قضايا

حاتم حميد محسن: نيتشة وضرورة المعاناة

العديد من الفلسفات تعمل في ظل افتراض ان المعاناة سيئة. الهدف النهائي بالنسبة للبوذية، كما عبّر عنه بوذا في مثاله عن السهم المسموم، هو وقف المعاناة الشخصية من خلال القبول والتنوير. اما الرواقيون، فقد سعوا لإنهاء المعاناة في حياتنا من خلال العقلنة – خاصة التقسيم الثنائي للسيطرة.

فيلسوف القرن التاسع عشر فردريك نيتشة، يرى ان هذه الاتجاهات خاطئة: نحن يجب ان نصالح أنفسنا مع المعاناة ليس بالنظر اليها كشيء يجب تجاوزه، ولا كخطأ يمكن تصحيحه، وانما من خلال تأكيدها كضرورة وكجزء لا غنى عنه للحياة التامة.

في الحقيقة، بينما يسعى الرواقيون لتطهيرنا من الألم "اللاعقلاني"، وبينما يريد بوذا منا الهروب من دورة الشغف والرغبة (وبالتالي الهروب من المعاناة)، يرى نيتشه ان المعاناة يمكن النظر اليها كاستجابة أصيلة ومفهومة للحياة في عالم بلا نظام او هدف. في الحقيقة، العظمة غير ممكنة بدون المعاناة. في عمله (العلم المرح،1882)، يكتب نيتشة:

 "انظروا الى حياة أفضل الناس وأكثرها ثمارا واسألوا انفسكم هل ان الشجرة التي يُفترض ان تنمو الى علو كبير يمكن ان تتوقف عن النمو في الطقس السيء والعواصف، وهل سوء الحظ والمقاومة الخارجية، وانواع الكراهية والحسد والعناد وعدم الثقة والقسوة والجشع والعنف لا تنتمي الى الظروف المفضلة التي بدونها يصعب تحقيق أي نمو حتى في الفضيلة". وحول الدور الذي لعبته المعاناة في حياته، يكتب نيتشة في (نيتشة ضد فاغنر):

"بقدر ما يتعلق الأمر بمرضي، أليس من الصواب اني مدين له اكثر مما لصحتي؟ انا مدين له بصحتي وبفلسفتي ايضا".

اذا كانت هناك أشياء نقيّمها في حياتنا، فان نيتشة يريدنا ان ندرك باننا لا نستطيع تقييم تلك الاشياء بدون تقييم كل شيء أدّى لها. في مذكراته،يكتب:

"افرض اننا قلنا نعم للحظة واحدة، عندئذ نحن لم نقل فقط نعم لأنفسنا، وانما لكل الوجود. لأنه لا شيء يقف وحيدا، لا في أنفسنا ولا في الاشياء، واذا كانت ارواحنا قد اهتزت وفرحت على وتر السعادة مرة واحدة فقط، فان الامر كان ضروريا للابدية كلها لإحداث هذا الحدث الوحيد – وفي هذه اللحظة المنفردة عندما قلنا نعم، تكون كل الأبدية جرى احتضانها واستعادتها وتبريرها وتأكيدها".

السعادة لا توجد في عزلة، العظمة لا يمكن ان تحدث بدون معاناة. اذا اردنا تأكيد الحياة، لابد من تأكيد كل ما فيها، نتقبّلها بعيوبها. وفي العلم المرح، يكتب:

"فقط الألم العظيم هو المحرر الحتمي والنهائي للروح .. انا أشك بان مثل هذا الألم يجعلنا "أفضل"، لكني أعرف انه يجعلنا أكثر عمقا". ومع ان المعاناة ليست ممتعة تماما، لكنها تضفي علينا نوع من الحكمة المأساوية.

ربما المقياس الحقيقي للفرد، حسبما يقترح نيتشة، هو كمية الصدق الذي يمكنه تحمّله. وكما يذكر في Ecco Homo: "صيغتي للعظمة في الكائن البشري هي حب القدر: أي ان المرء لا يريد أي شيء يكون مختلفا، لا الى الأمام، ولا نحو الخلف، وليس في كل الأبدية. ليس فقط يتحمل ما هو ضروري، وانما يحبه".

نيتشه يطور هذه الأفكار الى مديات أبعد في عقيدته بالعود الأبدي، التي يتحدّانا بها لنعيش بطريقة نرغب بها ان نكرر نفس الحياة مرة بعد اخرى . كل غصة وحسرة، كل بهجة، كل يوم طويل من الضجر: هي في سلسلة متواصلة مرارا وتكرارا. فقط عندما نستطيع القول "نعم" للعود الأبدي يمكننا حقا مواجهة التحدي الذي أثاره حب القدر النيتشوي. 

***

حاتم حميد محسن

 

في المثقف اليوم