أقلام حرة

محاصصة حتى في الفساد المالي والإداري

 وقد جاءت هذه الخطوة العظيمة التي تدل على هيمنة فلسفة المحاصصة على كل مفاصل العمل الحكومي العراقي لتؤكد التزام الكتل السياسية بمبدأ المحاصصة البغيض بشكل يعرقل سن القوانين وتطبيقها والعمل بها مهما كانت أهميتها للوطن المنكوب والمواطن المقهور.

إن الدول التي سبقتنا في تطبيق سياسة المحاصصة دفعت الثمن غاليا ولا زالت بعضها تدفع حتى هذه الساعة فلبنان هذا البلد العربي الصغير وبسبب تنوع المكونات فيه وبعد حرب عام 1975 الأهلية المريرة التي طحنت البلاد والعباد لجأ إلى سياسة المحاصصة المتخلفة الفاشلة التي كان العمل بها جاريا بالفعل قبل ذلك بشكل محدود فعملت على ترسيخ الفئوية و الأنوية و المناطقية بشكل بدت عليه لبنان مع صغر مساحتها وكأنها مجموعة دول داخل دولة تسعى كل منها لبناء أمجادها الشخصانية ويسعى قادتها لبناء أمجادهم الزائفة على حساب الوطن المهدد بالخراب والدمار.

أما جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق التي تحررت بعد انهياره فقد مارست المحاصصة بأشكال أخرى قادتها في النهاية إلى التفتت وانفصال أجزاء جديدة لتكون جمهوريات عرقية جديدة مرشحة هي الأخرى للتقسيم والتفتيت لأنها بنيت على أسس مخطوءة وغير سليمة.

الغريب أن أهلنا في العراق لم يتعضوا بتجارب الآخرين الفاشلة وجربوا القيام بتطبيق المحاصصة دون النظر إلى ما خلفته من دمار وخراب في البلدان القريبة الأخرى ناسين ومتناسين المقولة الخالدة (خيركم من أتعض بخطأ غيرة) ليثبتوا عدم اتعاضهم وجهلهم بأهمية الموعضة، بما يدلل على جهلهم بعواقب الأمور التي تبنى على خطأ والتي لا تفضي إلا إلى الخطأ.

وإذا كانت الدول الأخرى قد مارست المحاصصة في المناصب والمراكز بشكل محدود ومقنن فإن أهلنا في العراق يريدون ممارستها في كل شيء متاح حتى في تطبيق القوانين النافذة فلا يجوز مسائلة وزيرين مفسدين من مكون واحد أو قائمة واحدة بالتتابع لأن ذلك يخل بمبدأ المحاصصة المقدس، لذا صرف البرلمانيون جهدا مضاعفا ووقتا طويلا وتقاضوا مقابل ذلك رواتب مليونية ومخصصات أسطورية  لكي يتوصلوا إلى الصيغة التوافقية العجيبة التي تنص على أنه لا يجوز استجواب وزيرين من مكون واحد في أوقات متقاربة بل يجب أن تكون هناك فواصل يسائل خلالها وزراء من المكونات الأخرى.

فهل سمعتم أو قرأتم عن مهزلة أكبر من هذه المهزلة في التاريخ كله؟

 وإذا كانت دورة مجلس النواب الموقر ستنتهي خلال الأشهر الثلاثة القادمة فمتى سيضعون جداول الاستجواب الخاضعة لمبدأ المحاصصة وهناك المئات من المفسدين الذين ثبتت عليهم الجريمة بما لا يقبل مجالا للشك؟

وهل يعني ذلك أن قضايا الفساد المشهورة والمعروفة والمشخصة سوف ترحل إلى الدورة القادمة لنعيش سنوات جديدة في أفياء عدالة المحاصصة المهزلة ويستمر مجلس النواب المرتقب بالبحث عن أسس توافقية لاستجواب المفسدين وترك متابعة دراسة القوانين المقترحة المعروضة أمامه بالعشرات كما هي الحالة في الدورة الحالية؟

 ومن يضمن أن المفسدين الذين سرقوا أموال العراق وسعادته وفرص تقدمه وسلامه وأمنه سوف يبقون في العراق بعد انتهاء مهامهم ، وكل منهم يحمل جنسيتين أو أكثر؟

وهل يعني ذلك أن المليارات المسروقة ستضيع في ظلال المحاصصة ليتنعم بها الوزراء المفسدون في الدول الأخرى بينما يعيش العراقيون حياة الكفاف بل أقل من ذلك؟

إننا مقبلون على دورة برلمانية جديدة وهي فرصة ثمينة لكي نتخلى  عن التجارب الفاشلة التي مارسناها خلال المرحلة السابقة ومنها موضوع المحاصصة الذي جلب لنا مجموعة من المفسدين والمخربين والجهلة والعملاء بدل أن يجلب لنا المهنيين و الاختصاصيين الذين لهم قدرة إصلاح الخراب المستشري سواء منه ما أحدثته المحاصصة نفسها أو الإرهاب والتخريب المتعمد أو الذي ورثناه من الحقب الشمولية السابقة.

إننا نقف اليوم أمام خيار صعب ونملك قدرة اتخاذ القرار الصحيح والاختيار الأصح الذي يعيد للعراق هيبته ورصانته ويساهم في تقدمه وبنائه وإسعاد أهله بكل مكوناتهم وأصولهم،  لكن هل نملك حقا نوايا صحيحة وسليمة وجريئة لاتخاذ مثل هذه الخطوات أم أن أخطاء الماضي سترافق مسيرتنا القادمة خلال السنوات الأربع المنتظرة لنبقى ندور في نفس الحلقة المفرغة دون أن نتقدم ولو خطوة واحدة؟

 ومن يملك الجرأة والمصداقية ليعترض على الأخطاء الفادحة التي رافقت المسيرة في السنوات الأربع الماضية، وهل سيجد هذا المعترض دعما من الكتل السياسية التي وجدت مصلحتها في المحاصصة أم أنها ستعترض عليه وتعرقل مسعاه لأن ذلك يضر بمصالحها الفئوية التي هي عندها أقدس من الوطن وأهله؟

............................

الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (العدد: 1163 الاربعاء 09/09/2009)

 

 

في المثقف اليوم