تنبيه: نعتذر عن نشر المقالات السياسية بدءا من يوم 1/5/2024م، لتوفير مساحة كافية للمشاركات الفكرية والثقافية والأدبية. شكرا لتفهمكم مع التقدير

أقلام حرة

المشهد السياسي العراقي .. أزمات دراماتيكية ولا حلول تلوح في الأفق / عصام الياسري

تمر على العراق والعراقيين دون أن تثمر الانتخابات الأخيرة عن تشكيل رافعة سياسية تنتج حكومة مركزية قوية لا تساوم على حساب مصالح الأمة ووحدة الوطن وتقود لتغيير الأوضاع وانهاء الأزمات بطريقة الزامية حضارية مسئولة. ان المشاكل التي تعاني منها المجتمعات العراقية لا تعد ولا تحصي، معالجتها ووضع الحلول لا تتحقق الا في ظل وجود المؤسسة "التشريعية والقانونية" الفعلية ورعاية " الدولة الحصرية". وتكشف الأحداث بأن تسلط القوى الطائفية والأحزاب العقائدية والشوفينية بما ينسجم ومصالحها، هو السبب الأساس في تأزم الوضع. لقد نكث هؤلاء القوم الذين لا يفقهون في السياسة كما في الدين عن كاهلهم أبسط القيّم، ولم يبق من أخلاقياتهم أي شيء سوى العمل على بسط نفوذهم دون الالتفات الى أوضاع العامة من الناس، وباتوا عاجزين عن اصلاح ما خرب الغزو الأمريكي في العراق. فالأمن يسير نحو الهاوية والرعاية الصحية والمعاشية في أسوأ حال، الاعمار والماء والكهرباء معدوماً، فيما أصبح الاقتصاد الوطني عرضة للنهب، والقتل والارهاب على أيدي مليشيات مسلحة بعضها تابع لأحزاب السلطة تفاقم وبات يشكل خطراً على حياة المواطنين. وأصبح ظرف العراق الصعب عاملاً لممارسة الابتزاز الطائفي والقومي والتهديد برفع سقف المطالب بهدف الحصول على غنائم جيوديموغرافية وسياسية ومادية لا حصر لها بسبب العجز السياسي وعدم وجود حكومة مركزية قوية.

 

وعلى الرغم من مرور فترة قياسية تجاوزت السبع سنوات على احتلال الولايات المتحدة الأمريكية للعراق، لم يتغيّر المشهد السياسي قيد أنملة ولم يطرأ أي تحسن ملحوظ على كل المستويات، ولا زال الوضع على كافة الصعد أكثر تعقيداً والصراع بين جميع الأطراف محتدماً. ومضت ستة شهور على الانتخابات البرلمانية الأخيرة دون أن يلوح في الأفق أمل الوصول لتشكيل حكومة ترتقي بمستوي مسؤولياتها الوطنية. وتعدت الأزمة السياسية مساحة الاستثناء الطارئ وتعكرت أجواء الحوار بين أطراف ما يسمي بالعملية السياسية وأصبح أكثر غموضاً. والمشكل أن السياسيين العراقيين على مختلف مشاربهم لا يتنافسون لأجل بناء الدولة وتطوير مؤسساتها وتحسين الاقتصاد وأوضاع الناس المعاشية والاجتماعية، انما يتصارعون من أجل الاستحواذ على السلطة وتوزيع المناصب بهدف النهب والسرقة والاعتداء على أملاك الدولة والكسب بطرق غير مشروعة. كما أن التشهير والاتهامات المتبادلة أصبحت العتبة التي يستقر اليها جميع السياسيين، وبات العراقيون في حيرة من أمرهم لا يهدأ لهم جنب غير الوعود الكاذبة.. والسؤال الذي يتطلب الاجابة هو: من سيحصد ثمار المرحلة القادمة ويحسم أمر السياسة لصالحه؟. وهل يستطيع الشعب أن ينتفض ليصلح ما لا يليق بشأنه ومصالحه لينهي ما أفسده دخلاء السياسة من جهلة وسراق ومنافقون.

 

لقد كشفت الانتخابات الأخيرة الكثير من العيوب وأفرزت حقائق تقتص من ادعاء السياسيين العراقيين الجدد على أنهم يريدون رفع شأن العراق وبناء الديمقراطية وسعادة المجتمع. ان اعلان أسماء النواب كما أسس له العرف الطائفي لا القانوني واعتبارهم أعضاء في المجلس على الرغم من أن الكثيرين منهم لم يحصلوا على مئة صوت من مجموع 12 مليون ناخب عراقي، فيما أن شخصيات معروفة سقطت ولم تحصل على عشرة أصوات لكنهم دخلوا قبة البرلمان ليمثلوا العراقيين دون تفويض منهم، ظاهرة خطيرة تكشف عن طبيعة فهم هؤلاء الساسة للديمقراطية كما تدل على عدم احترامهم للقانون والدستور الذي وضعوه بأنفسهم دون استفتاء شعبي يخضع لآليات حيادية معترف بها دولياً.

 

ومنذ غزو العراق عام 2003 ومؤسسات الدولة الرئيسية " التشريعية والتنفيذية " أي الحكومة والبرلمان تخضع لتجاذبات اقليمية أدت الى تأزم الوضع وافراز مجموعات تحركها قوى خارجية تسيطر على كل مناحي الحياة السياسية والاقتصادية. وبات المواطن يشعر بعدم الطمأنينة على حياته ونمو مستقبله، فيما أضحت ظاهرة نهب خيرات البلد والاثراء على حساب قوت الفقراء والكادحين أو بناء الدولة واعمارها واقع حال لا يستطيع القانون النيل منها بسبب المساومات والابتزاز الطائفي. وبسبب المحسوبية وشراء الذمم وصل الكثير من الجهلة والانتهازيين والمنافقين الى موقع المسؤولية، الأمر الذي انجر عليه تراكم الأخطاء وتأثير مخاطرها على مستقبل المشروع الوطني برمته. ان عدم بلورة حلول اجتماعية وسياسية هادفة وايجاد موازنة اقتصادية وانمائية منتظمة تهدف الى احتواء الأزمة التي أفرزتها الانتخابات وما قبلها، أدت الى اجهاض أي تحول نحو الأمن الاجتماعي والوفاق الوطني وبالتالي نحو البناء والاعمار وتقدم المجتمع. ولم تكتف الأطراف الكردية "بيضة القبطان" بالمزيد من الابتزاز ورفع سقف مطالبها فبالاضافة الى سعيها لاعمار المناطق الكردستانية على حساب المدن العراقية الجنوبية والوسطي، وامتلاكها شرطة وجيش نظامي لا للحكومة المركزية أي سيطرة عليهما، واستخراجها النفط في شمال البلاد والقيام ببيعه وتصديره دون موافقة الجهات المركزية المختصة، وعقدها الاتفاقيات وبناء علاقات دبلوماسية مع دول أجنبية المفروض أن لا تبرم الا باتفاق هذه الدول مع الحكومة المركزية حصراً. وسيطرتها على مدن وأراضٍ خارج حدودها وعدم السماح لأي مواطن غير كردي التنقل في المناطق الشمالية الا بالحصول على اذن خاص "فيزة" ونهب الموارد العراقية وتحويلها على حساب قادة الأحزاب والعشائر. فانها تمارس ضغوطاً اتجهت في أكثر من مرة الى التهديد بالانفصال وضم مدن عراقية بالقوة. الا أن المواطن الكردي يدرك بأن القيادات الكردية الحاكمة في شمال العراق لا تختلف في سلوكها وأطماعها عن سلوك المتنفذين في المناطق العربية أو أعضاء ما يسمي بالحكومة والبرلمان الاتحادي الذي حصل الكرد على نسبة 17% من المقاعد فيه.

 

والعراق بسبب الاختناق السياسي بات أسير الصراعات العرقية والطائفية التي لا تخدم الا مصالح الأطراف المتصارعة لأجل مكاسب فئوية ضيقة، فالطبقة السياسية التي تحكم البلاد لا شأن لها على الاطلاق بمصلحة العراق والمواطنين ففي الوقت الذي تتجاوز دول الجوار تركيا وايران والكويت باستمرار على حرمة الأراضي العراقية وتعتدي على حقوقه المائية، يعتكف الساسة العراقيون من العرب السنة والشيعة وغيرهم الصمت ويتصارعون على الغنائم كما يساومون على مصالح بلدهم ويقدمون التنازلات تلو الأخرى، فقط لأجل البقاء في السلطة والتمتع بالامتيازات السياسية والمادية على حساب مستقبل العراق ومصير شعبه.

 

ويبدو أن الأمريكيين الذين ارتكبوا خطئاً في احتلال العراق وتدميره تدميراً شاملاً لا مثيل له في التاريخ المعاصر. خربوا مؤسساته وبنيته التحتية وفتكوا بالبيئة والعقل العراقي ونهبوا تراثه الحضاري وأسقطوا ثقافته ورموزها. قد ارتكبوا اليوم بحماقتهم خطئاً جديداً عندما بدءوا بسحب أغلب قواتهم العسكرية من العراق واستبدالها بقوات مرتزقة يعرف عنها الكثير من القساوة والابادة والقتل. الأمر الذي سيجعل الصراع بين الأطراف السياسية العراقية مفتوحاً باتجاه التمرد ووقوع سلسلة من الحروب الطائفية والشوفينية الطاحنة، بسبب ضيق الأفق القومي والديني والخوف على مكتسبات حصلوا عليها بعد سقوط نظام صدام. وأظن بأن الاحتلال والقوى العراقية التي عقدت الاتفاق والذهاب معه لأبعد الحدود لقلب الأوضاع السياسية والاجتماعية في العراق، قد قصدوا بالأساس الفكر والثقافة وتعمدوا خراب عاصمة العلم والحضارة بغداد وابقائها دون اصلاح حاضنة للقمامة والنفايات لانهاء دورها السياسي في التحدي لمواجهة التخلف والخراب والذود عن مصالح الأمة. واذا كان هدف مخطط الانسحاب العسكري الأمريكي الجزئي من العراق لتغيير المشهد السياسي سايكولوجياً، واعطاء الرأي العام الداخلي انطباعا بأن سياسة التخويف والتخوين والاقصاء تحت طائلة الاتهام بالانتماء للبعث أو القاعدة والارهاب لمن يعارض الطائفية والاحتلال ستنتهي، وأنه سيكون سبباً موضوعياً للذهاب نحو بناء الدولة العصرية ومؤسساتها. فلا بُد الاقرار بالحقيقة: بأن احتلال العراق قد كلف الأمريكان الكثير وأنهم عجزوا عن تحقيق مشروعهم وتأمين مصالحهم في المنطقة. وان العراق سوف لن يتمتع بحكومة مركزية قوية من طراز جيد الا عندما يكون لديه قوات جيش وشرطة بعيدة عن المحاصصة الطائفية وقادرة على تعزيز الأمن في جميع أنحاء العراق واعادة النظر بالدستور والقوانين والاتفاقيات التي صدرت بطريقة غير شرعية وبالتعارض مع مصالح العراقيين وطموحاتهم.

 

عصام الياسري

برلين في 30 آب 2010

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1502 الثلاثاء 31/08/2010)

 

 

 

في المثقف اليوم