قضايا

محمود محمد علي: سؤال النهضة في مشروع محمد عابد الجابري

يعد الجابري أحد أهم رموز الإنسانيات العربية خلال الربع الأخير من القرن العشرين، نظراً إلى ما قام بن من حفريات في طبقات النصوص التراثية والتأسيسية للحضارة العربية الإسلامية، وراح يفكك ما تجمع من الركام الميثولوجي الذي اعتبره شاهداً على استقالة العقل، لكن أهميته تعود إلى التأسيس لقراءة منهجية للتراث العربي الإسلامي وفق مقاربة نقدية، والعمل على ترغيب القارئ العربي لقراءة ما اختاره من نصوص التراث.

موضوع قراءتنا اليوم يدور حول مشروع محمد عابد الجابري الفكري، حيث أحاول تسليط الضوء على الأفكار الأساسية في هذا المشروع، وعلى بعض النقد الذي تلقاه مشروع الجابري، وخصوصا من جورج طرابيشي، والذي استغل على نقد مشروع الجابري قرابة ربع قرن، فربما كان هذا أهم ناقد لأهم مفكر، وقد شكلا كلاهما أشهر حالة نقد في تاريخ الفكر العربي المعاصر تقريبا.

تكون مشروع الجابري من سلسلة كتب أساسية، في مقدمتها كتاب" تكوين العقل العربي"، وهو الكتاب الأساس الذي صدر عام 1984، وكان له عند صدوره صدى عميق، ثم كتاب " بنية العقل العربي"، وهذين الكتابين يمثلان النواة الصلبة في مشروع الجابري، وبعد ذلك صدر كتابان آخران أقل قيمة من الكتابين السابقين ضمن المشروع، وهو " كتاب العقل السياسي العربي"،  و" العقل الأخلاقي العربي". وبطبيعة الحال هناك كتب أخرى يمكن اعتبارها من رواتب المشروع الفكري للجابري، مثل كتاب " نحن والتراث.. قراءة معاصرة في تراثنا الفلسفي ".

وهذه الكتب جميعا اشتغلت على أسئلة ومشكلات وقضايا هامة في مشروع الجابري، وقد انطلقت من حادث مؤلم أصاب العالم العربي في أواخر ستينيات القرن الماضي، وهي هزيمة مصر من إسرائيل في حزيران لعام 1967، حيث أحدثت زلزالا عنيفا على قلوب كثير من المثقفين العرب وعقولهم وعلى رأسهم الجابري ـ لأن حجم الأمل كان لديه كبيرا، خصوصا بعد الخطاب القومي الناصري الذي صنع لهم من الحبة قبة ومن النملة فيل، ثم تبين له أن حجم الوهم كان أكبر من حجم الأمل، فألتفت الجابري يبحث عن أسباب الهزيمة وأسرارها في الواقع العربي والثقافة العربية.

وقد كان هناك سؤالا يدور في خلد الجابري وهو: هل نحن في حالة أزمة؟، وهل الهزيمة مجرد تعبير عن نتيجة للأزمة ؟، أم أن هذه الهزيمة تمثل حالة عابرة ؟

وهنا يجيبنا الجابري بأننا في أزمة مستفحلة، لا تدور فقط في سطح الحياة العربية، بل تدور في جذورنا المعرفة إلى ما سماه بـ "العقل العربي"، والعقل العربي يحتاج إلى وقفه لفهمه، فالجابري في "تكوين العقل العربي" ينبهنا أنه لا يقصد بالعقل العربي مجموع الأفكار التي يعبر العربي عن اهتماماته ومشاغله، بل بالعقل العربي بوصفه "الأداة المنتجة" لهذه الأفكار، وهذه الأفكار، إما أن تكون أفكار منفعلة، أو تكون أفكار فاعلة. والأفكار المنفعلة قد سمها بعض الفلاسفة الفرنسيين المعاصرين من أمثال " لالاند" (العقل المكون)،  والتي تم تكوينها في نسيج الثقافة العربية، و"الأفكار الفاعلة"، سموها "العقل المكون".

وهنا نجد الجابري في مشروعه مهتم بتشريح الأفكار الفاعلة والمكونة في العقل العربي، وذلك بنظره المسؤولة عن أزمة العقل العربي.

إذن فالسياق النفسي الذي تشكيل من خلاله مشروع الجابري، هو سياق الشعور بالأزمة، أما السؤال الرئيس والذي هيمن على مشروعه، فهو سؤال النهضة العربية، وذلك من خلال السؤال الشهير: لماذا تخلف العرب عن غيرهم؟

والجابري يعيد طرح هذا السؤال، لأنه يعتقد أن جميع المحاولات الإصلاحية السابقة، قد فشلت في مهمتها منذ مجيئ "جمال الدين الأفغاني" حتى "زكي نجيب محمود"، وذلك لأنها تناولت التراث والفكر فقط، وأهملت الأداة المنتجة لهذا الفكر؛ أي أهملت العقل الفاعل المكون للفكر، لكن هذا العقل لم يأت من فراغ، وإنما يرتبط بإطار مرجعي، مثل الكرة المطاطية المربوطة بحبل مطاط.

وفي نظر الجابري أن لكل أمة إطارها المرجعي الذي يحدد عقلها الفاعل، وهذا الإطار له طبيعة شبه ثابتة لزمن طويل، فمثلا العقل اليوناني القديم قد سيطرت عليه "الفلسفة النظرية" وشكلت إطاره المرجعي، بينما العقل الغربي الحديث ارتبط بـ"الطبيعة والعلم التجريبي" ؛ في حين تشكل الإطار المرجعي للعقل العربي من خلال " النص الديني" ذو البنية الثابتة الجامدة "، والذي يعني الموروث الديني الاجتهادي وليس نص الوحي القرآني.

هذه هو الإطار الذي تشكلت فيه البنى الثقافية والفكرية المعرفية المسؤولة عن عجز العقل العربي في إنتاج حلول لمشكلاته في نظر الجابري، والإنسان العربي للأسف في نظره معجون بتراثه الديني، وهذا التراث إن صح التعبير هو بصره الذي يبصر به، وسمعه الذي يسمع به، ومن ثم فهو المسؤول عن مدخلات العقل ومخرجاته، وهو المسؤول عن المعاجلة لهذه المدخلات أيضا، ثم توقف الجابري عند طريقة المعالجة هذه  فقال:" إن بنية العقل العربي تتكون من ثلاثة أنظمة  في إنتاج المعرفة ومعالجاتها،  وهي تشبه أنظمة الحاسوب أو الهاتف، والنظام المعرفي الأول: العرفاني، والثاني: النظام البياني، والثالث: النظام البرهاني، واعتبر الجابري النظام الأخير أفضل من السابقين لكونه يدعو للعقلانية.

والنظام الأول البياني هو نسبة إلى البيان وهو الوضوح في اللغة، وهو الذي تنتمي إليه علوم اللسان العربي، وكذلك ينتمي إلى هذا النظام علوم الفقه واًصوله وما شابه ذلك، وهذه العلوم عبارة عن رسائل لإيضاح الرسالة الدينية، ولكن نواتها الصلبة هو اللسان العربي المبين؛ ما يعني أن هذه العلوم تعتمد بشكل أساسي على فقد اللغة، ولهذا يعد النظام البياني نتاج عقل عربي أصيل.

وأما النظام الثاني وهو العرفاني كما سماه، وهو نسبة إلى العرفان، أي المعرفة القلبية والحدسية، ويدخل في هذا النظام كل علوم التصوف والفرق الباطنية والغنوصية ـ والمعرفة في هذا النظام ليست وسيلتها الحدس.

أما النظام الثالث وهو البرهاني وقد استعار الجابري تسمية هذا النظام من "ابن رشد"، (الذي كان يتعصب له تعصبا شديدا)، وهو النظام الذي تنتمي إليه معظم مذاهب الفلسفة والمنطق الصوري، وقد سمى بـ" البرهاني" لأن وسيلته في المعرفة هو " العقل".

والجابري انتقد النظام العرفاني انتقادا شديد واعتبره قد ساهم في تعطيل العقل البرهاني الذي يربط النتائج بالمقدمات، وجعله عقلا غيبيًا يؤمن باللامعقول، ولذلك وصفه الجابري بالعقل المستقيل عن العمل في الوجود والحياة  وذلك لكونه يرى العالم من منظور سحري.

وهنا نجد الجابري يعلي من لواء العقلانية في نقده للعقل العرفاني من خلال تحيزه للعقل البرهاني، حيث يصفه بأنه " الأيقونة" التي خسرها العقل في مرحلة العرفان فسقط، وقد حمَل الجابري معظم المسؤولية في ترسيخ المذهب العرفاني الدخيل على العقل العربي من خلال الشيح الرئيس "ابن سينا".

وهنا نعود إلى سؤال النهضة الذي سأله الجابري، وهو لماذا تأخرنا وتقدم الآخرون؟

وفي اعتقاد الجابري أن فشل كل المحاولات الإصلاحية السابقة، تكمن في أنها تناولت التراث والفكر العربي فقط وأهملت الأداة المنتجة، وهي العقل، وكيف تكون ومما يتكون ؟ وما المعطيات التي تحدد سلوك وطريقة هذا العقل ؟، لأننا بحسب الجابري إذا أردنا أن نجيب على سؤال النهضة وعن أسباب جمود وتقهقر العقل العربي بإجابة واضحة علينا أن نعود إلى دراسة تكوين العقل العربي والأداة التي قد تصنع التقدم كما قد تفضي إلى التأخر.

وانطلاقا من هنا بتتبع مسار تشكل العقل العربي وتتبع مصادره المعرفية التي أسست له، ولأن كل عقل محكوم بفضائه الثقافي بوصفه الإطار المرجعي لهذا العقل عندما مثلا يريد أن يفكر، فيفكر استنادا إلى هذا الإطار المرجعي الثقافي، وذلك من خلال ما بداخله من مفاهيم وتصورت وأفكار مسبقة تكون بها في الماضي.

وبناءً عليه هذا يدفعنا كما يقول الجابري لإعادة طرح سؤال النهضة مجددا لكن بطريقة مختلفة ليصبح السؤال على الشكل التالي: طالما أن كل عقل بطبيعة الحال يحمل الجديد في تكوينه الثقافي، فما البنى الثقافية والفكرية والمعرفية التي أدت بالعقل العربي إلى التأخر وأدت بالعقل الآخر إلى التقدم ؟

كلمة السر هنا بحسب الجابري تكمن كما ذكرنا من قبل في نوعية الثقافة المسيطرة ونوع ماهية التراث المهيمن عليها، فمثلا العقل اليوناني هو عقل فضائه الثقافي فلسفي – منطقي، والعقل الأوروبي الغربي هو عقل مرتبط بالعالم الطبيعي والمنطق العلمي، وأما العقل العربي فهو عقل وجداني – عاطفي ينطلق من النظرة الدينية ومرتبط بسلطة النص الثابتة، فإذن العقل العربي ذو بنية جامدة ثابتة وذلك من خلال تكونه الثقافي الماضي، وهذا ما جعل هذا العقل يعيش دائما في الماضي ويفكر بطريقة ماضوية رغم تغير الأحوال والأزمان والأمكنة.. إلخ.

أما ما الذي أدى إلى ثبات هذه البنية العقلية العربية على مر العصور وإلي اليوم؟ ؛ ولماذا ظلت البنية العقلية العربية ثابتة رغم اختلاف العصور والمراحل ورغم كل التطور والتقدم الذي طرأ ظل العقل العربي ثابت إلى اليوم فما السبب؟

اعتقد السبب كما يرى الجابري يعود إلى عصر التدوين في القرن الثاني الهجري، هذا العصر الذي شكل محطة تاريخية أساسية لتكون البنية العقلية العربية وثباتها، ففي هذا العصر كُتب كل الموروث العربي سواء الإسلامي أو الجاهلي. كذلك في هذا العصر جُمعت اللغة العربية من الأعراب وتم تدوينها وتقعيدها، كذلك في هذا العصر ظهر النحويون ووضعوا علوم اللغة من نحو وصرف وغيرها. كما جٌمع الحديث وكتب السيرة وبرز فقهها وعلم الكلام، وبدأت فيه أيضا إرهاصات ترجمة علوم الأوائل مترافقة مع بدء ظهور فلاسفة العرب.

وقد قدم كل هؤلاء اسهاماتهم وانتاجاتهم ليشكل هذا الإنتاج المنوع البنية الثقافية العربية والمرجع الأساسي لهذا العقل العربي الذي بقيَ دائرا منذ ذلك الزمن وحتى اليوم في فلك هذه الثقافة التي تكونت وتشكلت في عصر التدوين.

وهنا يطرح الجابري وجهة نظره، وهي أن العقل العربي كان محكوما بثقافته وتراثه، وهذا التراث متغلغل بشكل كبير بين ثنايا الوعي واللاوعي عند الإنسان العربي. إذن الإنسان العربي متعلق بهذه الدرجة بتراثه، ومن ثم كما يرى الجابري لا يمكن أن يكون حديثنا عن التخلي الكامل عن هذا التراث أو حتى لا يمكن اللجوء إلى عملية إسقاط لهذا العقل العربي مثلا في سياق حضاري آخر ومختلف عنه بشكل كامل.

ولذلك فالطريق الأمثل كما يرى الجابري تكون بإقامة علاقة صحيحة ما بين العقل العربي وهذا التراث، وهذا الأمر يكون بإعادة قراءة هذا التراث من واقع سياقه الزمني، والظرفي، والمكاني، قراءة نقدية موضوعية، وستعمل هذه القراءة على تنقية هذا التراث من كل الشوائب والأساطير والمرويات وكل ما يوجد به من مسبقات ثابتة كي نستطيع بعد ذلك أن نستخرج من هذا التراث ما يصلح مثلا لزمن وعصر اليوم.

وانطلاقا من هنا يبدأ الجابري بتحليل الخارطة المعرفية التراثية المكونة والمشكلة لبنية العقل العربي، وذلك بعد دراسة مكثفة ليتوصل الجابري بأن الجابري محكوم بثلاثة بني وأنظمة معرفية وهي التي شرحناها من قبل.

وقد انتقد طرابيشي مشروع الجابري، فيما سماه " نقد نقد العقل العربي "،  حيث يرى فيه أن كل مشروع الجابري يقوم في نقد العقل العربي على اصطناع قطيعة معرفية " بين فكر المشرق والمغرب، وعلى التمييز بين " مدرسة مشرقية إشراقية " و " مدرسة مغربية برهانية "، وعلى التوكيد على أن رواد " المشروع الثقافي الأندلسي – المغربي " – ابن حزم وابن طفيل وابن رشد وابن مضاء القرطبي والشاطبي –تحركوا جميعهم في اتجاه واحد "، هو اتجاه رد بضاعة المشرق إلى المشرق "، و" الكف عن تقليد المشارقة " و " تأسيس ثقافة أصيلة مستقلة عن ثقافة أهل المشرق ".

وكتاب " نقد نقد العقل العربي " لطرابيشي يتصدى لتفكيك تلك " الأبستمولوجيا الجغرافية " ؛ من منطلق التوكيد على وحدة بنية العقل العربي الإسلامي، ووحدة النظام المعرفي الذي ينتمي إليه، بجناحيه المشرقي والمغربي، ووحدة المركز الذي تفرعت عنه دوائره المحيطة. فلا التحول من دائرة البيان إلى دائرة العرفان أو دائرة البرهان، يعني انعتاقًا من جاذبية نقطة المركز، ولا التنقل بين الخانات يمكن أن يُشكل خروجًا عن رقعة شطرنج العقل العربي الإسلامي، الذي يبقى يصدر عن نظام أبستمي واحد، مهما تمايزت عبقريات الأشخاص، وعبقريات الأماكن.. وللحديث بقية!!

***

أ. د. محمود محمد علي – كاتب مصري

.....................

المراجع

1- كتابات الجابري الأربعة: تكوين العقل العربي، وبنيته، والعقل السياسي والأخلاقي، نشرة مركز دراسات الوحدة العربية.

2- قناة يوسف حسين: ملخص عن مشروع محمد محمد عابد الجابري النقدي حول تكوين وبنية العقل العربي.. يوتيوب.

3- قناة بلقيس الثقافية:  فصول | الجابري ومشروع نقد العقل العربي.. يوتيوب.

في المثقف اليوم