قضايا

طه جزّاع: ديوان شعر لنهاية العمر

كثيراً ما يتم طرح سؤال بخصوص النتاج الفكري لأساتذتنا في الفلسفة من الجيل الذهبي الذين غزوا جامعات عالمية كبرى، وعادوا منها بشهادات عليا كانت هي الأساس الذي بنوا عليه بحوثهم وكتبهم اللاحقة، فهل قدم هؤلاء ما يوازي سمعتهم العلميَّة ومكانتهم الأكاديميَّة، وما يجعلهم أصحاب اضافات جوهريَّة في مسار الفكر الفلسفي العربي؟

قد يكون الجواب المجرد من المسببات غير منصف بحقهم، إذا ما تمت المقارنة مع أساتذة الفلسفة العرب والمصريين على وجه التحديد، ومنهم أصحاب المدارس والاتجاهات الفلسفيَّة والمذاهب والتيارات التي شهدتها العقود الأولى من القرن العشرين، تلك التي أحصاها ونظمها جميل صليبا بداية الستينيات، وعاد اليها معن زيادة في مقدمة المجلد الثاني للموسوعة الفلسفيَّة العربيَّة، وقد صنّفها صليبا بسبعة تيارات رئيسية يمكن ايجازها بتيار الفكر المادي ممثلاً بفكر الطبيب اللبناني والمفكر الذي هاجر إلى القاهرة شبلي شميل، وتيار العقلانية كما فهمها مفكرون عرب من أمثال محمد عبده ومحمد فريد وجدي، وتيار المثالية وفي عداده وجدانية عباس محمود العقاد وجوانية عثمان أمين ورحمانية زكي الأرسوزي، والتيار الذي مثلته المدرسة التكاملية في علم النفس ولا سيما تكاملية يوسف مراد التي اهتمت بدراسة العلاقة بين الظواهر النفسية والظواهر الفسيولوجية، والتيار الوجودي وفي طليعته عبد الرحمن بدوي، وتيار الشخصانية الذي أراد أصحابه الرد على الوجودية من جهة، وعلى الماركسية من جهة أخرى، ومن كبار ممثليه رينيه حبشي ومحمد عزيز الحبابي، والتيار السابع والأخير هو تيار الاتجاهات العلمية ويمثله يعقوب صروف صاحب مجلة المقتطف، وإسماعيل مظهر وزكي نجيب محمود الذي نجح في تأسيس مدرسة وضعية عربية، لكن هذا التصنيف كما يراه معن زيادة غير شامل "ويقف عند الفترة الزمنيَّة التي وضع فيها من جهة، ويهمل تيارات فلسفيَّة عرفها الفكر العربي الحديث منذ مطلع القرن الماضي، كلماركسي والاشتراكي والتيار القومي من جهة أخرى".

أكررالقول ان الجواب قد لا يكون دقيقاً، لسبب بسيط ان أغلب تلك المدارس والتيارات الفلسفيَّة قد سبقت ظهور الجيل الفلسفي الأكاديمي الأول في العراق، من دون أن نهمل رواد النهضة الفكرية العراقية الحديثة الذين كان لهم دور تنويري مؤثر مع نهايات السيطرة العثمانية وبدايات تأسيس الدولة العراقيَّة مطلع العشرينيات، أما الجيل الفلسفي الذي تدرّج في تحصيله الأكاديمي فإنه في الأعم الأغلب لم يعط ثماره الفكريَّة والفلسفيَّة إلا مع مطلع الستينيات ولعقدين لاحقين آخرين، وهي ثمار لم تسهم لأسباب لا علاقة لها بشخصياتهم العلميَّة، في خلق تيار فلسفي عربي مجدد بروح عراقيَّة، مثلما حدث في حركة الشعر الحر، والفنون التشكيلية، وبقيت نتاجات الجيل الذهبي الأول في الفلسفة محدودة التأثير، إلا في حدود الجدران الأكاديمية المغلقة.

لعل أحد الأسباب التي حجبت المشاركة الفكريَّة والفلسفيَّة العراقيَّة في خلق تيار فلسفي عربي له بصماته وهويته، ظروف العراق الخاصة وأوضاعه السياسيَّة المتقلّبة، وغياب البنية المؤسساتية التي ترعى العلماء وتنشر نتاجاتهم، لكن بعضهم أيضاً لم يكن متفرّغاً لقضية الفلسفة، وكانت جهودهم مشتتة بين تخصصاتهم وهواياتهم الأدبيَّة، وإلا بماذا نفسّر أن يختتم مفكر وباحث حياته بديوان شعري شخصي ضخم بعدد صفحاته، ولم يختمها بعمل فكري، أو بكتاب يدوّن ذكرياته الدراسيَّة ومسيرته الأكاديميَّة والفلسفيَّة الطويلة؟.

***

د. طه جزاع – كاتب أكاديمي

في المثقف اليوم