أقلام حرة

لن يُبرِّئ الأستاذ فاضل ثامر وعاظَ السلاطين

 بل صرت أميل إلى أن أحاكم التأريخ الأدبيَّ والثقافيَّ والفكريَّ والفلسفيَّ على مستوى الواقع، بمعنى أني لم أعد أطيق أن أحتجَّ على العالم باعتباره نصاً وحسب، بل صرت أميل إلى الإحتجاج عليه بوسائل أرقى قليلاً، أي اني سأمارس في جانبه حقي في أن أفتضحه، وأن أجعله يسير في طرقات نفسه مطأطئ الرأس جداً، وممتلئاً بالخزي والعار من كونه يبدو هكذا قبيحاً ومتدِّثراً من رأسه حتى أخمص القدمين بإفرازات بطنه، وقيح دمَّلِه، وعصارة بثوره، حتى إذا ما أنجزت هذه المهمَّة انتقلت إلى طورٍ آخر، كأن أحمل كلَّ أكداس الورق مما كتبه المثقفون السلطويون، والإنتهازيون المتَّجرون بالأدب والفلسفة، لأرميه في نهرَي دجلة والفرات حتى يجريا بالحبر الأزرق كما أصبح شأنهما في عصر المغول.

لست مغولياً طبعاً، بل أنا عراقيٌّ حتى آخر إحساسٍ بالحزن في أعماق روحي، لكنني معترضٌ للغاية على هذه الكتابة التي حكم السلطويون عبر كلِّ العصور أن لا يظهر إلى النور منها إلا ما كان منها سخيفاً وغير مستحقٍّ لأن يبقى على قيد الطباعة، أو على قيد الخلود كما جرت العادة في التسمية، فضلاً عن أن تكون مبعثاً للفخر والإعتزاز كما يريد الجيل السلطويُّ الصداميُّ المسيطر على المؤسَّسات والإتحادات التي تتبنى مشروع الثقافة العراقية الآن أن نفعل.

تعساً لمشاهير الثقافة في العراق طراً، إلا قليلاً ممَّن خرج منهم بالدليل طبقاً لمقولة الإستثناء الذي يؤكِّد القاعدة، فليس منهم أحدٌ إلا من كان يجلس القرفصاء شأن المناكيد العبيد في مهرجانات الطاغية، وليس منهم أحدٌ إلا من كان ضئيل النفس ضعيفها إلى حدِّ أنه كان مستعداً للرقص على أوجاع العراقيين وآلامهم وجثثهم المدفونة وهي بعدُ لم تفارق الحياة، ودعك رجاءً مما يزعمونه كذباً وزوراً بأنهم كانوا يقاومون الطاغوت من خلال التركيز على عبادة الحجر.

إنَّ كلَّ من كان يقرأ أشعاره السخيفة في المهرجانات التي أقامها الطاغية صداميٌّ وطاغوتيٌّ سخيفٌ مثل أشعاره بالضبط، وإنَّ هذا هو المعيار الرئيس الذي على أساسه يكون الإحتكام في فرز القول الصحيح من غيره عند الوقوع في الشبهات.

ما أضحكني فعلاً هو أنَّ الدكتور عبد الهادي الفرطوسي طلب من الناقد الكبير الأستاذ فاضل ثامر أن تعاد قراءة تلك الأشعار التي كتبت ليقرأها السلطويون في تلك المهرجانات، لكي يكتشف النقاد الجانب المعارض المسكوت عنه في تلك النصوص، ولو صحَّت هذه القراءة المرتقبة لصحَّ أن يلجأ أبو جهلٍ مثلاً إلى استغلال المنهجية المفتوحة الفاقدة لكلِّ المعاييرالعقلائية في فهم الكلام مما تدعو إليه عادةً الهرمنيوطيقا الفلسفية ليقيم الحجَّة على الله سبحانه فيثبت أنَّ كلَّ كلمات كفره وكلَّ أفعاله وتصرُّفاته إنما كانت داخلةً في حيِّز الإيمان، ولا علاقة لها بالكفر والفسوق من قريبٍ أو بعيد.

إن قام الأستاذ فاضل ثامر بهذه المهمَّة النقدية الباسلة التي تستهدف تزوير التأريخ طبعاً، فإني سأقوم رأساً بكتابة هذه الدراسة الهرمنيوطيقية المضحكة التي أمنح فيها أبا جهلٍ وأبا لهبٍ وكلَّ جبابرة الكفر في التأريخ براءتهم المرتقبة هذه، وسيتحمَّل النقاد وزر هذا الصنيع نيابةً عني، لأنهم أقدموا على فعلٍ مماثل، فسنوا لنا هذه السنة السيئة، ولن يكون عليَّ أيُّ وزرٍ كما هو شأن كلِّ العاملين بالسنة السيئة في التأريخ، لأني لن أكون آنذاك إلا ساخراً مستهزئاً بما يكتبون، ولست جادّاً طبعاً، فأنا متزنٌ جداً إلى حدِّ أنَّ من المحال على مثلي أن يقتنع بمثل هذه الحماقة النقدية المخجلة.

أنا أعلم أنَّ الناقد فاضل ثامر لن يقدم على مثل هذا العمل، ولكنه اضطرَّ إلى مجاملة ذلك المتحدِّث في المحفل العامّ، وهو يعلم في قرارة نفسه أنَّ هؤلاء قد بلغوا مرحلةً من التعاسة بحيث أنهم صاروا يستجدون البراءة علانيةً أمام الجمهور من أيما أحدٍ يتوقعون منه شفقة النفس عليهم، ولكنهم يغفلون عن حقيقةٍ مفادها أنَّ التأريخ حفر أسماءهم في ذاكرة الشعب حفراً بوصفهم أهانوا ثقافة بلادهم وعمدوها بالمهرجانات التي رقصت على جثث ضحاياهم، ولن ينفع كلُّ مداد النقاد حتى في حالة غلبة الرأفة والشفقة عليهم أن تمسح عنهم هذا العار.

إنَّ فاضل ثامر مفكرٌ عانى من الدكتاتوريات المتعاقبة، ولن يتعاطف مطلقاً تعاطفاً حقيقياً مع الثقافة التي قتلت شعبه، وجعلت سعر الأدب العراقيِّ والشعر على وجه الخصوص لا يساوي في سوق عكاظ العالم أكثر من شسع نعلٍ محترقٍ بين طيات القمامة.

[email protected]

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1083  الجمعة 19/06/2009)

 

 

في المثقف اليوم