قضايا

جعفر نجم نصر: هل يمكن اقامة لاهوت تحرير شيعي؟

لاهوت التحرير هو تيار فكري مسيحي ظهر في أمريكا اللاتينية في أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، كردّ فعل على الفقر الشديد والظلم الاجتماعي الذي عانت منه مجتمعات تلك المنطقة. أسسه لاهوتيون مثل غوستافوغوتييريز (الذي يُعتبر الأب المؤسس)، وليوناردو بوف، وآخرون..

يركّز لاهوت التحرير على قراءة الكتاب المقدس من منظور الفقراء والمظلومين، معتبرًا أن رسالة المسيح هي تحرير الإنسان من جميع أشكال الظلم والاستغلال، وليس فقط الخلاص الروحي الفردي. لذلك يرى أن الكنيسة يجب أن تنحاز للفقراء وتقف إلى جانبهم في مواجهة القهر السياسي والاقتصادي.

 ولقد وصلت بعض إرهاصاتها إلى العالم الإسلامي، فظهر أثر ذلك ما اصطلح عليه بـ(اليسار الإسلامي) ويقصد بها مواجهة الطبقة المستبدة والمالكة للثروة عبر منطق إسلامي /قراني /حركي. وكان من ابرز شخصيات هذا الاتجاه على سبيل المثال (حسن حنفي ونصر حامدابو زيد)..

ولو انتبهنا قليلا إلى الميراث الشيعي سنجد ان تجربة اهل البيت (عليهم السلام).. تثبت وجود حركة تحررية اصلاحية لعل معالمها تتضح كليا بتجربة الامام علي عندما استلم الخلافة وعمل على إنصاف المحرومين والمهمشين والدلائل والبراهين من الكثرة والسعة ما يعرفها المحب والمبغض في ان واحد ولعل رسالته إلى واليه على مصر مالك الأشتر اختصرت ذلك كله عندما اهتمّ بالطبقات الفقيرة والمحرومة.. وما ثورة الامام الحسين سوى تجسيد لرفع المظلومية والحيف واحقاق الحق ومواجهة الإستبداد الأموي.. ولعل تفاصيلها من السعة والشهرة تكفينا مؤونة الحديث عنها بنحو تفصيلي..

 ولو رجعنا إلى زمن قريب في الميراث الشيعي سنجد اولى ارهاصات الحركة التحررية في ثورة العشرين التي تزعمها محمد تقي الشيرازي (١٩٢٠)

وقبلها حركة المقاومة التحررية التي كان ابرز شخصياتها محمد سعيد الحبوبي (١٩١٥) الشاعر والفقيه والعارف الكبير.. ولقد كانت مرحلة (المشروطة والمستبدة) فالمشروطة تريد الحاكم الموجه بالبرلمان والدستور مقابل المستبدة التي تريد الحاكم المطلق اليد (المستبد) في ايران والعراق مرحلة مهمة وبها برز المصلح التنويري الاصلاحي الفقيه محمد حسين النائيني (م١٩٣٦) الذي بين بجلاء تام في كتابه (تنبيه الامة وتنزيه الملة )نصرته للمشروطة وضرورة وجود الدستور والحاكم الملزم به.. وهذا المشروع كان لاهوت تحرري شيعي بوضوح تام..

ولقد وجدنا ملامح ذلك لاحقا وفي بداية الستينيات عندما اعلن الامام الخميني مناهضته للشاه وتزعم حركة تحرر ديني /سياسي واسعة.. ولقد قدم مشروع موسع لتحرير الحوزة والمجتمع والسلطة.. وكان كتابه الأبرز في هذا الشأن (الحكومة الإسلامية) والذي هو بالأصل محاضرات في (ولاية الفقيه).. والذي قدم به منظوره الاصلاحي في مواجهة الفقهاء الذين اسماهم ب(المتقدسين).. الذين يظهرون التقوى ويبطنون النفاق والتعالي على الجماهير المسحوقة.. فطالب (بسحب عمائمهم).. بل طالب ان تكون أموال الخمس للدولة لا لهم لانها مفسدة لهم ولسلوكهم الديني ولأنها يجب ان توزع على المحرومين والمهمشين.. وقال ان: أموال الخمس هي أموال ميزانيات دولة ليس من حق الفقيه الاستيلاء عليها مطلقا..

وهو بذلك النحو قدم إرثا يمكن البناء عليه لـ(لاهوت تحرري شيعي).. ولقد كان الامام المغيب موسى الصدر صاحب مشروع تحرري واضح المعالم عندما أسس عام ١٩٧٤في جنوب لبنان (حركة المحرومين) لأنصاف الشيعة المهمشين، ومن الواضح انه كان متأثر بتجارب اللاهوت المسيحي العالمي.. وقبلها بطبيعة الحال بالميراث الشيعي التحرري..

وفي السبعينيات يمكن عد علي شريعتي (م١٩٧٧).. خير مثال للمفكر الذي كان ميالا بوضوح إلى اليسار الإسلامي وهذا ما تجلى في كل أعماله التي كانت تدور حول فكرة محورية الدين أما يكون محررا للجماهير او مستعبدا لهم وفكك بأطروحات متعددة مغزى ذلك.. وفي السياق نفسه يجب ان لاننسى المفكر العراقي هادي العلوي الذي قرأ الإسلام وتجارب المتصوفة والعرفاء بسياق تحرري عبر مواجهة السلطة وبغض النظر عن تلك الإسقاطات الفكرية إلا انها مهمة في مشروع لاهوت تحرري شيعي..

وفي العراق في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي كان الصدر الاول (محمد باقر الصدر)(١٩٨٠)(رحمه الله تعالى).. والصدر الثاني (محمد الصدر)(١٩٩٩). (رحمه الله تعالى).. قد قدما تصورا واضحا وجليا عن اصلاح الحوزة والمجتمع والدولة برمتها.. فالأول في كتبه (فلسفتنا) و(اقتصادنا).. ولاحقاً في أطروحاته المجموعة (مجتمعنا).. وفي كتابه (السنن التاريخية في القران).. كان يسعى لتقديم لاهوت تحرري اصلاحي متكامل لكن بعناوين فلسفية مرة وبعناوين فقهية تارة اخرى.. فإصلاح المجتمع كانت من أولوياته بل دعى لإصلاح الحوزة (المؤسسة الدينية).. عبر الدعوة إلى (المرجعية المؤسساتية) وهي ان الحوزة تدار من خلال مجموعة فقهاء ويتركون التفرد بالفتوى وقبض الخمس.. وهي فكرة حوربت من داخل الحوزة مثلما تمت محاربته شخصيا ومشروعه العملاق !!.

اما الصدر الثاني دعا كذلك إلى اصلاح الحوزة والمجتمع في ان واحد واستطاع تأليف قاعدة جماهيرية واسعة ضمت المحرومين والمهمشين بل كان هو شخصيا والى اليوم الزعيم الديني الأوحد للفقراء والمهمشين الشيعة.. وكانت صلاة الجمعة منبرا لافكاره الإصلاحية بنحو واضح..

ان كل ما تقدم ذكره بملامحه الموجزة والمكثفة يدفع إلى السؤال المحوري: هل يمكن تأسيس يسار شيعي تحرري /اصلاحي ؟.. بعبارة اخرى: هل يمكن إنجاز لاهوت تحرري شيعي ثوري انقاذي الان؟.. ربما لا يمكن استخدام عبارة اليسار بطبيعة الحال للحمولات السيئة ولاقترانها بالفكر الماركسي.. ولكن الفكرة المحورية هو ايجاد مشروع شيعي تحرري.. لاجل مواجهة (البرجوازية الشيعية) الصاعدة التي أكلت

 الأخضر واليابس واستولت على الارض والسماء!!!.. اعتقد ان الرهان هو على جيل شيعي غير منغمس

 بالغنائم!!؟.. وغير منبطح لشعبويات الإسلام الفقهي والإسلام السياسي !!جيل شيعي يحتفظ بكل الميراث الشيعي من جهة بعد مراجعة عقلانية ويمتلك وعي تنويري بتجارب العالم الإصلاحية.. ويبقى سؤال محوري وضروري وهو: هل توجد علاقة بين ان يكون الفقيه امثال (الحبوبي والإمام الخميني والسيد السد الثاني) عارفا وبين ان يكون مصلحا وثائرا؟ فهل الحماسة الثورية هي للعرفاء المسلمين

 بالضرورة؟.. وهذا الامر له مغزى بضرورة وجود جيل شبابي يمتلك الحد الأدنى على الأقل من

 الاخلاقيات؟..

من أقوال القس غوستافو غوتييريز مؤسس (لاهوت التحرير) في كتابه المركزي (لاهوت التحرير):

(إن عبادة الله إن كانت تنفصل عن تحرر الفقراء والمهمشين فإنها تتحول إلى صنمية).

(A Theology of Liberation, Orbis Books, 1973, p. 52)

ويضيف في موضع آخر:

“الإيمان الذي لا يسعى للعدالة هو إنكار لله، حتى لو رددنا اسمه بقداسة.”

(المرجع نفسه، p. 103).

القس البيروفي ومؤسس لاهوت التحرير اليساري غوستافو غوتيريز

***

ا. د. جعفر نجم نصر – أستاذ علم الاجتماع / الجامعة المستنصرية

في المثقف اليوم