قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية منهجية لقصيدة "تراتيل امرأة.. ووطن"

للشاعرة الفلسطينية عفاف عمورة
تُعد قصيدة "تراتيل امرأة... ووطن" نصاً شعرياً مركباً، تتقاطع فيه الذات مع الوطن، الأنثى مع القصيدة، الحلم مع المنفى، في نسيج لغوي تتجاوز فيه الشاعرة الأطر التقليدية لتبني رؤية كونية وجودية. هذا النص يستدعي قراءة نقدية متعددة المناهج تكشف خفاياه الجمالية والدلالية.
ففي مجال المقاربة البنيوية نجد أنّ القصيدة تتوزّع على ستة مقاطع (تراتيل)، تحمل بنية دورانية مغلقة، حيث يتكرّر حضور مفاتيح دلالية مركزية: (الشعر – الوطن – القصيدة – الأنا)، مما يشكل عُقداً شبكية من العلاقات البنيوية. بخاصة وأن البنية الإيقاعية الداخلية وعلى الرغم من غياب الوزن التقليدي، قائمة على التكرار الصوتي والتركيبي،
مثل: "أنا فيك..."، "يا وطني..."، "يا شعر..."، مما يولّد موسيقى نصيّة هادئة تتناسب مع طبيعة التراتيل.
يتقاطع الزمان (الحاضر/الماضي/المطلق) مع المكان (الوطن/الغربة/المنفى) ليشكلا محورين متقابلين داخل النص، يجعلانه مفتوحاً على احتمالات عدة، بينما تحافظ الذات الشاعرة على موقعها كمركز دلالي.
أما في سياق المقاربة التفكيكية ووفق المنهج التفكيكي، نلمس في النص انزياحاً عن المعاني الثابتة: الوطن ليس محدداً جغرافياً، بل حالة وجودية متعالية تقول الشاعرة عفاف عمورة: "وسيبقى في دمي وطن غريب..."
القصيدة تتحوّل إلى كائن حي، يحيا في الذات: "أنا القصيدة..."
الشعر يصبح الخلاص والانعتاق: "الشعر يختار انتصاري في الدجى..."
النص لا يمنح معناه دفعة واحدة، بل يتشظى إلى دلالات متداخلة: الأنوثة، القصيدة، الوطن، الذاكرة، كلها ذوات تتحاور وتتداخل حتى تتقوض الفواصل بينها، لتصبح الذات والآخر، الداخل والخارج، الحلم والواقع، أوجهاً لحقيقةٍ واحدة غير قابلة للحسم.
حتى صياغة المفارقات (كالنقاء/الحلم الضائع، النصر/الذي لم يكتمل) تعزز هذا التعدد الدلالي.
وهذا ما يدفعنا للبحث في المقاربة الأسلوبية لقصيدة ( تراتيل امرأة... ووطن من شعر): القصيدة غنية بالصور البلاغية: الاستعارة: "زمرة دمي عصر الفرادة" – "المحار في محاري سره" – "أنا زهرة لم تُستباح..."
الكناية: "صوتي يتغرغر في القصيدة..."
الرمزية العميقة: البحر، النخيل، الغيم، الحقل، كلها محطات لرحلة الذات.
الإيقاع الداخلي يظهر عبر التنويع التركيبي وتكرار البنى:
"أنا فيك..."، "يا شعر..."، "وطني أنا..."
كما تُشكل الألفاظ الحسية (الضوء، الموج، الحقول، المطر) توليفة جمالية تنقل القارئ من الواقع إلى أفق شعري تأملي.
تتسم اللغة بطابع روحاني صوفي يمزج بين البُعد الشخصي (كأنثى) والقومي (كوطن) في نبرة عالية الشفافية، دون خطابية زائدة.
خاتمة:
قصيدة "تراتيل امرأة... ووطن" نص مفتوح، يعكس أزمة وجودية عميقة للذات الأنثوية الفلسطينية، عبر استدعاء الشعر كخلاص، والوطن كحلم، والقصيدة كملاذ.
البنية المحكمة، الغموض الدلالي، الزخم الأسلوبي، كلها تجعل النص قابلاً لقراءات متجددة، يستعصي على التأويل النهائي، ليبقى شاهداً على تجربة شعرية تنتمي إلى الشعر الحديث بمقوماته الكبرى: الاغتراب، الحنين، المقاومة، الأمل، الحلم.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
.........................
تراتيل امرأة... ووطن من شعر
(1)
سيجعلني الشعرُ الأبيُّ كما أرى
وطناً... يفوقُ حدودَ هذا المُنحدَرْ
*
وطناً له سِرُّ الطفولةِ، ضحكةٌ
نَسجتْ عروقَ الضوءِ... من ماءِ الفَجَرْ
*
أخفيتهُ بين الدفاترِ خاشعاً
كي لا يراهُ العابرون بلا بَصَرْ
*
كي لا يكونَ الشرُّ... أُكسيرَ الهَوى،
أو يصبحَ المعنى طعاماً للمَضَرْ
*
الشعرُ يختارُ انتصاري... في الدُّجى،
ويرتقي بي... فوق أحقادِ البَشَرْ
*
كالعائدين من الحروبِ... تكسَّروا
لكنْ على جبهاتِهم ظلُّ الظَّفَرْ
*
فأنا من النُّسلِ الغريبِ... ندرتي
تتماهتِ الأقدارُ فيها والقدرْ
*
زمْرتُ دمي عصرُ الفُرادةِ... حفنةٌ
من ألفِ قطرةِ روحِ أنثى لم تُثرْ
*
فأنا النقاءُ... وسرُّ حلمٍ ضائعٍ،
أنا القصيدةُ... لا يُقاسُ بي العُمرْ
(2)
يا شعرُ... يا وطنَ المعاني البكرِ... يا
رُوحَ القصيدةِ... يا انعتاقَ المنتَظرْ
*
أصغي لصوتِ البحرِ... ينطقُ في دمي،
فترتجفُ الأطيارُ... ينهضُ في السَّحَرْ
*
كُلُّ الموانيءِ... كلُّ شطآنِ النوى،
تعبرُ بقلبي... حينَ يُشعلُهُ الوَتَرْ
*
كلُّ المرايا الخاشعاتِ بمحرَبي،
تكشفْ وجوديَ من ضياءٍ أو شرَرْ
*
وأمشي على حزني... كأنّي عابِرٌ
حقلَ القصيدةِ... كي أسيرَ بلا عَثَرْ
*
فينحسرُ الموجُ العقيمُ... وتبتدي
جداولُ المعنى... انطلاقاً وانفجَرْ
*
يا كلَّ أزمنةِ الفُتونِ... عبرتني
حتى غدوتُ من الضياءِ بلا أثرْ
(3)
أنا هاهنا... أمضي على وجعي الجميلْ،
أعصي النسيانَ، أُمارسُ خطوَ من غَفَرْ
*
صوتي يتغرغرُ في القصيدةِ... واقفاً
كجدارِ معبدٍ... على وترٍ... وخَفَرْ
*
في هذه الأرضِ البعيدةِ... إنني
أحيا وأُولدُ كلَّ ثانيةٍ... سَكَرْ
*
هذا هو الوقتُ العقيمُ... وجنتُنا،
هذا جَنَينا... في عبورِ المُنتَهَرْ
*
فلنُشعلَ الذكرى قناديلَ النَّجا،
ونقيمَ قدّاسَ المعابرِ... بالسَّحَرْ
*
وألفُ سلامٍ يا قصائدَ عشقي الـ
منفيةَ في زمنِ الخيلاءِ... والقهرْ
(4)
يا وطني المخبوءَ في سرِّ القصيدْ،
يا ظلَّ ذاكرةِ المحارةِ... يا بُعْدْ
*
أنا فيكَ... كالغيماتِ تسري في الدجى،
وتفيضُ من جُرحِ الترابِ... ومن وَجْدْ
*
أنا فيكَ... كالنخلِ المضيءِ... إذا انحنى،
عادَ إلى الشطآنِ ينثرُ ألفَ بُرْدْ
*
يا صمتَ غارٍ كانَ سرَّ الوحيِ... في
حَجَرٍ تكلَّمَ... ثم أزهرَ في الخُلدْ
*
إنّي المحارُ... وفي محاري سِرُّهُ،
والريحُ تسألُني... فأمنحُها العهدْ
*
وطني أنا... وأنا القصيدةُ حينما
أمشي عليهِ... يعانقُ النَّبضُ الجَسدْ
*
وأعودُ طفلاً... طاهراً... متخلِّياً
عن كلِّ شيءٍ... غيرَ ذاكرةِ الخُلدْ
(5)
يا غربتي... كم كنتِ حضنَ احتمالهِ،
يا ضفّةَ التعبِ الجميلِ... بلا أمدْ
*
يا وطنَ الأسماءِ... يا وطنَ النساءْ،
يا عزلةَ الأنثى... التي خُلِقَتْ نُدُدْ
*
أنا لا أضيعُ... فكلُّ خطوي قصيدةٌ
والكونُ قافيةٌ تسيرُ بلا حَدَدْ
*
هذا انعتاقي... لا شقيقَ لهُ سوى
صوتِ الصلاةِ... وموطني الأولِ... الأبَدْ
(6)
أنا فيك يا شعرُ... ما بينَ الحُنا
وطني الذي يختارني... بيتاً وسَدْ
*
لأعودَ في زمني القديمِ... مبللاً
بندى الحقيقةِ... بالمرايا... بالوَعَدْ
*
أنا فكرةُ النصرِ الذي لم يكتملْ،
أنا زهرةٌ... لم تُستباحْ... ولم تَزِدْ
*
أُولدُ من موجِ القصيدةِ... من رؤى،
وأعودُ أغزلُ من صهيلِ الريحِ... غدْ
*
وسيبقى في دمي وطنٌ غريبٌ...
لا يراهُ سوى القصائدِ... واليدْ.