أقلام حرة

الأزمة السياسية الإيرانية والسيناريوهات المفبركة

لا ينكر تأثير الأزمة السياسية الإيرانية الراهنة على المنطقة العربية والسياسات العربية ليس في العراق وحده بل في كل المنطقة العربية ومن ضمنها فلسطين وغزة بالذات، فالأزمة قد تكون ثاني أكبر تحد تواجهه القيادة الإيرانية بعد الحرب العراقية. وليس من المستبعد أن تسفر عن تغييرات جذرية في سياسة إيران الخارجية في المشرق العربي على وجه التحديد نظرا للتداخل السياسي الحاصل بين التوجهات الفكرية لسياسات المنطقة. لكن ذلك لا يعني أن سياسات هذه البلدان ستتغير تبعا لتغير سياسة إيران، فلو قبلنا جدلا بصحة التأثير الإيراني على سياسات هذه البلدان فإنه بالتأكيد ليس بذاك المستوى الذي تتحدث عنه وسائل الإعلام ولاسيما أنه لا يوجد على أرض الواقع ما يثبت وجود هذا التأثير.  وهو حتى لو سلمنا جدلا أيضا بوجوده لا يزيد عن وجود تفاهمات مذهبية قد تكون بعيدة عن السياسة أساسا بين جماعات في المنطقة والشعب الإيراني ولكن الأطراف الأخرى التي تراهن على مبدأ الديماغوجيا والخوف المترسب في نفوس فئات محددة من الخطر الوهمي للمد الإيراني الذي هو من مخلفات حرب الثماني سنوات العجاف وأثر تثقيف الإعلام المسيس لأنظمة الحكم  تحاول باستمرار تضخيم هذه العلاقة وعكسها على السياسة.

نعم إيران قد تمثل عمقا استراتيجيا لبعض الأحزاب والعقائد العراقية كما تمثل السعودية نفس العمق لأحزاب وعقائد أخرى ولكنها لا تملك سلطة التدخل في قرارات وسياسات هذه الأحزاب والعقائد كما تملك السعودية ذلك فإيران لم تضخ 20مليار دولار للتأثير على سير الانتخابات المقبلة، وإيران لم تصدر فتاوى القتل ضد السنة كما فعل علماء الدين السعوديين في فتاواهم المتكررة بتحليل ذبح الشيعة وغنم أموالهم ونسائهم، وإيران لم تحتضن القياديين البعثيين المجرمين وأمراء تنظيم القاعدة الإرهابي الذين ولغوا في دم المواطن العراقي حتى الثمالة بينما فتحت لهم السعودية وأتباع السعودية أذرعا وبيوتا وخزائن، وإيران لم ترسل الانتحاريين ليفجروا أنفسهم في الجموع العراقية البريئة لأنهم من المذهب الفلاني أو القومية الفلانية بينما أثبتت التحقيقات الجنائية أن أغلب الانتحاريين الذين فجروا أنفسهم لقتل العراقيين يحملون الجنسية السعودية.

 وإذا كان ثمة مبرر قوي لدى المحللين السياسيين الإستراتيجيين يدعوهم للاعتقاد أن الأزمة بدأت تـثير بالفعل هزات ارتدادية فيما يسمى (مناطق النـفوذ الإيراني) خاصة في العراق ولبنان ولاسيما أنهم يملكون تصورا مسبقا عن علاقة إيران بهذين القطرين العربيين نظرا لكبر حجم الكتلة الشيعية فيهما من جهة ولوجود مقولة أسطورية روجها أعداء التشيع تدعي أن أصل التشيع فارسي وأن ولاء الشيعة لإيران أكثر منه لبلدانهم الأصلية كما ادعى الرئيس المصري حسني مبارك، فإن الواقع خلاف ذلك كليا على الأقل بالنسبة للعراقيين الذين يعتقدون أن النجف أصل التشيع ومعقله، وكل شيعة العالم بما فيهم شيعة إيران تابعون لمرجعيتها الدينية، ولذلك لم تتطابق سياسة المرجعية الدينية العراقية مع سياسة المرجعية الإيرانية في موضوع ولاية الفقيه مثلا الذي يملك فيه السيد السيستاني رأيا مختلفا عن الرأي الإيراني ويتبعه فيه الأعم الأغلب من رجال الدين العراقيين الشيعة الذين يرفضون أو على الأقل لا يقبلون نظرية ولاية الفقيه و لهم نظرتهم الخاصـة إلى علاقة الدين بالسياسة، تستنـد إلى القول أن السياسة تـلوث الدين وقد تحرفه عن مساره العقائدي. وكاتب المقال كان مصيبا حينما قال: (السيستاني يعتقـد أن الدين ورجاله يجب أن يكونوا فوق السياسة لا العكس وأن دورهم يجب أن يقتصر على تحديد الخطوط الشرعية العامة، التي يجب أن يـفيها السياسيون حقّـها) ولذلك لم يبادر السيد السيستاني لتأييد رجال السياسة العراقيين المعممين في ترشيحاتهم للمناصب القيادية وأعلن أكثر من مرة أنه يقف من الجميع على مسافة واحدة لا فرق بين رجل دين سياسي أو آي سياسي آخر إلا بمقدار ولائه وحبة وإخلاصه للعراق. ويأتي قول الكاتب: (لكن حتى اللحظة، لا تزال النجف تلوذ بالصـمت حـيال ما يجري في طهران. وحين حاول مراسل "فايننشال تايمز" استنطاق رجال الدين فيها، اكتفى هؤلاء بالدفاع عن وجهة نظر السيستاني إزاء العلاقة بين الدين والسياسة) ليؤكد استقلالية رجال الدين العراقيين عن إيران  وصحة هذا النهج وثبوتيته بل أن قول أحد رجال الدين الذي يعتبره الكاتب شذوذا  والذي جاء فيه (بيد أن أحد هؤلاء، وهو علي العودة، ممثل آية الله السيستاني، شذ عن الركب حين قال: "إننا لا نتبع إيران. إيران يجب أن تتبع النجف") يؤكد أيضا استراتيجية هذا المعتقد وإنه ليس تكتيكا أو شذوذا كما يسميه الكاتب الذي يبدو على وهم كبير حينما يريد التركيز على قول ممثل السيستاني واعتباره مؤشرا على تأثير الأزمة السياسية الإيرانية على الوضع العراقي فيدعي: (وفي حال بدأت أصوات على شاكـلة صوت العودة تتعالى في النجف، فسيكون هذا مؤشـراً فاقعاً على أن الأزمة في إيران قد تترك بالفـعل آثاراً عميقة في العراق، بالأخص على المستوى الإيديولوجي – الثقافي الذي تنبع منه المـمارسات السياسية) فهذه الأصوات كانت ولا زالت وستبقى موجودة في النجف وفي فكرها ألعقيدي لكنه لم يطلع عليها لأنه بعيد عنها أو ليس على احتكاك معها. ولذا يبدو  ساذجا وسطحيا جدا حينما يعتبر ما كان فعلا موجودا على أرض الواقع وكأنه تبدل كبير في النهج العراقي حيث يقول: (أن طبيعة الصّـراع في العراق بدأت تتغيـر بشكل جـذري لـغير صالح طهران مع إتمام الانسحاب العسكري الأمريكي من المـدن العراقية) لأن الصراع العراقي لم يكن يسير بصالح إيران أو غيرها منذ لحظاته الأولى ولاسيما أن من تحسبهم هذه الجهات أتباعا لإيران هم من يعملون على إنهاء الصراع منذ اليوم الأول للاحتلال الأمريكي ولغاية هذه الساعة، وأن أعدائهم والمخالفين لهم هم من أجج هذا الصراع ولا زال يعمل على إدامة زخمه

 

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1148 الثلاثاء 25/08/2009)

 

 

 

في المثقف اليوم