أقلام حرة

آبَ "آبْ" .. عن السجون والعشاق الذين لا يؤوبون / بسام الهلسه

حمل اسم القيصر الروماني الشهير "اغسطس" وورثته الحضارة الغربية من جملة ما ورثت ممن زعمت أنهم أسلافها: الرومان والإغريق.

ولأن "آب" لا يعبأ بنا ولا بما نقوله عنه: "آب لهَّاب"، فهو يؤوب بانتظام كل عام في موعده المحدد.

*    *    *

لا أعرف إن كانت ثمة علاقة بين "آب" و "الأب".. فبعض الآباء لا يؤوبون مثله في الأوقات المعتادة إلى بيوتهم وعائلاتهم وزوجاتهم وأبنائهم وبناتهم.

ليس بسبب الوفاة أو السفر بعيداً, بل لأنهم أسرى ومعتقلون.

والأسرى والمعتقلون ليسوا من الآباء فقط، ففيهم أمهات أيضاً, وشباب وشابات لم يتزوجوا بعد، وأطفال لم يصلوا بعدُ سن الشباب كما في الحالة الفلسطينية.

وهؤلاء جميعاً ينتظر الجميع أوبتهم، لأنهم عشاق حرية قاوموا المحتل لبلادهم.

مثلهم أيضاً سجناء الرأي في الدول العربية والعالم، الذين ضاقت الأنظمة المستبدة بمواقفهم المغايرة لما تريده، فأودعتهم "بيت خالتهم" كما يطلق على السجن في بلاد الشام.

*    *    *

و السجن, اختراع بشري رافق نشوء وتطور الدولة، وانحلال المجتمعات القبائلية التي كانت أعرافها تتكفل بضبط وردع التجاوزات والتعديات.

بعض الدول اشتهرت بسجونها "كمعالم" مميزة..

لكن "إسرائيل" فاقت الجميع.. ليس فقط بكثرة السجون التي تزج بها آلاف الفلسطينيين والعرب المقاومين، بل لأنها حولت فلسطين كلها إلى سجن كبير بحجم وطن.

فبعدما "تفضَّلت" عنصُريتُها التوسعية الاستعمارية، بتشريد وتهجير القسم الأعظم من الشعب الفلسطيني، شملت الباقين منه في وطنهم "بعطفها الرؤوم" فقطّعت أوصالهم بالحواجز العسكرية، والجدران، والمستوطنات، والسيطرة الكاملة على الحدود والمعابر والأجواء، ومنعت لم شمل العائلات ببعضها، وقيدت التنقل والسفر إلا بموافقة السلطات الأمنية، التي بلغ مفهومها للأمن إلى الدرجة التي اعتبرت فيها "جولدا مائير" رئيسة الوزراء سابقاً، أن "ولادة طفل فلسطيني تُشكِّل كابوساً لها"! وإلى الدرجة التي تمنى فيها رئيس الوزراء الأسبق "اسحق رابين" "لو أن البحر يبتلع غزة"!

*    *    *

نحن العرب لدينا أيضاً ما نذكره في هذا المجال "المحترم" مثل سجن "المخيس" قديماً، الذي زج فيه "الحجَّاج" بمن لم تقطف أعناقهم سيوفُ جلاديه، من معارضي حكم بني أُميَّة.

وفي عصرنا اشتهرت كثير من السجون العربية -ولا فخر-: كالرمل، ونقرة السلمان، والمزة، وتدمر، والجفر، وليمان طره، والقلعة...

روى لي أحد نزلائها السابقين أنه قرأ عبارة مكتوبة على باب السجن، تقول: "الداخلُ مفقود, والخارجُ مولود.. ولا نسألكم عليه أجراً"!

*    *    *

واذا كان عدد من هذه السجون "التاريخية" قد اغلق أو اندثر، فلقد حل محله العديد منها.

وليعذرني القارئ إن لم أذكرها فهي "كُثْر" كما قالت حبيبة الشاعر الفارس "أبي فراس الحمداني" مباهية بكثرة عشاقها:

"فقلتُ، كما شاءت وشاءَ لها الهوى,

قتيلكِ! قالتْ: أيهم؟ فهم كُثْرُ"!

وبمناسبة "العشاق" يهيئ لي أن أنظمتنا تقتدي بهم! لا من جهة "الكثرة"، فهي على مذهب "التوحيد" في السلطة، ولا تبغض شيئاً بغضها للمشاركة الشعبية! بل تقتدي بهم من زاوية "الاستبداد" الذي دعا إليه الشاعر"عمر بن أبي ربيعة":

"ليتَ هِنداً أنْجزتنا ما تَعِدْ

وشَفَتْ أنفسَنَا ممَّا تَجِدْ"!

و"إسْتَبَدَّتْ" مرَّة واحدةً

إنما العاجزُ من لا "يَسْتَبِدْ"!

*    *    *

يحق لنا وقد ذكرنا "معالمنا" أن نذكر "معالم" الآخرين، ومن أشهرها سجن "الباستيل" الرهيب الذي يُؤَرَّخُ للثورة الفرنسية العظمى بيوم إقتحامه (14-تموز-1789م) وتحرير سجنائه من قبل عامة باريس الثائرة.

وفي القرن الماضي ذاع صيت "اوشفيتز" كأكبر وأقسى معسكر اعتقال أقامه النازيون خلال الحرب العالمية الثانية. وما زال اسمه يثير الهول لما شهده من فظائع إجرامية.

لكن قرننا الحادي والعشرين الذي لا زال يحبو في سنواته الأولى، منح الامتياز الأكبر للولايات المتحدة الأميركية تقديراً لجدارتها "السِّجنيَّة" العالية التي تبيَّن جزء منها فقط في مُعتقلي "أبو غريب" و"غوانتانامو".

وهي جدارة لائقة بمكانتها كالدولة الأعظم في العالم، ومتوائمة مع إدعاءاتها الكبيرة التي صدعت بها الآذان، عن الحرية وحقوق الإنسان!

*    *    *

آبَ "آبْ".

 

[email protected]

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1476 الثلاثاء 03/08/2010)

 

 

في المثقف اليوم