أقلام حرة

تعضيد الدولة العراقية .. ضرورة وطنية

همومها وأولويتها الأساسية، فهي حكومات شغلت نفسها بشعارات هوجاء خاوية لم يبق منها إلا رماد الذكريات البائسة فلا "وحدة عربية" تحققت ولا "اشتراكية عربية" أوصلت المواطن العراقي إلى حالة الطمأنينة في عيشه وكرامته ولا "دولة قوية" استطاعت ردع الأخر من أن يطمع بها.

الشيء الوحيد الذي تحقق في سابق دولتنا هو: تضخم ذات الزعيم الدكتاتور، ولشدة تضخم ذاته وانتفاخها انفجرت فتشظت لتشظي معها البلد بأكمله، وبعد أن ولى الحاكم الإله وحكومته الغبية والمتهالكة، بزغ أمل جديد في نفوس العراقيين تمثل بوجود دولة يكون قطب الرحى فيها المواطن بأحلامه واحتياجاته، لكن هذا الأمل سرعان ما بدأ يتلاشى ببروز خراب جديد قائم على صعود فئة من السياسيين الجدد همهم الأكبر والأبرز "الأنا" الشخصية و"ألانا" الفئوية، فئة لا تلحظ إلا مصالحها الضيقة، وهي لا تختلف في رؤاها السياسية والاجتماعية عن رؤى صدام المقبور وزمرته المبادة، نعم هي فئة اختلفت عن صدام وزمرته شكلا وشعارا  لكن في الجوهر فهما متماثلان .

فمثلما  قتل صدام مفهوم المواطنة الجامعة بطائفيته وروحه العشائرية التي طبع الدولة بها، استمر اغلب سياسيو المرحلة الراهنة بتكريس هذا القتل وتأصيله لكن بأشكال مختلفة عن الحقبة الصدامية، فهم جعلوا المحاصصة الطائفية والعرقية هي الأداة المسيرة للدولة بعدما كان صدام يسيرها بنظام دولة العشيرة والطائفة الواحدة ،واستبدلوا اوحدية ودكتاتورية صدام باوحديات وزعامات متعددة ، فأصبح عندنا اليوم زعماء متعددون بتعدد الطوائف والأعراق، وتلبست جلهم الدكتاتورية بشكل مريع، فهم الذين يقررون نيابة عن الشعب رغم انفه وخارج رغبته، لأنهم يظنون ويزعمون أنهم اقدر من الشعب في معرفة ما يضره وما ينفعه، وهنا يكمن داء الدكتاتورية اللعين الذي يزيد في ضياع مقومات الدولة الوطنية وبقاء وحدتها الطبيعية القائمة على مفاهيم العيش المشترك، والمساواة في الحقوق والواجبات بين كل مواطنيها من دون أن تفاضل وتمايز بين مواطنيها على أساس انتماءهم الطائفي أو العرقي .

وفي هذا الخضم المتلاطم من فقدان الدولة لمقومات بقاءها الحقيقية والطبيعية ، وفي ظل ظروف البقاء الاصطناعية الحالية للدولة التي شكلت جذورها الأنظمة الطائفية السابقة والمحاصصية الحالية والتي ستقضي على الدولة العراقية عاجلا أم أجلا، نحتاج لثورة وطنية على كافة الأصعدة المفاهيمية والعملية، فعلى صعيد المفاهيم الوطنية وتعضيدها وتفعيل دورها لصالح المجتمع العراقي والدولة العراقية داخليا وخارجيا؛

لابد أن يندفع المفكرون والمثقفون الوطنيون في اخذ دورهم التاريخي الذي ينتظره الشارع العراقي منهم في إشغال الساحة الثقافية والإعلامية بطرح وتفعيل كل ما يدعم الوحدة الوطنية فكريا وثقافيا، وعدم ترك الساحة الإعلامية والثقافية ليشغلها المؤججون الطائفيون والعنصريون، فهذا التعضيد والتدعيم الثقافي والفكري إذا تحقق وتراكم سيجعل الشعب العراقي على المستوى العملي، ينزل بكل ثقله لمؤازرة المشاريع الوطنية الواضحة في شعارها الوطني، وتجسيدها العملي لمشروع الدولة الوطنية، هذا المشروع القائم على أن المواطنين متساوون بالحقوق والواجبات بدون النظر إلى دينهم أو عرقهم .

   إن لملمة أواصر الدولة وتكريس هيبتها ووحدتها لا يتأتى إلا بوجود هبة ثقافية / فكرية، وإرادة شعبية تعاضد كل من يسعى لفرض هيبة الدولة واردتها الوطنية لتدعيم وحدتها الوطنية، وجعلها دولة مطمئِنة لكل مواطنيها، لتنطلق بعدها في فرض هيبتها على محيطها الإقليمي، هذا المحيط الذي استهتر بدولتنا أيما استهتار، فقد غابت عن هذا المحيط لياقات التعامل والاحترام مع دولة مثل العراق، وأصبح العراق مباحا بشكل مزري أمام هذا المحيط القلق من أي تطور قد يعيشه العراق مستقبلا، وسنبقى غير محترمين ما دمنا ضعفاء ومشتتين داخل هذا المحيط ، وكل هذا التهاون وزعزعة الاستقرار، والمتأتي بشكل كبير من قبل دول المحيط الإقليمي، لا ينتهي ويؤد إلى الأبد إلا أن ينتهي ( تشرذمنا السياسي والاجتماعي ) الذي شكلته المحاصصة الطائفية والعرقية بين أبناء البلد الواحد، مما جعل هذا التشرذم نفوذ هذه الدول محميا من أي إدانة حقيقية وموقف رادع، وأصبحت كل فئة من فئات المحاصصة تبرئ ساحة هذا الطرف الإقليمي وذاك لأنه يماثلها بالعرق أو الطائفة، والضائع في المحصلة من كل هذه التبرئات هو العراق، فسيطرة فئات المحاصصة على مفاصل الدولة الأساسية تقف اليوم أمام كل مشروع قد يقوض هذه السيطرة الإقليمية السيئة على العراق، فهذه الفئات السياسية لا تريد تقدم العراق إلا من خلال تقدم وتنامي مصالحها الشخصية والفئوية، فإذا أخذنا على سبيل المثال لا الحصر التقدم الحاصل اليوم في الاستقرار الأمني الذي يساعد على إعادة ترتيب اللحمة الوطنية نجد الطائفيين والقومانيين داخل العملية السياسية وخارجها يشككون بصدقية ونجاح هذا الاستقرار الأمني؛ لان اعترافهم بنجاحه سيقف حائلا أمام تنامي مصالحهم الشخصية والفئوية،التي لا تستطيع أن تتراكم وتتكرس إلا من خلال ضعف الدولة وتشرذمها وخصوصا في جوانبها الأمنية ولهذا هم دائما يشككون بكل ما أنجزته الدولة في هذا الصدد.

وإذا أردنا بشكل دقيق تصنيف القوى والفئات السياسية التي تتضرر من الاستقرار الأمني والسياسي ومن بروز قوى وطنية تعمل للعراق على أسس وطنية خالصة، نستطيع أن نصنفها لثلاث فئات :-

الفئة الأولى، هي فئة ترى أن استقرار الدولة وإعادة هيبتها سيقضي على أملها بالعودة لما كانت عليه الدولة العراقية قبل سقوط نظام البعث، فتدفع هذه الفئة باتجاه تضخيم الإحداث اليومية، وتحلل كل ما يجري من بسط للأمن، وفرض لهيبة الدولة وتقوية أواصرها ،على أنه ضدها وضد مكونها، وعلى هذا الأساس، تسمح هذه الفئة السياسية لنفسها أن تستجدي تدخل السعودية ومصر وقطر "الجزيرة" لإرباك الوضع العراقي وعدم اندماج نظامه داخل المؤسسات الإقليمية، وتدفع هذه الفئة بشيء من الدونية أن لا تحترم هذه الدول العراق ومركزه الحضاري، وتقبل التدخل الفج لهذه الدول بكل صغيرة وكبيرة في شؤون العراق من دون أن يرف لها جف الكرامة الوطنية، على أمل تسنح لها اللحظة التاريخية بعودة النظام حكرا لها ! .

الفئة الثانية، هي فئة تسعى لتقطيع أواصر الدولة وتحويلها الى (غيتوات) مغلقة، لأجل أغراض ساذجة وبسيطة قائمة على الخوف من أن يعود الماضي الدكتاتوري فيركس هذه الفئة من جديد في سلم التبعية واستجداء الحقوق، ومن اجل أن تحقق هذه الفئة سطوتها وزعامتها المتعكزة على الدين "وحماية المذهب" تعمل باستمرار على إبقاء مركزية الدولة مهمشة لصالح الأطراف، وتدافع هذه الفئة عن إيران في كل الأحوال بحجة وحدة المذهب ( هذه الوحدة التي أثبتت عدم جدواها أمام المصالح القومية والوطنية لإيران! ) وتنفي وباستماتة عجيبة وغريبة أن إيران ليس لها يد في الخراب الحاصل بالعراق مع علمها أن كثير من المجاميع المسلحة هي من صنع إيران مثل ( المجاميع الخاصة وعصائب أهل الحق ) التي تعمل على ضرب الاستقرار العراقي مثلما تضربه ( كتائب ثورة العشرين أو القاعدة ) وغيرهما من المجاميع الإرهابية الأخرى .

الفئة الثالثة، هي فئة تدعي أنها قبلت بملء إرادتها الانتماء للدولة العراقية، لكنها تعمل ليلا ونهارا على إبقاء الدولة هشة وضعيفة، وتقف هذه الفئة أمام كل خطوة تسعى لربط أواصر الدولة وتستخدم أبواقها التي انتشرت في الإعلام والصحافة لتخيف العراقيين من الخطوات التي تؤديها الدولة لتقوية نفسها وإعادة هيبتها ووحدتها، وتصور سعي الدولة هذا على انه نكوص عن الديمقراطية، وعودة على طريق الدكتاتورية، وينسى كثير من رجال هذه الفئة أن كردستان العراق تئن بوطأة زعاماتهم العشائرية والإقطاعية التي أصبحت تورث الزعامة السياسية لأبنائها كما تورث الأرض .

 فهذه الفئات الثلاثة تعلم أن الخراب السياسي ما بعد سقوط نظام البعث الذي ضرب أطنابه في اغلب مفاصل الدولة هي التي تتحمله، وتعلم أيضا أن العراقيين شعب يستطيع أن يميز أين تتجسد الدكتاتورية والطائفية، وأين مواطنها اليوم وأين يكمن الخراب الناخر في الدولة ؛ فالشعب يعرف أن هذه الزعامات القومانية والطائفية في شمال العراق ووسطه وجنوبه وغربه  لا تفقه من الديمقراطية إلا اسمها فكيف إذن تستطيع أن تعلم الأخر هذه الديمقراطية، وما تشنيع هذه الزعامات وتشكيكها الذي يطال الدولة وهيبتها اليوم إلا بسبب خوفها من أن تكوّن الدولة شخصيتها، فينسحب بعدها البساط من تحتهم فيخرون هامشيين ليس عندهم إلا شعاراتهم العرقية والطائفية.

فالدولة الوطنية التي تخاف منها هذه الزعامات الفئوية بدأت بوادرها تلوح بالأفق من خلال روح المواطنة السارية اليوم بقوة في نفوس العراقيين، وما هذه المبادرات التي تقوم بها الدولة في فرض شخصيتها وهيبتها إلا تجسيدا لرغبة العراقيين الذين يأملون أن يروا دولتهم في قابل الأيام دولة مهابة وموحدة، دولة تعيش القانون وتعمل به وتفعّلَ السلم الأهلي والعيش المشترك وتعمل على جعل العراق مهابا وموحدا أمام هذا المحيط الإقليمي الشرس الذي لا يحترم المتشرذم والمفكك، وعليه لا بد أن يعي المثقفون والسياسيون الوطنيون اليوم دورهم التاريخي؛ ويعملون على دعم السياسيات التي تؤديها مؤسسات الدولة المؤمنة بوحدة البلد ولحمة أبناءه ، وخصوصا الحكومة الحالية برئيسها نوري المالكي الذي اثبت أنه مؤمن إيمانا ثابتا وغير تكتيكي بوحدة البلد وأهله وبحتمية نهوضه مستقبلا من هذا الواقع المرير الذي تعيشه الدولة العراقية اليوم .

[email protected]    

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1075  الخميس  11/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم