليوم