أقلام حرة

الأنهار تموت عطشا..مأساة الرافدين

من القرن الماضي كان واضحا ان المياه العذبة داخل الحدود العراقية تتجه نحو النضوب وان نقص المياه يتزايد سنة بعد اخرى . وقد اعلنت السلطات التركية في حينه انها تزمع انشاء السدود لحجز ما يمكن حجزه من مياه دجلة والفرات وبانها سوف تقوم باحياء المناطق القاحلة في جنوب شرق تركيا. وتعاقدت مع الكثير من الشركات الأجنبية لهذا الغرض . وقد عرف الكثير من الخبراء عند ذاك ان ذلك سوف يؤثرعلى الوضع الزراعي والبيئي والديموغرافي في العراق لدرجة ان بعض الشركات الأجنبية امتنعت عن المشاركة في بناء تلك السدود باعتبارها جريمة بحق العراق . كما اعلن بعض الساسة الأتراك المتطرفين بأنهم سوف يقايضون الماء الذي يمتلكونه بالنفط الذي يمتلكه العراق .

 

مع كل الضجيج الذي حدث في دوائر الأختصاص انذاك  الا ان الجهات العراقية – كما هو الحال الان – بقيت منشغلة بصراعاتها الخاصة . صراع الأجنحة في حزب البعث . وصراع اليسار واليمين في القيادة القطرية والصراعات العشائرية بين القطرية والقومية وصراعات ابناء العم مع ابناء العم وصراع الريف مع المدينة في تنظيمات البعث ومواكب الاعدامات وشلالات الدم بين الرفاق وغير الرفاق وبين الرفاق انفسهم . وقضية الوطن ضائعة في خضم تلك الصراعات وكانت ثالثة الأتافي عندما شن صدام حربه الطائشة على ايران ثم حربه على الكويت ثم حروبه على فصائل الشعب المختلفة . وهكذا دوامة من الذبح وسفك الدماء والصراعات القاتلة والرافدان يستنزفان تدريجيا حتى وصلنا الى الحضيض .

 

بعد سقوط النظام السابق انبرت كل الأجنحة السياسية للنظام الجديد للتقاتل على كعكة السلطة في الوقت الذي يسير فيه البلد نحو الخراب والمياه تنضب من شرايين دجلة والفرات. ولم (تقصر) الجارة ايران من المشاركة في (الحفل) الخاص بحجب المياه عن بلاد ما بين النهرين حتى تحول الى بلاد (ما بعد النهرين). فقد وضعت السدود امام نهر الوند الذي يغذي محافظة ديالى ووضعتها امام مياه نهر الكارون الذي يغذي مياه شط العرب لتكتمل الحلقة من الشمال الى الجنوب والشرق ولتتحول ارض الرافدين الى صحراء بلقع ولتتحول ارض السواد الى ارض البياض والرمال الغبراء والحمراء .

 

مشكلة العراق ليست فقط في حكامه السادرين في صراعهم المميت حول الغنيمة وبذل كل جهودهم للحصول على اكبر حصة منها ولكن في شعبه الذي يساهم هو الأخر في معركة الأنتحار الذاتي الجماعي . الأن كل شيء ينذر بالشؤم والنهاية المفجعة، خراب الزراعة، تدمير البيئة، شحة مياه الشرب، اشتداد التصحر جفاف الأهوار .. والأتي اعظم .

 

البلاد تتجه نحو كارثة حقيقية بدأت بوادرها بالظهور . بل ان بعض المسؤولين من الوزراء وغير الوزراء (يبشرنا) بان مياه النهرين سوف تنضب في غضون عشر سنوات. وربما (تصدق علينا بعضهم) وجعلها عشرين سنة . ولكن النضوب في حقيقة الأمر متحققا الأن، الصحراء تزحف على الأرض التي كانت اشهر ارض في التاريخ والتي كانت مهدا للحضارات لخصوبتها ووفرة المياه فيها . فالعراق هبة الرافدين كما ان مصر هبة النيل كما كان يقول المؤرخ اليوناني (هيرودوتس). ولكن الأن لم يعد لدى الرافدين ما يهبانه بعد ان يبست عروقهما . النخيل يموت واقفا والأنهار تجف والأهوار تتيبس . والطيور المهاجرة لم تعد تتوقف عند الأهوار . فالأهوار تلفظ النفس الأخير ويقتلها الظمأ، ولن تجد تلك الطيور ما تروي غلة الظامئ الصادي .

 

كل الظواهر تقول لابد من وقفة جادة ولابد من حالة طوارئ قصوى ولكن الدولة مشغولة بالدساتير التي كتبت والدساتير التي سوف تكتب . ومشغولة بالأنتخابات التي جرت والأنتخابات التي سوف تجرى ومشغولة اكثر بالتحالفات والأئتلافات استعدادا للمعركة الكبرى التي سوف تتحقق فيها المكاسب والمغانم التي سوف تكسبها كل مجموعة . لا احد يتكلم عن الفرات الذي يموت ويتحول مصبه العام وفروع المصب العام الى قاع متشققة ولا احد يتكلم عن دجلة الذي تحول الى قزم صغير.

 

ما العمل وما هو المطلوب ؟

الأحرى بالدولة ان توقف كل اعمالها (العظيمة) او على الأقل جزء منها لتتفرغ لمعالجة الرافدين العليلين وان يتفرغ جزء من المستشارين والخبراء والناطقين والمحللين الذين لا يعرف لهم عدد محدد ولا يعرف لهم عمل محدد، وان يقفوا على جذور الكارثة والاجراءات العاجلة لمعالجتها واساليب الحل، وان يجروا المحادثات مع الجيران (الأعزاء) لعلهم ينصفوننا، وان يتعاملوا معهم بالاسلوب الذي يلائم موقف كل منهم . ولدينا اوراق كثيرة، اسلوب الضغط، اسلوب الإغراء، اسلوب المساومة، وهناك الكثير من الأساليب .

 

لقد وجدوا بالعراق الفريسة السهلة المشتهاة والجار الضعيف المغلوب على امره لذلك فأنهم يغدقون علينا بكل ما ينفع وما لا ينفع من بضائعهم الكاسدة التي لا تجد من يشتريها او يستوردها، وقد عدل الجميع ميزانهم التجاري بفضل التجارة مع العراق وبدون اي مقابل للعراق . 

 

ومن يقرأ الأرقام يستغرب من حجم صادراتهم الى العراق . وهذه وحدها احدى الأوراق الكثيرة جدا بيد العراق للضغط على هذه الدول التي لا تجد من يردعها لخنق العراق وشعب العراق وتقابل الأحسان بالأساءة، ولتقتل اعرق ما في العراق ... تقتل الرافدين.   

 

الدكتور عبد الجبار منديل / اكاديمي عراقي- كوبنهاغن

 

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1101  الثلاثاء 07/07/2009)

 

 

في المثقف اليوم